يشتد سؤال المشترك بين التاريخي والأدبي، في كثير من المواقف والتحولات، فإذا كان الأدب باعتباره شكلا من أشكال التعبير الإنساني والذي يعكس وجدان الإنسان وأفكاره وهواجسه بأرقى الأساليب الكتابية وهو أحد الألوان التّعبيريّة والإنسانيّة التي تحتوي على الجماليّات الخياليّة والتّصويريّة، باستخدامه اللغة استخدامًا خاصًّا تختلف عن استخدامها في الحياة اليومية والعلمية والأدب على فنِّ الأدب التخييلي الإبداعي، والكتابة التخييلية هي التي تصدر من الخيال فلا تطابق الواقع. التاريخ هو الماضي والأحداث كما هو موصوف في الوثائق المكتوبة، وهو مصطلح شامل يتعلق بالأحداث الماضية بالإضافة إلى الذاكرة، داخل هذه الجدلية بين ارتباطات التاريخ بالأدب وانفصاله أو بين التشابك العضوي بين موضوعاته وأحداثه والأسئلة التي تثار حول هذه القضايا، ارتأينا بسط سؤال هذه العلاقة بين الأدب والتاريخ من خلال إثارة أسئلة من قبيل: هل يمكن الحديث عن نوع من الارتباط الجدلي بين الأدب والتاريخ؟ والى أي مدى يمكننا رصد التشابك بين موضوعية التاريخ وتخيلية الأدب؟ هل يمكننا اعتبار موضوع الذاكرة داخل جدلية التاريخ والأدب بوصفها فعلا انتقائيا داخل الكتابة الأدبية، أم أنها تعبير عن موقف من التاريخ نفسه؟. إن مسألة توظيف التاريخ في الأعمال الأدبية عرفت شيوعا وتراكما متزايدا، بحسب الكثير من الدراسات، في بداية الألفية الثالثة. ولعل المفسرين الذين طرحوا مقاصد هذا التوظيف، ركزوا على مسألة جد مهمة اقترنت بالتحولات التي مست العالم بأجمعه، فالدخول في مجالات اقتصادية جد متوحشة وذيوع الإمبريالية الفجة، وانقشاع فترة الحروب التي ألهبت العالم لفترات جد ممتدة، والسقوط في شراك كذبة العولمة، والعالم قرية صغيرة، ولّد العديد من القضايا تعلقت بذاكرة الشعوب وهوياتها المقهورة تلك التي بقيت تحت نيران الاستعمار، ممّا شوّه بنيتها المعرفية والهوياتية والتاريخية. وإن كانت كتب التاريخ دونت هذه الفترات بالتواريخ والعقود والاتفاقيات، ويبقى الأدب هو الوحيد القادر على الغوص في ثنايا الذات بحثا عن الأصوات التي أخرجها التاريخ الرسمي من حيز الوجود، وهُمشت عنوة من قبل المهيمنين. تحاول بعض الكتابة الأدبية العربية الواعية، أن تفتح أشرعتها التخيلية على موضوعات أكثر التزاما بالواقع العربي. هذا الواقع المتعدد المتشظي الذي يتخبط في مشاكل لا حد لها، بسبب الويلات التي تكبدها ولا يزال جراء الاستعمار بكل أنواعه وبمختلف أزمنته، فانجر الأدب وراء التاريخ ليعين الذات الدؤوبة المحرجة بالخيبات للوصول لحلول تلهمها للخروج من خيباتها، وفك حصار أسئلة كثيرة تقلقها، فأينعت نصوصا مهمة تؤرخ بدورها لقلق الإنسان العربي المعاصر إزاء مسائل تمس تاريخه وهويته وثقافته وذاكرته. وإذا ألقينا إطلالة على عدد من الروايات العربية الملتزمة بقضايا الأمة، نلحظ حضورا بارزا لما سماه لوكاتش «رواية تاريخية»، يستحضر فيها الروائي أحداثا تاريخية تمتزج بالتخييل حين يختار شخصيات بسيطة ينقل من خلالها أوجاع مراحل تاريخية بعينها ليجعل الأحداث أقرب إلى الواقع، يستفز من خلالها القارئ ليعود مسائلا لتاريخه وحاضره. كثيرة هي الأعمال الأدبية التي نراها جديرة بالاهتمام، لأنها تصنع من الذاكرة الجماعية تاريخا يعادل في عمقه التاريخ الرسمي. فما التاريخ، بحسب بول ريكور، إلا سرديات تقنع القارئ بمصداقيتها، لأنها تركز على التواريخ والأحداث، وهي أحداث في الأصل منتقاة بحسب وجهة نظر المؤرخ وظرفه التاريخي وولاءاته الرمزية. ما يهمنا في هذا السياق، هو حديثنا عن التاريخ وحضوره الجدلي مع الذاكرة والأدب، خاصة عندما يتعلق الأمر بتاريخ الجزائر. ففي ظل التوترات الحالية، أصبحت حروب الذاكرة ملحة لحل أزمات الحاضر وتصفية الحضور الاستعماري وهو ليس بالأمر الهين طبعا، وبات اللجوء للتاريخ قراءة ومساءلة وتوظيفا أكثر إلحاحا، فالتزمت بعض الكتابات الأدبية الواعية وخاصة منها الرواية، على حمل مشاق تنوير القارئ بواقعه وتاريخيه، واستعمل التخييل ممزوجا بأحداث تاريخية منتقاة بحثا عن إجابات لأسئلة ملحة. فمن يقرأ رواية آسيا جبار «المرأة بدون ضريح La femme sans sépulture» يلحظ حضور أصوات عديدة تحاول لملمة التاريخ والذاكرة وتفاصيل الزمان والمكان، لتنسج صورة «زوليخة» البطلة الشهيدة، التي اقتنعت في مقتبل عمرها بضرورة مواجهة الاستعمار الفرنسي الغاشم. تقدم لنا «آسيا جبار» صورة عن الشهيدة «زوليخة Zoulikha Oudai»، محاولة سماع صوتها في كل الأحياء التي جاورتها ومع الشخصيات التي عرفتها، دافعة النسيان خارج دائرة حكيها، لأن شخصية مثل شخصية «زوليخة» لابد أن تبقى خالدة تَتَذكرُها الأجيال، لأنها تركت فلذات كبدها، وصعدت إلى الواجب دون رجعة، عُذبت ونُكّل بها ولم يعثر على رفاتها، ألا يحق للتاريخ أن يصمد أمام ذكراها..؟. آمنت «أسيا جبار» أن التاريخ يقدم سنوات الميلاد والوفاة وعدد الأولاد والشهداء وصورهم، لكنه لن يعيد صوت «زوليخة» إلى الحياة. لهذا قررت الروائية لملمة شتات الذكريات لتخلد حضور زوليخة في ذاكرة الجزائر وتاريخها، وتخلد معها مفهوم الشهيد، وتعيدها سرديا إلى عالمنا الذي ألف النسيان، وأصبح يتذكر الشهداء في الأعياد الوطنية وينساهم في سائر الأيام. وإن كانت آسيا جبار عاشت الاستعمار والثورة والاستقلال، نجد قلما فذا يكتب من جيل الشباب عن تاريخ الجزائر تحت نير الاستعمار الفرنسي. فالروائية ياسمينة صالح، في «بحر الصمت» تكتب الثورة والألم، وكأن تاريخ القذارة الاستعمارية أرخى سدوله على عمق العلاقات الإنسانية في الجزائر، جعلت ياسمينة من ذاكرة بطلها تأريخا للذات المتأزمة الموؤودة في لا شرعية الوجود الاستعماري. وفي سياق آخر، يكتب سعيد خطيبي روايته «أربعون عاما في انتظار إيزابيلا» ومنح صوتا مهيمنا لبطل النص وهو «جوزيف رينيشار»، أسير ذاكرته وواقعه. تبنى سعيد خطيبي رؤية جوزيف فلم يعد قادرا على رؤية الكثير من الحقائق، ربما لأنه لم يعش الثورة ولم يدرك أنّ الكتابة عن حقبة تاريخية ولو في رواية تخيلية هو بناء لوعي، يدخل ضمن تأسيس أدب قومي يعكس ثقافة وطنية تستلهم التاريخ لتفهم المعيش. وبالتالي غابت هذه الأبجديات وانحلت في مركزية غربية نقلتها زاوية نظر جوزيف إلى الواقع الجزائري، لماذا يا ترى تبنّى سعيد خطيبي رؤية جوزيف لعالمه وسقط في شراك عوالم جاهزة يستهجنها كل من شهد الثورة أو قرأ عنها؟ سكت سعيد خطيبي عن مضمرات أخرى، أهمها عدم قدرة «جوزيف» الاندماج مع الجزائريين. وهذه من مخلفات الاستعمار، فنظرة الجزائريين إلى الفرنسيين مستمدة من الفترة الكولونيالية، التي رغم امتدادها لم يستطع الفرنسيون أبدا الاندماج مع الجزائريين أو تكلم لغتهم، فهذا من بين مخلفات الاستعمار المتوارثة، فليس على جوزيف أن يستغرب من نظرة الآخرين له. لماذا لم يتبن سعيد خطيبي رؤية تنطلق من وعيه الذاتي لخطابه حتى وإن عكس محتوى خطابه رؤية أحادية الجانب، فهي هنا قاصرة عن دمج آفاق التنوع الذي شهدته الفترة؟. من يقف على روايات أخرى كثيرة استحضرت تاريخ الجزائر وبطش الاستعمار، يجد الخطاب الروائي ينزاح ليعالج قضايا تاريخية محرجة مثلما فعل محمد بن جبار وهو يستعيد موضوعة «الحركي»، بكل جرأة، محاولا سماع صوت الحركي وهو يصارع ماضيه وذاكرته التي تؤرقه، وهو من يعيش عذابات الخيانة ومطباتها، هو من خان القضية والثورة واختار صف العدو فلم يفلح لا هنا ولا هناك. فعلا تكلّم الحركي، لكن الكاتب أقحم التاريخ دون أن يشتغل عليه، فهوت لغة الكتابة وأسلوبها بالموضوعة المهمة التي استلهمها، لكن لماذا كتب بن جبار عن الحركى؟ هل يرد على دليلة كرشوش، التي كتبت سنوات قبله رواية «أبي هذا الحركي» واحتفت بذاكرة مئتي ألف حركي غادروا الجزائر بعد الاستقلال، كتبت في الضفة الأخرى وجعلت الحركي ضحية؟ لكن لمن تكتب دليلة؟ هل تكتب تاريخ الخيانة ويكتب الحبيب السايح عن نزاعات في الجبهة، ومسائل التصفيات والانقلابات وهي الموضوعات التي تحضر في اللعنة لرشيد ميموني والقلاع المتآكلة لمحمد ساري وطير الليل لعمارة لخوص، وكأن الرواية الجزائرية اليوم تبحث لها عن تاريخ يملأ ثغرات ما سُكت عنه في كتابة تاريخ الجزائر. وكي لا يسقط القارئ في فخ إيديولوجيات الكتابة، عليه دائما أن يستبق قراءاته للتاريخ وللأدب بالحذر، فالكتابة مهما كانت ليست بريئة تبني مثلما تهدم، سواء استلهمت التاريخ أو الذاكرة وهنا تصدق مقولة هايدن وايت: «أنّ كلّ سرد، مهما بدا ممتلئا، فإنه مبني على أساس مجموعة من الأحداث التي كان يمكن أن يشملها لكنها استبعدت، وهذا صحيح بالنسبة إلى السرديات الخيالية بمقدار ما هو صحيح بالنسبة إلى السرديات الواقعية». وهذا الاستبعاد مليئ بالمضمرات التي لا مجال لتفسيرها ولا للبحث عنها في هذه الفضاء، أم تبحث عن حق الخونة؟