يرى محمد ساري أنّ كتابه الجديد الصادر عن منشورات «العين» بالقاهرة بعنوان «نيران وادي عيزَر»، عبارة عن رواية من حيث سردها وتفاصيل الوصف، وقد أطلق فيها العنان للخيال زيادة على توزيع فعل السرد على مختلف أشخاص القصة ليقوم كل واحد منهم بروي حياته. وقال في تقديم الكتاب: «علما بأن الضمير المخاطب في مثل هذه الحالات هو الأنسب في الصدق والتأثير معا، مثلما يمكنك إن لاحظت أثناء قراءة الرواية، فإنّ الأحداث، وإنْ روَتها الشخصيات الفاعلة، إلا أنّ فعل الراوي عندها عادة ما يكون مختصرا ويكتفي بذكر جوهر الأحداث والأحاسيس التي ترافقها من الحزن والغضب والمرارة والفرح والغيرة». يعتقد ساري أنّ تاريخ الأدب الجزائري يوجد به نسبة قليلة جدا من روايات السيرة الذاتية، وإن كان مولود فرعون قد بدأ ذلك في روايته الشهيرة «ابن الفقير»، استخدم كثير من الكتاب حياة طفولتهم لكتابة روايات متخيلة أمثال محمد ديب، ومرزاق بقطاش في روايتيه «طيور في الظهيرة» ثم في الجزء الثاني منها الصادر بعنوان «البزاة». لقد ظلت أحداث طفولة محمد ساري الأولى في السنوات الأخيرة لحرب التحرير عالقة في ذاكرته، ولم يتمكن من نسيانها. وهذه الطفولة لا تعنيه وحده كطفل صغير بدأ يعي العالم الذي يحيطه، كما قال وإنما تعني أيضا كل من كانوا يحيطونه من أفراد العائلة الصغيرة والكبيرة، وكل سكان منطقة عيزَر بجبال شرشال الشهيرة التي عانَت كثيرا من ويلات الاستعمار، واشتهرت بمقاومة الاستعمار الفرنسي منذ أن حط الرحال لأول مرة بالمنطقة. ويقول محمد ساري: «عشتها أولا كأحداث وثانيا كحكايات ملأت طفولتي في السنوات الأولى من الاستقلال. أتذكّر أنّ الكبار الذين صدموا من قسوة الحياة في زمن الاستعمار، مارسوا فعل الحكي كتطهير نفسي، ولم يتوقفوا عن سرد تفاصيلها في جلساتهم، ولم تكن العائلات في تلك السنوات تملك، مثلما نراه اليوم ما يسليهم ويملأ فراغاتهم (تلفاز، إذاعة، هواتف...) فكانوا في أماسيهم ينشغلون بالحكي بمختلف أجناسه. وكانت قصص الشعبي من عهد الغيلان والساحرات والحيوانات التي تتكلم يملأ الأمسيات، زيادة طبعا إلى استذكار الحياة الشاقة أيام الاستعمار. وحينما بدأت أولى خطوات الكتابة، كانت قصتي الأولى التي كتبتها بالفرنسية عن تلك الفترة (مخطوط لم ينشر)، ثم أعدت كتابتها بالعربية وشكلت القسم الأول من روايتي الأولى (على جبال الظهرة). وبقيت الأحداث الأخرى تختمر في الذاكرة إلى أن حان وقت تدوينها. ويضيف إن كانت روايتي الأولى وإن اعتمدت على بعض الأحداث التاريخية، فإنها رواية بالمعنى الخيالي للرواية، أي أنها لا تنسب إلى أشخاص عاشوا على أرض الواقع. أما في نيران وادي عيزَر، أردتها سيرة ذاتية. وقادتني مغامرة الكتابة إلى العودة إلى منطقة عيزَر وتيتأ موسي وريفاي، حيث المعسكر المشؤوم الذي حُشرنا فيه لمدّة أزيد من أربع سنوات. لم أكتفِ بزيارة الأماكن، وإنما أخذت معي الأشخاص الذين عايشوا تلك الفترة، وأجّجت ذاكراتهم ليحكوا لي من جديد ما وقع هناك، ولمدّة زادَت عن الخمس سنوات، وأنا أجمع المادة الخام وأصيغها وأعيد صياغتها إلى أن اكتملت». وتقع أحداث رواية «نيران وادي عيزر» في مكانَين أساسيين هما منطقة عيزَر بواديها، ومكان بناء معسكر يدخل فيما أسمَتها الإدارة الاستعمارية ب «تجمعات السكان» بغية عزل الثورة عن الشعب، وهو العزل الذي تمكن كثير من السكان، بما في ذلك والد محمد ساري، مثلما جاء في الرواية من عزله وتجاوزه والدخول في اتصال مع المجاهدين بالمنطقة، وهو ما كلفه الاعتقال ثم السجن بعد أن تفطنت الادارة الاستعمارية لذلك. علما أن المجاهدين استقروا بمنطقة «عيزر»، وما يحاك بها منذ من بداية إعلان الثورة في 1 نوفمبر 1954. لقد استطاع محمد ساري في كتابه «نيران وادي عيزر»، من أن يجعل من أحداث حرب التحرير كما عايشها وهو طفل صغير، ومن خلال المرويات التي ظلت عالقة في ذاكرته، موضوعا لرواية تستحق القراءة.