محمد خوان يتحادث مع رئيس الوفد الإيراني    هذه توجيهات الرئيس للحكومة الجديدة    النفقان الأرضيان يوضعان حيز الخدمة    رواد الأعمال الشباب محور يوم دراسي    توقيع 5 مذكرات تفاهم في مجال التكوين والبناء    الصحراء الغربية والريف آخر مستعمرتين في إفريقيا    مشاهد مرعبة من قلب جحيم غزّة    وفاق سطيف يرتقي إلى المركز الخامس    على فرنسا الاعتراف بجرائمها منذ 1830    الابتلاء المفاجئ اختبار للصبر    الخضر أبطال إفريقيا    ضرورة التعريف بالقضية الصحراوية والمرافعة عن الحقوق المشروعة    300 مليار دولار لمواجهة تداعيات تغيّر المناخ    فلسطينيو شمال القطاع يكافحون من أجل البقاء    بوريل يدعو من بيروت لوقف فوري للإطلاق النار    "طوفان الأقصى" ساق الاحتلال إلى المحاكم الدولية    وكالة جديدة للقرض الشعبي الجزائري بوهران    الجزائر أول قوة اقتصادية في إفريقيا نهاية 2030    مازة يسجل سادس أهدافه مع هيرتا برلين    وداع تاريخي للراحل رشيد مخلوفي في سانت إيتيان    المنتخب الوطني العسكري يتوَّج بالذهب    كرة القدم/كان-2024 للسيدات (الجزائر): "القرعة كانت مناسبة"    الكاياك/الكانوي والبارا-كانوي - البطولة العربية 2024: تتويج الجزائر باللقب العربي    مجلس الأمة يشارك في الجمعية البرلمانية لحلف الناتو    المهرجان الثقافي الدولي للكتاب والأدب والشعر بورقلة: إبراز دور الوسائط الرقمية في تطوير أدب الطفل    ندوات لتقييم التحول الرقمي في قطاع التربية    الرياضة جزء أساسي في علاج المرض    دورات تكوينية للاستفادة من تمويل "نازدا"    هلاك شخص ومصابان في حادثي مرور    باكستان والجزائر تتألقان    تشكيليّو "جمعية الفنون الجميلة" أوّل الضيوف    قافلة الذاكرة تحطّ بولاية البليدة    على درب الحياة بالحلو والمرّ    سقوط طفل من الطابق الرابع لعمارة    شرطة القرارة تحسّس    رئيس الجمهورية يوقع على قانون المالية لسنة 2025    يرى بأن المنتخب الوطني بحاجة لأصحاب الخبرة : بيتكوفيتش يحدد مصير حاج موسى وبوعناني مع "الخضر".. !    غرس 70 شجرة رمزياً في العاصمة    تمتد إلى غاية 25 ديسمبر.. تسجيلات امتحاني شهادتي التعليم المتوسط والبكالوريا تنطلق هذا الثلاثاء    مشروع القانون الجديد للسوق المالي قيد الدراسة    اختتام الطبعة ال14 للمهرجان الدولي للمنمنمات وفن الزخرفة : تتويج الفائزين وتكريم لجنة التحكيم وضيفة الشرف    صليحة نعيجة تعرض ديوانها الشعري أنوريكسيا    حوادث المرور: وفاة 2894 شخصا عبر الوطن خلال التسعة اشهر الاولى من 2024    تركيب كواشف الغاز بولايتي ورقلة وتوقرت    تبسة: افتتاح الطبعة الثالثة من الأيام السينمائية الوطنية للفيلم القصير "سيني تيفاست"    "ترقية حقوق المرأة الريفية" محور يوم دراسي    القرض الشعبي الجزائري يفتتح وكالة جديدة له بوادي تليلات (وهران)        مذكرتي الاعتقال بحق مسؤولين صهيونيين: بوليفيا تدعو إلى الالتزام بقرار المحكمة الجنائية    مولوجي ترافق الفرق المختصة    قرعة استثنائية للحج    حادث مرور خطير بأولاد عاشور    وزارة الداخلية: إطلاق حملة وطنية تحسيسية لمرافقة عملية تثبيت كواشف أحادي أكسيد الكربون    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من نقمة الاحتلال إلى نعمة الاستقلال

لن أغوص في موضوعي هذا بعمق في مراحل وتطور النظام السياسي، وطبيعة الحكم في بلادنا، وأكتفي بذكر الجوانب المتعلقة بالمكتسبات التي جاءت مع الاستقلال وأثرها على الإنسان الجزائري، مع ذكر بعض المحطات التاريخية الهامة التي تفسر الحاضر، وكذا بعض الجوانب التي يمكن أن تستوقفنا في غضون ستين سنة من الاستقلال، ومهما تعدّدت وجهات النظر وأصدرت الأحكام على هذه الستة عقود في ظل السيادة الوطنية، الأكيد أنّ كل الذين تعاقبوا على الحكم عملوا بإخلاص وتفان، لا شيء حركهم إلا حبهم لوطنهم من أجل أن تحيا الجزائر حرة مستقلة، ورفع الغبن على هذا الشعب وتحسين ظروف معيشته في كنف الحرية والاستقلال بعد 132 سنة من القهر و الاستغلال. ويبقى الخطأ إنساني فمن لا يعمل لا يخطئ المهم أن جميعهم سعوا دون استثناء لبناء دولة لا تزول بزوال الرجال "فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا"، وها هي الجزائر اليوم واقفة وشامخة بمؤسساتها وبعنفوانها وكبريائها رغم العواصف والمحن.
الحديث عن السيادة الوطنية لا يقتصر مفهومه في مرحلة ما بعد الاستقلال على كونها مجرد استقلال للوطن برقعته وحدود أرضه وحرية الإنسان، وكذا عدم التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية لأي بلد، فالبلدان التي لم تعرف وطأة الاستعمار لا يمكنها أن تتمعن في هذا المفهوم، وتعيه بطريقة أو إحساس شعب بلد ذاق مرارة السيادة المسلوبة والقهر والحرمان، فاسترد كرامته بأثمان باهظة وتضحيات جسام. لذلك فإن للدّلالة التاريخية وقعها المباشرعلى هذا المفهوم المتصل بالسيادة.
الدّلالة التّاريخية للسّيادة الوطنية
لقد خاض الشّعب الجزائري ثورة ستبقى رمزيتها مكتوبة بأحرف من ذهب في صفحات التاريخ المعاصر، ليس لنا فحسب بل للإنسانية قاطبة. الشعب الجزائري بأغلبيته الساحقة كان مدعما لجيش التحريرالوطني وجبهته، وخرج منتصرا أمام أكبر قوة عسكرية عاتية فرنسا وحلفائها. لقد عاش شعبنا الفظائع الاستعمارية بكل ألوانها من الإعدام وإجراءات التعذيب والتجارب النووية إلى أبشع صور المآسي والتشريد، كل هذه الآلام راسخة في الذاكرة الجماعية للشعب الجزائري، وتتهيج أكثر كلما عادت إلينا المناسبات الوطنية المتصلة بالثورة.
نخوض في عمق الحقبة الاستعمارية وكيفية إقدام الشعب الجزائري على استرجاع سيادته واستعداده للدفاع عن الوطن وتحرير، وإجبار المستعمر للخضوع للأمر الواقع عندما سبقت هذه الانتفاضة المسلحة أحداث دامية بعد أن يئس الجزائريون من الوعود المتكررة والكاذبة. وكان ذلك غداة ميثاق سان فرانسيسكو لإنهاء الاستعمار مقابل مطلبه الطبيعي والعادل بمجازر 8 ماي 1945 عقب انتصار الحلفاء على النازية، حينها أدرك الشعب الجزائري أنّ الاستعمار ماض في سياساته القمعية والدامية، ولغة الحوار لم تعد تجدي مع هذا الظالم الغاصب.
بطبيعة الحال إنّ نشأة الحركة الوطنية يطول الحديث عنها في مقال، بدءا بالأمير خالد عام 1919 ومحاولته مع الرئيس الأمريكي ويلسن بالمذكرة الداعية لحق الشعوب في تقرير المصير إلى غاية 1926 مع نجم شمال إفريقيا ومصالي الحاج إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مع العلامة عبد الحميد بن باديس وصولا إلى حزب الشعب وحركة انتصار الحريات الديمقراطية وحركة أحباب البيان والحرية مع فرحات عباس ومجموعة النخبة، كلهم سعوا بكل الطرق كل بأسلوبه وبإمكانيته الأدبية الخاصة إيصال صوت الشعب والتعريف بقضيته العادلة، لكن الجهة الأخرى كانت متزمّتة وقابلت كل هؤلاء بالرفض والسجن إلى التعذيب والقتل.
إلى أن قُرّر العودة للغة الكفاح المسلح لحسم قضيته، والرجوع إلى المقاومة كما بدأها الأسلاف الأمير عبد القادر والمقراني واولاد سيدي الشيخ والزعاطشة وفاطمة لالة نسومر والقائمة طويلة. وبدأت الحركة الوطنية ترمي الخلافات جانبا، فبعد المنظمة الخاصة واللجنة الثورية للوحدة والعمل ودورها في الأزمة الداخلية لحركة انتصار الحريات الديمقراطية "بين المصاليين والمركزيين"، تكوّنت مجموعة 22 انبثقت منها مجموعة الستة، وجاء تحرير بيان أول نوفمبر 1954 كوثيقة وخارطة الطريق لملامح بناء الدولة الجزائرية المعاصرة، فمن جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني إلى هيكلة الثورة بعد مؤتمر الصومام 20 أوت 1956 أفضى إلى تقسيم المناطق والولايات التاريخية الستة بقاداتها، وتنظيم جيش التحرير وتسليحه وتجهيزه بالوسائل الاتصالية، وكان لوزارة التسلح والاتصالات العامة دور فعّال في ذلك.
حينها أعلن جاك سوستال، عند وصوله بصفة الحاكم الجديد للجزائر العاصمة، أن فرنسا حددت خيارها، وسمى هذا الاختيار "الاندماج"، مشددا على التغييرات الهامة التي فرضها ميدان الحرب على المسؤولين الفرنسيين، والتي امتدت إلى جميع التراب الجزائري. فمن مشروع الاستيعاب إلى مشروع الاندماج، تشبث الجزائريون بحريتهم رافضين كل العروض الميؤوس منها لهدف واحد وفريد هو تحريرالبلاد من الاستعمار. الشعب يريد استعادة سيادته وبناء دولته.
من جهته ومدركا لتسارع الأحداث، أوضح ميشال دوبريه في عام 1956، بكل إحساس الرهانات مؤكّدا بأنّ "مصير فرنسا في الجزائر أغلق وحسم". لقد غدت ثورة نوفمبر 54 نموذجا بارزا بالتأكيد، من خلال تنظيمها وانضباطها وفعاليتها، ولكنها أصبحت أيضا نموذجا للتضحية اللامتناهية التي أظهرها الشعب. فإيمان وغضب الجزائريين وصل ذروته أمام بشاعة الاستعمار الدميم.
يقال إنّ كل الحروب قذرة، ولكن ما هو أقذر فيها أسماء من المجرمين من ذوي السمعة السيئة، وجلّادين بلا منازع أو وحوش بشرية ارتبطت أسماؤهم بهذه الحرب. أوساراس، بيجار، بابون، لوبان...وشارل دوغول نفسه الذي جاء بأعتى الأسلحة التدميرية وبالمقصلة لقطع الرؤوس، وقبلهم بيجو، كافينياك وسانأرنو، كانروبار، بيليسييه وغيرهم، لقد أضافوا إلى قذارة هذه الحرب الكراهية والحقد وعدم اعتبار للإنسان. فبعضهم بالتأكيد انتهى بهم الأمر بالاعتراف باقترافهم لفعلهم الشنيع في غسق حياة ملطخة وغارقة بدماء الأبرياء، وآخر يستمر في الإنكار، ومنهم أوسارييس، عرضوا منذ سنوات وقاحتهم كتابة وكلاما لأجل الاعتذار للجريمة المقترفة. فلا يوجد أي فخر نستخلصه من الجريمة والتعذيب أي كان شكلهما.
من الحرق إلى الخنق بالغاز، والتغريق في الماء، واستعمال كل ما يمس بالكرامة الانسانية والتعذيب هو شيء دنيء تشمئز له القلوب، يخفض من قيمة فاعليه من الجناة، ويمسخهم فيما اقترفوه من وحشية. ولكن فظاعة الحرب لا تتوقف عند تعذيب أشخاص بل تمتد إلى أعداد كبيرة من الأبرياء. في هذا السياق، فإنّ الكاتب لورانشو ارتز تطرّق إلى التعذيب في مؤلفه "مشكلة التعذيب في فرنسا اليوم"، وهكذا في عام 1959، ذكر تقرير رسمي أنّ مليون من الجزائريين جمعوا في مراكز الاعتقال.
حتى ميشال روكار، عندما كان طالبا بالمدرسة الوطنية للإدارة، ذكر عدد "مليونين من الجزائريين كانوا محتجزين بمراكز الاعتقال". ومنهم من يموتون بطرق أخرى. 40000 من بينهم كانوا ضحايا الألغام المضادة للأشخاص، وهناك 80000 أصيبوا بعجز دائم جرّاء هذه الألغام. الاعتقال دون محاكمة أصبح شيئا شائعا، كانت الإقامة الجبرية للمناضلين والتنقيل الجماعي والاعتقال تحت التحكيم. الكثير من الظلم والترهيب، كل هذا زاد من عزيمة وإيمان الشعب والتفافه حول قضيته، في الكفاح المسلح حتى التحرير الكامل والتام للبلاد.
ولقد استخدمت فرنسا كافة الوسائل والحيل لتزييف الحقائق، ولكن لا يمكن إسكات وطمس القضايا العادلة، خاصة عندما تكون نبيلة من شعب مسالم، وبعد حرب ثورية انبثقت الحكومات المؤقتة الثلاث لتأتي مظاهرات 11 ديسمبر 1960 واتفاقيات إيفيان، وردود فعل المستعمرين من الأقدام السوداء وجرائم المنظمة العسكرية السرية ثم الاستقلال.
هل فعلا محيت آثار الاحتلال الفرنسي بعد الاستقلال؟
لم يكن ما ذكر سوى عينات من معاناة الشعب الجزائري على عجالة من دون الخوض المفصل في جزئيات الموضوع في ملحمة استرجاع السيادة الوطنية، الجرح ليس ماديا فحسب ولا يمكن على امتداد ستة عقود أن نرى تلاشي هذه الآثار السيكولوجية النفسية التي مست الإنسان في عمق وجدانه، فالذاكرة الجماعية تأبى أن تنسى هذه الجرائم الانسانية بمجرد الرفاهة والعيش الرغيد في نعمة الاستقلال. أكيد أنّ الجزائر عملت جاهدة على محو هذه الآثار التي خلفها الاستعمار طيلة 132 سنة من التواجد بتوفير كل الوسائل والامكانات من البنى التحتية والمنشآت الضخمة والمدارس والمستشفيات والجامعات، وإعادة بعث عناصر الهوية الوطنية للإحساس بالانتماء للوطن، ومنها بناء دولة مؤسساتية تضمن للإنسان الجزائري كرامته وحريته.
فجزائر ما بعد الاستقلال تفرق بسنوات ضوئية ما كانت عليه إبان الاستعمار شيئا فشيئا تبدأ الجزائر بوضع النظام السياسي الذي رأت بأنه صالحا ومناسبا لتعدي مرحلة الثورة التحريرية مهما كانت الاختلافات، نحو ثورة البناء والتشييد، فالكثير يعتقد بأنها كلمات من لغة الخشب التي كانت تستعمل لتخدير الشعب المتحمس لبناء دولته في إطار سيادته المكتسبة والمنتزعة، لكن الحقيقة أنّها كانت فعلا تحتاج لسنوات وعقود لتصليح ما حطمه الاستعمار، الذي ترك حصيلة كارثية منذ وطأته هذه الأرض الطاهرة بانعدام البنى التحتية والمرافق والهياكل القاعدية، فما عدا بعض الواجهات والسكنات التي جعلوها لأنفسهم كونهم كان يعتقدون الخلود بالجزائر بينما زجّ بالجزائريين في الدهاليز، ومن صحّت له بناية جماعية قد يكونوا من المحظوظين بينما معظمهم سكنوا الأكواخ والمقصورات القديمة. وفي غياب التأطير لعدم وجود مؤهّلين متخرّجين من معاهد وجامعات، وتهريب رأس المال الذي كان جله منهوبا والالتزام إلا ببعض بنود اتفاقيات إيفيان الضئيلة وعديمة الفائدة جعل المهمة جد صعبة.
تخرج الجزائر من ويلات حرب تحريرية كبيرة وطاحنة نحو فجر الاستقلال منهكة ومتعبة لتجد أمامها تحديات أكبر بنسبة أمية فاقت 90 بالمائة عند مغادرة الاداريين الفرنسيين، وغيرهم من الأقدام السوداء المناصب الحساسة والهامة، والذين كانوا يتولونها دون الجزائريين (الأهالي)، الذين تعطى لهم الأعمال الشاقة المتعبة وزهيدة الأجرة، لتجد إدارات مهجورة وفارغة، وأمام هذا التحدي وجد شعب دون تكوين ودون تأهيل نفسه يواجه المجهول، فكانت البدايات لبعض التقنيين الثانويين الذين تطوعوا للمرافق الطاقوية والبث التلفزيوني، الذي كان واجهة هذه السيادة على العالم الخارجي والداخلي أيضا. وبعض من الممارسين في شبه الطبي لأخد زمام الأمور، وهكذا في كل المجالات أستنجد بهؤلاء لسد الثغرة المفتعلة من طرف الاستعمار نكاية، والذي كان يراهن على فشل الثورة بعد الاستقلال، من هنا عندما أثبت الجزائريون قدرتهم بالرغم من محدودية تعليمهم أنهم قادرون على رفع التحدي، فكانت أولى ملامح السيادة الوطنية في جزائر ما بعد الاستقلال.
كما لا ننسى الأضرار الاجتماعية أو الآثار السوسيولوجية التي خلفها الاستعمار، إذ لا يخلو بيت جزائري من فقدان شهيد من الأصول أو الأقارب والأرامل والأيتام، كل هذه الفئات من الشعب المتضرر معنويا، فالكثير منهم لا يزالون أحياء بيننا، وقد سعت الدولة الجزائرية للتخفيف من حدة هذه الآثار من خلال مساعدتهم عن طريق منظمات أبناء الشهداء وأبناء المجاهدين، وحاولت قدر الاستطاعة التكفل بهم، لكن الصورة أبشع أن تمحى هكذا، والكثير من هذه الحقائق أراد الاستعمار طمسها أثناء وجوده.
مصادرة الجرائم من طرف الاستعمار؟
كان ذلك من خلال مصادرة الوقائع الحقيقية التي تبين بشاعة هذه الآثار، فالصور الموجودة في الأرشيف لم تستطع إطلاقا إخفاء أو طمس الواقع، والكتابات المتعددة والتي لا تعد ولا تحصى من الصحف والكتب لم تعد مجدية. أكثرمن 586 صحيفة ومجلات دورية و269 في المتروبول تمت مصادرتها حسب المؤرخ الأمريكي هاريسون. على مدى فترة ومدة الحرب، كان هناك 44 مصادرة سنويا في الجزائر و60 في المتربول كما كشف عنه بن يامين ستورا، في حين أن في سنة 1960 وحدها سجل أكثر من 154 مصادرة، وفي 1961 أكثر من 127 منها أيضا.
فالمؤلفات مثل "السؤال"، "الأكالة"، "نورمبرغ للجزائر"، "موت إخواني"، لم تظهر إلا في وقت متأخر جدا بينما ضربت الرقابة أفلاما مثل "الجزائر في النيران" لفوتييه، و«التماثيل تموت أيضا" لآلان رينيه و«مورياي أو وقت العودة"، أو حتى "عندي ثماني سنوات" الدراما النفسية ليانلو ماسونو التي جسدها أطفال جزائريون في رسوماتهم.
في مناخ حرب تميزت بالعنف، العاطفة والمأساة، الكثير من الحكومات استقالت. وانطلاقا من خطاب الجنرال ديغول حول تقريرالمصير الذي ألقاه من 16 سبتمبر 1959 بدأ التلفزيون في برنامجه "خمسة أعمدة في الأولى" التطرق إلى حرب الجزائر.
ولكن الصورالحقيقية للحرب بثت في الولايات المتحدة من قبل فوكسموفيتون، الذي سيرى لاحقا في الفيلم الوثائقي للأنجليزي بيترباتي "حرب الجزائر" أو السنوات الجزائرية الذي بث في عام 1991، كفيلم وثائقي فرنسي.
وهنا يجب التنويه في نفس السياق، إلى أنه هناك ترويج قد يكون متعمدا في النسخة الفرنسية لفيلم معركة الجزائر إنتبهت إليه أنا شخصيا وأنا أعاود مشاهدته في اللقطات الأخيرة قبل شريط النهاية يفصح فيه الراوي باللغة الفرنسية أن الأمة الجزائرية نشأت مع 02 جويلية.1962
)( et le 02 juillet 1962 avec l'indépendance naquit la Nation Algérienne
هذا الفيلم الكثير الرواج يشوّه حقيقة الأمة الجزائرية المتعددة الألفية بهذه المغالطة التاريخية المقصودة والعبارة المسمومة المندسة التي لم ينتبه إلى مغزاها أحدنا في هذه النقطة بالذات، يبدو الأمر في ظاهره سذاجة روائية، ولكن عندما استمعنا لتصريحات ماكرون حول الأمة الجزائرية والكثير من رجالات السياسة الفرنسية نستيقن هذا التزييف الوارد والمتعمد. والمطلوب من وزارة الثقافة قطع هذا المحتوى في النسخ الموجودة والمتاحة لديها لأن هذا الفيلم بالذات ستظل تشاهده الأجيال والأجيال كونه يعكس إلى حد كبير مظاهر تلكم الفترة بإخراجه المتميز التي تقرب المشاهد من الواقع.
كما نتذكّر رد مولود قاسم نايت بلقاسم الرجل الموسوعة الأمازيغي، الذي دافع عن التعريب والهوية الذي كان يسميها الإنيّة إلى النخاع عندما كان وزيرا للتعليم، على الرئيس فاليري جيسكار ديستان عندما قام بزيارة الجزائر في 10 أفريل 1975 في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، واعتبر ما صرح به الرئيس الفرنسي إهانة للجزائر عندما قال "إنّ فرنسا التاريخية تحييي الجزائرالمستقلة". والحديث موثوق بصوت الراحل نايت بلقاسم في 1984 باليوتوب يستخلص فيه خبث هذه العبارة التي تريد تقزيم الجزائر في تاريخ وجودها، وتعطي لفرنسا الرفعة والمكانة التاريخية، وسرعان ما ألف كتاب "شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية قبل سنة 1830" عندما كانت فرنسا تموت جوعا، وتتلقى المؤونة والغوث من الجزائر إلى جانب أسطولها الذي بسط سطوته على البحر الأبيض المتوسط، ليسكت به المتطاولين الذين يقصدون ما يقولون خاصة الحكام منهم. أما اليوم في عهد الجزائر الجديدة فإننا نلاحظ لهجة صارمة من طرف السلطات العليا للبلاد، جعلت من مثل هذه التصريحات مهما كان مصدرها خطا أحمر لا يسمح بتجاوزه، وأصبحت سياسة التعامل بالمثل بمثابة العرف الديبلوماسي المنتهج، والتخلي عن الديبلوماسية المجامالاتية.
محاولات طمس الهويّة وتصدّي الأهالي
منذ وطأته عمل الاستعمار بكل ما أوتي من جهد على تحطيم البنية التعليمية للجزائر، وحوربت اللغة العربية عن طريق حرق وتدمير الكتاتيب ونص قانون شوطان لسنة 1838، الذي يقر بأن اللغة الفرنسية أصبحت اللغة الوحيدة والرسمية للجزائر، كما قامت بتحويل المساجد إلى كنائس وإلى محاولة تنصير الشعب الجزائري، وبدأت عملية التبشير على يد بعض رجال الدين الفرنسيين، ومنهم شارل دو فوكو الذي وجه بإيعاز من الادارة الاستعمارية إلى الجنوب الجزائري للتأثير على سكان الصحراء، والتي كانت ترى فيها فرنسا نافذة لمد سطوتها في عمق إفريقيا، لكنها فوجئت بمقاومة وصد أهالي هذه المناطق، الذين كانوا متشبثين بتعاليم وقيم الدين الإسلامي الحنيف وعمق العقيدة عند التوارق أفشل كل مخططاتهم لأن عملية التبشير عند هؤلاء هي عملية عسكرية ملثمة يدخلون من باب الإغراء المادي، وتقديم المساعدات والإسعافات ليستعطفوا سكان هذه المناطق، وفي الأخير يستولون على خيراتهم وفي حالة عدم جدوى هذه الطريقة يظهرون الوجه الآخر للعملة. هذه باختصار عملية التبشير أو التنصير، أما النصرانية فهي ديانة لا دخل لها في هذه الأمور كما هو الحال لليهودية وكذلك الاسلام.
عندما دخل الإسلام على يد الفاتحين بقيادة عقبة بن نافع، وبعده أبي مهاجر دينار قبل ما يقارب 14 قرنا بني أول مسجد بميلة بالجزائر على يد الصحابي "أبو المهاجر دينار" أبو مهاجر دينار سنة 59 للهجرة. تحول هذا المسجد الذي سمي بعد ذلك بمسجد سيدي غانم إلى ثكنة عسكرية فرنسية، ومازالت آثاره إلى يومنا هذا كمعلم للترات المادي بالرغم من محاولة جيش الاحتلال الفرنسي هدمه.
كما أنّنا لن نخوض أيضا في كيفية انتشار الإسلام والمذاهب من مالكية وحنفية وغيرها، ومدى توسّعه وتمكّنه خاصة في الفترة ما قبل الاستعمار الفرنسي وإبان الحكم العثماني. وكذا الصراعات بين السنة والشيعة، لكن الشيء الذي يهمنا هو أن توافد السكان الأصليين الأمازيغ للدخول إلى الإسلام كان بسرعة كبيرة ومعروف عن الأمازيغ جديتهم، فبعد نشوب حروب المواجهة الأولى أشهرها كانت ضد جيش كسيلة أين استشهد عقبة بن نافع، احتضنوا الإسلام أيما احتضان لما رأوا فيه من سلوكات تتماشى وطباعهم من الشجاعة والرجولة والأمانة وحسن المعاملة، ولما اقتنعوا أنه الدين الحق دخلوا فيه أفواجا أفواجا، لكن بالرغم من أن لغة القرآن هي العربية لم يكن تعريبهم بالشيء الهين، وامتد إلى قرون من بعد فمن الأدارسة إلى الأغالبة بعد سقوط دولة الموحدين وبين مذهب حنفي ومالكي كان الأمازيغ قد تجاوبوا مع هذا الأخير، وأفضى معظمهم إن لم يكن جلهم مالكيين، وأصبحت الجزائر وبلدان المغرب العربي على العموم يتبعون هذا المذهب إلى يومنا هذا.
- شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب - من أبيات شعر العلامة بن باديس الأمازيغي الصنهاجي، الكثير من العلماء والشيوخ الأجلاء ترعرعوا في القبائل الصغرى والكبرى من بجاية إلى تيزي وزو، وكان لهم دور كبير في الحفاظ على الهوية الوطنية بإسلامها وعربيتها وأمازيغيتها أمام محاولات التنصير البائسة للمستعمر الفرنسي عن طريق الآباء البيض بقيادة الكاردينال لافيجري أسقف الجزائر عام 1867، ومن جاء بعده والتي آلت كلها إلى الفشل. أما في يومنا هذا فمازالت المحاولات التنصيرية غير المعتمدة والمرخصة متواصلة، ولكنها لاقت ردعا من السلطات الجزائرية التي تضمن حرية الديانات دستوريا.
وقد لعبت الكتاتيب والمدارس القرآنية وخاصة الزوايا التي كانت تختبئ وراء الطرق الصوفية التي في واجهتها مدح وتهليل، ولكن في جوهرها كانت تعلم القرآن وتعاليم الدين الاسلامي الحنيف. هذا الدور المزدوج ترك بعضها يخرج عن الهدف المنشود من الصوفية الروحانية.
الإسلام يجمع بين الجزائر والدولة العثمانية
المعارك الكبرى لم تكن أبدا تقتصر على بلد ضد بلد آخر، فمنذ معركة نفارين إلى الحروب العالمية الأولى أو الثانية وإلى يومنا هذا كانت التحالفات دائما موجودة، لذلك بالعودة إلى الوراء فإن التحام الدولة العثمانية مع دولة الجزائر والاستنجاد بالأخوين بربروس خير الدين وبابا عروج لمحاربة الاسبان كان أمرا واردا من أجل التصدي للحملات المعادية. ظلت دولة الجزائر كاملة السيادة في تعاملاتها الخارجية، وهذا ما تشهد به الوثائق التاريخية في المعاملات الاقتصادية والمعاهدات مع الدول النافذة آنذاك، كونها أصبحت عمالة عثمانية ابتداء من 1518، إذ سمحت بتعاون عسكري بحت أدى إلى السماح بحكم عثماني وليس وصاية بالمفهوم الذي يروج له بعض الحاقدين، لأنها لم تكن ترسم الحدود بالطريقة التي هي عليها الآن، وكان التداخل والتعاون بين الشعوب والإمارات شائعا آنذاك، وخاصة أن الدولتين تربطهما الديانة الاسلامية. وبالرغم من أن الأتراك مذهبهم هو المذهب الحنفي الذي كان يطبق في كثيرا في الأحكام القضائية، إلا أن الجزائريين بقوا جلهم على مذهبهم المالكي بنسبة تفوق 98 بالمئة.
الجزائر المستقلّة ومعركة البناء والتّشييد
عودة إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، لقد دأبت الجزائر منذ الوهلة الأولى الى انتهاج النموذج الاشتراكي كخيار أظهر عيوبه فيما بعد، ولكن كانت النية موجودة من أجل الرفع من المستوى المعيشي للفرد الجزائري، وتحسين وضعيته الايوائية ببناء السكنات الاجتماعية، كما شيدت القرى النموذجية لتشجيع الفلاحين بالمكوث لخدمة الأرض والانتاج الزراعي والفلاحي، ولتفادي النزوح الريفي إلى المدن. عملت الجزائر على ترقية الوضع الصحي لسكانها ببناء المستوصفات الجوارية، خاصة لتسريع عملية التطعيم ضد الأوبئة، ولعل أكثر شيء كانت بحاجة إليه هو التعليم، فباشرت ببناء الآلاف من المدارس ومئات المعاهد والجامعات مع إجبارية التعليم ومجانيته، ويعد من أعظم الانجازات التي تعبر عن السيادة الوطنية، ثم جاء الدور لتوفير الشغل وفي كثير من الأحيان مع مسكن وظيفي لائق، أبرزها كان في الشركات الوطنية التي كانت ملكا للدولة، وكانت الصناعة التصنيعية قد عرفت بداية مشجعة لكن السياسات التي جاءت بعدها قضت عليها، وكانت فعلا مفخرة الجزائر. وشيئا فشيئا تحسن المستوى المعيشي للفرد الجزائري، الذي بدأ يستطعم نعمة الاستقلال ويستمتع بالحرية.
ولقد راهنت الجزائر على شبابها وعلى شاكلة ما نراه اليوم في المجلس الأعلى للشباب بفتح الأبواب على مصراعيها لهذه الفئة النابضة من خلال المنظمات الجماهرية الشبانية. وهكذا كانت الندوة الوطنية للشباب سنة 1975، التي جمعت طلاب الجامعة ومؤطري الشباب من الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية، وكانت قبل هذا للمجالس البلدية لعام 1967م والمجالس الولائية لعام 1969م أولى مهمات التكفل بانشغالات المواطن الادارية ثم انتخاب المجلس الوطني الشعبي في 1977، وبداية بناء المؤسسة التشريعية التي تمثل الشعب ليمارس من خلالها سلطته.
تحسّن المستوى المعيشي وتغيّر السّلوكات
بعد كل هذا في الثمانينيات، وما أكّدته مؤشّرات النمو والتنمية، ارتفع المستوى المعيشي للمواطن الجزائري إلى أعلى مستوياته ليضاهي ما كانت عليه البلدان المتقدمة، وكان الفرد الجزائري آنذاك يعيش بنفس المستوى الذي كان عليه الفرد الأمريكي، وفي كثير من الأحيان أحسن من الأوروبي، ومع تحسن ظروف المعيشة اندثرت الكثير من الآفات الاجتماعية كالتسول والفقر، بل كانت منعدمة وانعكس ذلك على السلوكات الفردية والجماعية بارتفاع مستوى الوعي والادراك والتعليم وكانت فعلا مرحلة ذهبية، ومرحلة الرقي الاجتماعي وانتشر بناء المساكن الفردية لأن أثمان حديد التسليح والاسمنت ومواد البناء، وكذلك الأراضي كانت بخسة نسبيا. كانت مرحلة عرف فيها الفرد الجزائري شيئا من الانفتاح الثقافي، ولكن مع هذا حملت هذه المرحلة معها أشياء سلبية أبرزها ظاهرة التبذير المفرط لأنّ كل المواد كانت مدعمة من طرف الدولة، وخاصة المواد ذات الاستهلاك الواسع، وبدأ الجانب المادي يؤثر على السلوكيات، كما بلغت ثقافة الاتكال على الدولة ذروتها. كانت الدولة الجزائرية تنظر إلى الشعب بالعاطفة الكبيرة، محاولة منها إفراح وإدخال البسمة والراحة بعد الألم والعناء والغبن الذي عاشه خلال 132 سنة، وكذلك في مرحلة بومدين الذي كان إنسانا متقشفا، والحقيقة أن نظرته كانت حكيمة ومستقبلية لأن ما سيحدث فيما بعد سينصفه.
موازاة مع ذلك انتشار الفكر الاسلامي السلفي، ما اصطلح على تسميته ب "الصّحوة الإسلامية"، وكثيرا ما امتزج بالفكر المتشدد، وكانت تلقى المحاضرات والدروس في المساجد بكثرة تضاهي ملتقيات الفكر الاسلامي الوسطي المعتدل وتزايدت فتاوى مذاهب عقائدية لم تكن بمجتمعنا، وابتعدت عن إطار الفتاوى التي تعودها الجزائريون من المجلس الاسلامي الأعلى، ويضم شيوخا أجلاّء مثل أحمد حماني وعبد الرحمن الجيلالي والشيخ كتو، وكان يترأسه العلامة مولود قاسم نايت بلقاسم، من جهة أخرى وبالرغم من محاولة الدولة بإرساء العدالة الاجتماعية كانت هناك كذلك ثغرات قانونية جعلت من بعض الانتهازيين التمتع ببعض المزايا دون غيرهم لتبرز بعدها بعض الفوارق الاجتماعية لم تستفحل حينها، ولكن ظهرت مباشرة بعد أحداث 5 أكتوبر 1988 عقب الأزمة النفطية العالمية التي ألقت بظلالها على الاقتصاد الجزائري، والذي يعتمد كلية على مداخيل النفط.
دخلت الجزائر في أزمة اقتصادية وسياسية حادة مفاجئة لم تكن في الحسبان، أدّت مباشرة إلى تغيير طبيعة نظام الحكم من الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية التي أقرها دستور 1989. إنّها مرحلة التحولات النظمية بسقوط جدار برلين وتفكيك الاتحاد السوفياتي، وظهور النظام العالمي الجديد أحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
كان هذا الانفتاح على التعددية حاملا لمفاجأة غير سارة للشعب الجزائري، الذي دخل في دوامة استفحل فيها الإرهاب بعد توقيف المسار الانتخابي لعام 1992 جاءت مع استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد، ودخول البلاد في فراغ سياسي، حينها تصاعد العنف الذي أتى على كل أخضر ويابس، فلم يسلم لا حجر ولا بشر قرابة 200000 من الأبرياء قضوا في هذه المأساة وخسارة بمليارات الدولارات، فتوالت الصدمات النفسية وانعدمت الثقة بين الأشخاص بل في نفس الأسرة الواحدة. لم تكن مجرد أزمة بل كانت فتنة بكل ما تحمله الكلمة من معنى حرقت المصانع، وبلغ صوت الرصاص ربوع الوطن لقد تروع الشعب الجزائري. إنها مؤامرة خارجية لا محالة، وبالرغم من المآسي خرجت الجزائر منها سالمة، فكانت بوادر هذه المؤامرة جلية في الحصار الذي ضرب على الجزائر من أجل إركاعها.
الأزمات المتكررة للجزائر في غضون العشرية السوداء وتدني الاقتصاد إلى الحضيض، ونفاد المال من الخزينة العمومية، جعل الجزائر تلجأ الى صندوق النقدي الدولي الذي فرض شروطه، ولعل أشدها تسريح العمال من المصانع ليعود الحال إلى نقطة البداية، ومع إعادة الهيكلة بدأت الجزائر تتجه رويدا رويدا من الاقتصاد الموجه نحو اقتصاد السوق، وتوالت المراحل الانتقالية سياسيا واقتصاديا. لقد تفشى حينها الفقر، وظهرت معه كل الآفات الاجتماعية التي لا يمكن أن يتصورها العقل أبدا، كما انعدم الأمن والاستقرار.
في الضفة المقابلة من المتوسط ارتفعت أصوات التشفي وحوصرت الجزائر إقتصاديا ودبلوماسيا وأريد تشويه صورتها في العالم بتزييف الحقائق كونها كانت الضحية بينما تسوق على أنها دولة غير آمنة، وعرفت هذه الفترة هجرة الأدمغة وغاب الاستثمار الخارجي. عندها عرف الشعب الجزائري بأنّ أعداء الأمس لم يتجرّعوا ضياع الجنة المفقودة. وكان سيحدث للجزائر بالضبط كما حدث لسوريا وليبيا والعراق اليوم، وبالرغم من أنّ الخسائر البشرية والمادية كانت جسيمة إلاّ أنّ خيوط المؤامرة كُشفت. وكان الإرهاب وقتها قد استفحل وضرب بقوة، وهنا يجب أن نقف وقفة إجلال وإكبار، وتحية للمؤسسة العسكرية وكل الأسلاك الأمنية بدون استثناء التي ضحّى أفرادها من أجل أن تظل الجزائر واقفة وصامدة وعلى الرغممن كل محاولة للمساس باستقرار الجزائر كان الجيش الوطني الشعبي عصيا على كل الأعداء، وعمل الأمن الوطني والدرك الوطني على استتباب الأمن الداخلي حتى رجعت الأمور إلى طبيعتها بعد عشرية دامية أعادت الجزائر بسنوات إلى الوراء.
الفوضى الخلاّقة والفوضى الخلاّبة
لذلك استخلص الشّعب الجزائري الدرس جيدا من تلك التجربة المريرة، ورجع قويا أكثر مما كان عليه من قبل. وبما أن مخابرهم نشيطة فإنّ مؤامراتهم
المكيافيلية لا تتوقف ولن تتوقف، فلقد استحدثوا لنا ربيعا عربيا موسمه صيف حار أو بالأحرى الجحيم العربي المروج له من طرف القنوات العميلة على أنه منفذ الحرية والديمقراطية أو الدّم - قراطية، على حد تعبير المفكر التونسي رياض الصيداوي.
ليبيا اليوم الذين أوهموها بديمقراطيتهم المزعومة لم تخرج من أزمتها إلى حد الآن والشعب الليبي يدفع الثمن ويقاسي، بينما لم تحمل ثورة الياسمين - الأشواك - ما كان الشعب التونسي يتمناه. العراق يعيش الديمقراطية الأمريكية كل يوم على وقع العبوات الناسفة بينما دمرت سوريا عن آخرها.
إنّ للجزائر مواقفها الثابتة مع القضايا العادلة والشعوب المضطهدة ممّا يجعلها مستهدفة من قوى الشر إن لم تكن المستهدف الرئيسي في كل هذه اللعبة القذرة لعدة اعتبارات كونها بلد ثوري جيشه عصي على الآخرين، وكذلك قوة إقليمية عسكرية وإقتصادية في المتوسط وافريقيا، مما لا يخدم مصالح الغرب المقرونة بالأطماع والهيمنة.
لقد تعلمت الجزائر من ماضيها، وأيقن شعبها بأن المؤامرة تلاحقه لا محالة، فحول من ربيعهم ربيعا حقيقيا بأتم معنى الكلمة بالورود والأزهار وجعل الفوضى الخلاقة لبريجنسكي فوضى خلابة حين تعانق وتلاحم الشعب وجيشه. إنه رد صاعق لأعداء الجزائر المتربصين.
إنّه الشّعور بالانتماء إلى الوطن المعزز بالهوية ببعدها الديني واللغوي، جعل الجبهة الداخلية قوية بل قوية جدا لأن الانسجام بين الشعب وجيشه وصل إلى حد جعل علامات الذهول عند الصديق والشقيق قبل العدو، وكانت رسالة واضحة أن الجزائر ليست باللقمة السائغة. ودفع الكثير منهم لإعادة حساباتهم وإعادة التفكير جليا لأن محاولاتهم مآلها الخسران المبين.
الاستعمار الجديد أو التّحطيم الذّاتي
أما اليوم فالمثال الليبي والسوري وقبلهما العراقي ليس علينا ببعيد يقف شاهدا على هذه المؤامرات الخبيثة. لذلك فاليقظة مطلوبة لإفشال كل المؤامرات التي تحاك في محيطنا الأفريقي والمتوسطي، فالرهانات والتحديات أصبحت كبيرة في ظل التوتر الإقليمي.
فزيادة تقوية الجبهة الداخلية أكثر فأكثر ضرورة حتمية لأن الطريقة مع الدول ذات الجيوش العاتية التي يستعصي مواجهتها يحاولون نهشها من الداخل ثم يتآمرون مع خونة من بنيجلدتها، يتم إعدادهم في المخابر الأجنبية، يمنحون لهم منابر إعلامية في البداية يجعلون منهم دعاة للحرية والديمقراطية، ثم يسلمون لهم الحكم، يمدونهم بالأسلحة واللوجيستية مدعمينبجيوش مرتزقة مدربين لهذا الغرض وفي آخر المطاف، ينهبون باسمهم ثروات وخيرات ذلك البلد مع الإبادة والتقتيل لشعوبها، إنه الاستعمار الجديد.
الجزائر قوّة إقليمية ذات سيادة
إنّ الموقع الاستراتيجي الذي تزخر به الجزائر يجعلها في قلب التوترات المتوسطية مما جعلها تسارع الزمن في حماية نفسها وتقوية جيشها وتعزيز مكانتها ووجودها دولة سيادية ابتداء بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للشعوب الأخرى، وعدم السماح بالمساس أو التدخل في شؤونها الداخلية، وبأنّ الجزائر لها دورها الذي تلعبه في حل هذه المعادلة الصعبة، إن اقتصاديا كونها دولة نفطية هامة وخاصة احتياطاتها من الغاز التي تزود أوروبا مع الحرب الروسية الأوكرانية.
لقد كانت أرضها مؤخرا مسرحالقاءات وجولاتمراطونية لبلدان نافذة من الاتحاد الأوروبي، وغيرها من أجل توثيق هذه العلاقات وتمتينها لمواجهة الاختلالات التي عقبت الأزمة العالمية الراهنة، وكان ذلك في ظل الاحترام المتبادل مع تغليب المصلحة العليا للوطن. هذا الدور ساعدته فيه سياستها الثابتة التي تحترم فيها كل الأطراف دون الانحياز لجهة معينة، كما تريد الترويج له الحكومة الاسبانية وسقطتها الدبلوماسية الأخيرة.
ولأن الجزائر دولة سيادية تدافع عن مصالحها ومصلحة شعبها كان الرد سريعا بتجميد معاهدات التعاون مع إسبانيا، وقد هرعت هذه الأخيرة إلى الاتحاد الأوروبي كي تشتكي الجزائر، لكنها قوبلت ببرودة أمام سياسة التهور والارتجال لرئيس الحكومة الإسباني قليل الخبرة، فقد كبّد بلده خسائر كبيرة بإقدامه على هذا الموقف والتصرف.
شباب الجزائر في قلب التّغيير
في الذّكرى الستين لاسترجاع السيادة الوطنية التي تتزامن مع عيد الشباب، قام رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون بتنصيب المجلس الأعلى للشباب كلبنة تعزم من خلالها الدولة الجزائرية تفعيل دور هذه الفئة اليافعة في بناء الجزائر الجديدة. ويبدو جليا أنّ الرّئيس يسير بخطى ثابتة نحو تطبيق البرنامج الذي وعد به الشعب الجزائري، وقد مشى شوطا كبيرا في تكريس هذا البرنامج على الواقع. الجزائر اليوم مقبلة على عهد جديد في ظل التحولات النظمية والتوازنات الجهوية والاقليمية والدولية، وأمامها الكثير من التحديات في هذا العالم المتقلب والوضع الراهن الذي يضع كل المعاهدات الدولية على كف عفريت مع بوادر الأزمة الأوكرانية التي تلقي بظلالها على المعاملات الاقتصادية والسياسية وحتى الرياضية، وتنبئ بالعودة إلى الحرب الباردة ليس بين قطبين، ولكن هذه المرة بين أقطاب مختلفة وذلك في ألطف الظروف. فالجزائر كانت دائما تدعو ومنذ السبيعنيات الى ضرورة وجود نظام عالمي متوازن يسوده العدل والمساواة والحق في التنمية لبلدان العالم الثالث، والتي تضمن العيش الكريم لكل الشعوب.
لقد أظهرت الجزائر بفضل شبابها أنها قادرة على رفع التحديات، وقد كان حفل افتتاح الألعاب المتوسطية التاسعة عشر ل 2022 بوهران كسابقه ل 1975 رسالتين واضحتين للجزائر المستقلة كل في زمانه ومكانه وسياقه والامكانات المتوفرة في كل حقبة، 47 سنة ما بين الطبعتين تبرهن بأن الجزائر تعيش وتواكب العصر والتكنولوجيا، وتتقدّم بسرعة تفاضلية.
القمّة العربية أو رحلة البحث عن السّيادة
إنّ أكبر ثورة مناهضة للاستعمار في القرن العشرين لا تسمح لنفسها أن تخون قيمها ومبادئها مهما كان الثمن، كما أن مواقفها تظل ثابتة مع القضايا العادلة للشعوب المضطهدة في العالم. كانت قبلة للثوار والأحرار الحقيقيين، وليس العملاء الذين يسلط الإعلام الغربي وحتى العربي المتواطئ الممنهج عليهم الضوء. تتّجه الجزائر نحو عقد القمة العربية على أرضها في ظروف جد استثنائية، عرفت فيها الجامعة العربية إنقسامات بين دولها، فبعد غزو العراق وضرب سوريا واحتلال ليبيا وجدت الجامعة العربية نفسها ضعيفة ومنهكة.
وما زاد الوضع تأزما هو التخلي العلني عن القضية الفلسطينية التي تعتبر اسمنت هذه الأمة بعدما سارع بعضهم إلى التطبيع، إن الكيان الصهيوني ينتصر كل يوم ويتقدم في الميدان بينما نتخاذل ونرجع إلى الخلف، إنها فعلا حقيقة مرة جراء هذا الخنوع والانبساط. لقد تنصلت الجامعة العربية عن مهمتها التي وجدت من أجلها ولو ظاهريا لأن تواجدها وظروف إنشائها له مغزى آخر.
الجزائر تعلمت أنها لا تستسلم ولا تيأس مهما كانت الظروف، ومهما كانت الاختلافات عندما يتعلق الأمر باللحمة العربية، وتعتبر نفسها جزءا لا يتجزأ من الأمة العربية، وتبقى دائما فطنة وفي يقظة فيما يمكن أن يكون سببا في تلاشي هذه اللحمة، وتعمل جاهدة على البحث عن الحلول السلمية فيما يخص النزاعات إن كانت عربية عربية أو غيرها.
فمن اتفاقيات كامب ديفيد إلى آخر تطبيع، لم نلاحظ في الأمة العربية إلا التراجع والانشقاق، فهل الاتفاقيات المذكورة حول السلام عادت بالفائدة للقضية الفلسطينية أو الأمة العربية في شيء؟ طبعا لا، هل التطبيع سيضمن لهذه الدول استقرارها وأمنها؟ لم يكن مشروع إسرائيل الكبرى ليرضى بالرقعة التي هو فيها الآن فنيّته التوسعية جلية ومخططاته واضحة.
إنّ نجاح الجزائر في القمة العربية التي ستقام على أرضها مرهون بمدى تفاعل هذه الدول المنتمية لهذا الصرح العربي، ووعيها بالتحديات التي ستواجه الأمة العربية مستقبلا، وإعادة إرساء قواعد متينة في التعامل فيما بينها والتصدي للسرطان التطبيعي الذي ينخر جسمها. فالجزائر بتجربتها الضاربة في أعماق التاريخ تعلم جيدا أن الوحدة الحقيقية السليمة الصافية من كل الشوائب هي الوحيدة والكفيلة بحماية شعوبنا من الأخطار المحدقة بها، وأن كل محاولة للتملص من المسؤوليات يعتبر خيانة لأمّة بأكملها، والقاعدة تقول إن أول من تضحي به الجهة المدبرة هي الجهة المتآمرة فعش وأنت عزيز أو مت وأنت كريم.
في الأخير وفيما يخصنا نحن الجزائريين فإن صراع الذاكرة سيبقى ما دامت فرنسا لم تعترف بجرائمها والمطالبة باسترجاع الأرشيف لا يزال كذلك متواصلا، وإن كانت خطوة أولى باسترجاع بعض جماجم المقاومين الموجودين بمتحف الإنسان في فرنسا ربما ستفتح الباب لخطوات أخرى مماثلة، فإن آلام ومآسي وآثار ومخلفات 132 سنة من الاستعمار لا تمحى بالمجاملة في سياق ما جاء في حديث رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون.
لذلك فإن الاستمرارية لا بد منها لثبات هذه العقيدة وترسيخها، وستبقى وثيقة بيان أول نوفمبر 1954 إلى الأبد المرجعية التاريخية التي صبت فيها المقاومات الجزائرية منذ الأمير عبد القادر والحركات الوطنية، وستبقى مرجعية الأجيال القادمة التي تعود إليها كحصن منيع، باختصار هي همزة الوصل بين الماضي والحاضر والمستقبل.
مراجع ببليوغرافية
1- الدكتور كمال بن صحراوي "حركة التنصير في الجنوب الجزائري "جهود شارل دو فوكو نموذجا" مجلة العبر للدراسات التاريخية والأثرية من موقع www.asjp.cerist.dz
2- محمد حربي: جبهة التحرير الوطني سراب وواقع، باريس. 1980.
3- بن يوسف بن خدة: أصول 1 نوفمبر1954 طبعات، وزارة المجاهدين.الجزائر. 1999.
4- أجيرون شارل روبرت: "حرب الجزائر والجزائريون 1954/1962" أ - كولين 1997.
5- الشاذلي بن جديد: "ذكريات" المجلد الأول - 1929/1979. إصدارات القصبة. الجزائر. 2012.
6- رضا مالك: "الجزائر في إيفيان: تاريخ المفاوضات السرية 1956-1962. باريس.
7- غي بيرفيلي: "اتفاقيات إيفيان (1962). نجاح أو فشل المصالحة الفرنسية الجزائرية (1954-2012). باريس، أرماند كولين، المجموعة يو، التاريخ، "الأحداث التأسيسية"، سبتمبر 2012.
8- جيلبرت مينير: "التاريخ الداخلي لجبهة التحرير الوطني- 1954/1962". إصدارات القصبة. الجزائر. 2003.
9- علي هارون: "صيف الفتنة". إصدارات القصبة. الجزائر. 2000.
10- علي كافي: "من ناشط سياسي إلى قائد عسكري". مذكرات 1946/1962. إصدارات القصبة الجزائر 2004/2002.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.