رجل متأمل، يحمل ملامح الفيلسوف، يأسرك بحركاته ومشيته وكلامه الذي ينم عن وعي كبير بالحياة وشؤونها، لا تراه إلا مبتسما، يزرع الحب بين الأصدقاء، لا مكان للعداوة والبغضاء في قاموسه النفسي، لا يكترث للصراعات والمشاحنات التافهة التي يحتفي بها هذا الجيل من الكتاب، لا ينحاز إلى جانب إي طرف وكأن الأمر لا يعنيه على الإطلاق، لا يحدثك إلا بعد تفكير عميق، كلماته وجمله مدروسة، يجابه الواقع ومشاكله بالكتابة، إنها أنجع الوسائل وأفضلها لديه، عندما تلتقيه يحدثك عن رواية جديدة قد أتم كتابتها وهو بصدد تصحيحها وإعادة قراءتها، لا يحدثك عن مشاريعه المستقبلية أو الناقصة، فالمزية تكمن فيما أتمه، وأنت تقدم نقدا لأعماله تراه منتبها بشكل جيد يشعرك بضرورة أن تتعمق أكثر فيما أبدعه، رجل مارس السياسة والعمل الجمعوي في مرحلتي السبعينيات والثمانينيات، ورفض العديد من المناصب التي عرضت عليه، إيمانا منه بأن الكتابة ستعوضه عن كل شيء، إنه الروائي الأزهر عطية، هذا الزاهد المتعالي عن الأضواء والشهرة، نذر وقته للكتابة، متفرغ لمعانقة الحرف، قليل الحضور في الملتقيات الوطنية لأنه مؤمن بأن الكاتب الحقيقي يعلن حضوره المستمر بأعماله الجديدة التي تكون محل اهتمام الدارسين، فهو غائب عن عديد الملتقيات بجسده لكنه حاضر فيها كنص، وكإسم أيضا، لا يكلف نفسه وعثاء السفر لأن نصوصه الجيدة تتكفل بكل ذلك، فهي قادرة على تجاوز حدودها المحلية والإقليمية إلى تخوم أبعد من ذلك، دون جواز سفر، دون أوراق، وجوازها سفرها الوحيد هو قيمتها الفنية والمعرفية. لقد ابتدأت رحلة الكتابة عند الروائي الأزهر عطية شعرا، فقد نشر باكورته الشعرية الأولى في ثمانينيات القرن الماضي (1984)، حيث وسمها ب " السفر إلى القلب " و تعود قصائدها إلى مرحلة السبعينيات، ليتحول بعدها إلى كتابة الرواية، حيث نشر روايته الأولى " خط الإستواء" سنة 1989، غير أن هذه البداية تخللتها محاولات شعرية و قصصيية أخرى، ففي مشواره الإبداعي مجموعة من المخطوطات التي لم تر النور بعد، منها ما هو شعري : أشواق، و تعود قصائدها إلى مرحلة الثمانينيات، وكذلك : خاتمة الشوق، وأسرار القلب، وهذه الأخيرة عبارة عن قصائد قصيرة وعناوينها كلها تشترك في الدلالة على العواطف والانفعالات، إنها تجربة الكتابة الشعرية التي تعنى بأسرار القلب، وخفاياه، فقد يلجأ كاتبنا إلى كتابة الشعر ترويحا عن نفسه وإفراغا لبعض الجمل والرؤى التي لا ينبغي لها أن تخرج إلا شعرا، وربما يعود هذا الانتقال من الشعر إلى السرد محاولة للبحث عن الخصوصيات الفردية للكتابة، البحث عن جنس أكثر تعبيرا عن هواجس الذات الجماعية، فالشعر هو أقرب الأجناس تعبيرا عن الذات الفردية وهمومها وأحلامها وهواجسها، في حين تعتبر الرواية المتنفس الاجتماعي، فهي تعنى بالآخر أكثر من عنايتها بالذات المبدعة، رغم أنها تحمل رؤى الكاتب وتصوراته، وما اهتمام الأزهر عطية بالرواية، إلا محاولة للبحث والتجريب، البحث عن وسيلة تعبيرية أكثر نجاعة في نقل الواقع الاجتماعي ومحاولة وضع بدائل وحلول لمشاكله، وقد نجح كثير من الكتاب في بحثهم التجريبي هذا، فكما كتب عبد الحميد بن هدوقة مجموعته الشعرية اليتيمة وتحول إلى الفن السردي، تحول أيضا كاتبنا الأزهر عطية إلى معانقة السرد مستثمرا خبرته الشعرية في تشكيل العديد من الجمل التي تتجاوز حدود السرد، بل إنها تغني عالمه اللغوي بشكل كبير، وقد لمحنا ذلك في رواية ذاكرة الجسد والتي كتبت بلغة الشعر. إن تحول الشعراء إلى روائيين هو تحول تجريبي بالدرجة الأولى، فقد كتب الشاعر عبد الله حمادي رواية "تفنست" بعد تجربة طويلة مع الشعر، كتابة ونقدا، كما كتب الشاعر عبد الله عيسى لحيلح رواية " كراف الخطايا " بجزئيها، حيث لم يستطع شعره أن ينقل تجربته في الحياة خلال العشرية السوداء، كما أنه أراد أن يقصها على الآخرين بطريقة الحكي البسيط. فالشاعر الروائي ظاهرة ليست جديدة في الآداب الإنسانية، ولكنها لافتة للانتباه، لأنها تجسيد فعلي لمقولة: إن العصر هو عصر الرواية وليس الشعر، وربما تبني الشاعر والروائي الأزهر عطية للرواية يجسد هذا المنحى، فقد كتب أربع روايات متتاليات ونشرها مرة واحدة، وذلك سنة 2007 بدعم من وزارة الثقافة، ولأن هذه الروايات فائزة بجوائر وطنية، من وزارة المجاهدين و وزارة الثقافة، وهي : اعترافات حامد المنسي، الروابي الجميلة، غرائب الأحوال في حياة الشيخة زهو البال، المملكة الرّابعة تغريبة موجود الأوّل، كما بقي في جرابه كم كبير من الأعمال المخطوطة التي تنتظر النشر ومنها : يسار بن الأعسر، كم أحبك، الرميم، سنوات المحبة. وهي أعمال سردية روائية قد ضاقت درعا بنفسها، تود الخروج إلى القارئ، لعلها تجد متنفسها و استمراريتها. وقد عالج الأزهر من خلال هذه الأعمال السردية المنشورة مجموعة من القضايا الاجتماعية والتاريخية والسياسية التي عاشتها الجزائر منذ فترة الاستقلال، ففي رواية اعترافات حامد المنسي، صور فيها شخصية حامد المنسي أستاذ مادة التاريخ، وهي رواية سير ذاتية، تعالح تاريخ وحياة الكاتب بطريقة فنية انطلاقا من أن هموم الكاتب هي جزء من هموم الآخرين، حيث ينقل لنا الكاتب تجارب حامد المنسي في الحياة، الحب والسفر و...، كما صور لنا السارد الأوضاع المزرية التي كان يعيشها التلاميذ إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر، مقارنا ذلك بما ينعم فيه تلاميذ اليوم، كما يجسد لنا الراوي شخصية حامد والتي تشبه إلى حد كبير شخصية الكاتب الذي يفضل الهروب إلى ذكرياته الجميلة، بعيدا عن ضوضاء المدن وصخبها، ومشاكلها، كما أنه يفضل في كل رواياته معالجة وعرض شخصيات مسكوت عنها، شخصيات تعيش غربة نفسية مع الواقع، ف "حدة" في رواية اعترافات حامد المنسي هي شخصية غريبة تنتظر أخاها الذي يعيش وراء البحار، حيث كانت تنتظر عودته باستمرار، فهي تختار له العرائس الجميلات، كما تنظر دوما من مكان عال تجاه البحر لعلها تراه عائدا إلى دياره، وهذه الشخصية تتقاطع مع شخصية الشيخة زهو البال التي هي دائمة البحث عن جثة ابنها الشهيد، كما أن هذه الشخصية التي جسدها في رواية " غرائب الأحوال في حياة الشيخة زهو البال" هي شخصية واقعية، وهي جدة للكاتب نفسه، كما أننا يمكن أن نعتبر هذه الرواية سيرة ذاتية لزهو البال، وقد أشار إلى هذه العلاقة الخفية التي تربط الكاتب بزهو البال الأستاذ شريبط أحمد في دراسة له لهذه الرواية، فقد عانت هذه الشخصية من ذلك الواقع المزري الذي فرضه عليها الاحتلال بحرق كوخها من جهة، وفقد الزوج واستشهاد الابن من جهة ثانية، فهي مثال للصمود والتصدي. وربما يجرنا الحديث عن روايات الأزهر عطية للحديث علاقة رواياته بالتاريخ، إذ نقول إن السارد هنا بقدر ما تهمه الأحداث المنقولة، بقدر ما تهمه أيضا تلك الشخصيات التي يجسدها أحيانا بطريقة عجائبية، فهو يسقط عليها بعض الصفات التي تضفي عليها نوعا من الرهبة وهو ما يجعلها عجيبة، رغم أنها مستقاة من الواقع المعيش، فهو يحاول جاهدا بعث الروح في تلك الشخصيات الميتة، لأنها شخصيات منسية من التاريخ القريب، تاريخ الثورة، هذه الثورة التي عاشها أديبنا واقع ومتخيلا، إنها مصدر خصب لنصوصه الروائية الخالدة، فهو يخلد مآثر من عرفهم بالأمس، يخلد ذاكرة طفولته التي هي ملأى بالحرمان، ملأى بالقصص والحكايات الثورية والبطولية لشهداء الأمس. فالذاكرة هي محرك السرد عند الأزهر عطية، ففي رواية الروابي الجميلة نجد شخصية عمار العريان، هذه الشخصية الغريبة التي تحل بالقرية تظهر وتختفي بطريقة مفاجئة، إذ تستحوذ على اهتمام الكبار والصغار وتدور حولها الحكايات، إنها شخصية تؤسس وجودها كشخصية رئيسة من خلال الذاكرة، وتضاف إليها شخصية موجود الثاني في رواية المملكة الرابعة، هذه الشخصية التي تشترك مع شخصية حامد المنسي في الرحلة، شخصية موجود الثاني تشبه إلى حد كبير شخصية "علي الحوات" في رواية الحوات والقصر للطاهر وطار، فهو شخصية شغوفة بالأسفار، وقد قرر أن ينجز ما رآه في حلمه، بالتنقل إلى عاصمة المملكة، حيث يروي تغريبته وتغريبة شعوب تلك المملكة، ويمكننا القول بأن هذه الرواية هي رواية تتكئ على عنصر الغرابة في تصوير الشخصيات والأحداث، لكنها تجسد مرحلة من مراحل تاريخ الجزائر، إنها تغطي تعاقبات السلطة في الجزائر منذ الاستقلال، فهي رواية سياسية تأريخية، ولكن برؤية الكاتب، وبقدر ما هي موضوعية في طرحها، بقدر ما تعبر أيضا عن رؤية الإنسان البسيط والفقير والمنبوذ في الجزائر تجاه السلطة وتغيراتها. نظرة موجود الثاني. إن تجربة الروائي الأزهر عطية في المسار السردي هي تجربة الكاتب الذي يعيش أحداث الأمس واليوم، فهو ناقل ومصور وناقد جيد للواقع المعيش، الواقع التاريخي الجزائري المعاصر وما أفرزه من متناقضات، وربما يمكننا القول إن روايات الأزهر عطية تمثل بحق الرواية الواقعية النقدية. التي تتأسس على الواقع مصورة نقائصه وتناقضاته اليومية، إنه روائي الثورة بامتياز، لأن ما أفرزته الثورة من أحداث وقضايا ومآسي وأفراح أيضا هي موضوعات وهواجس الذات الساردة في روايات الأزهر عطية. لمحمد كعوان تجليات الذّات والرؤيا في التّجربة الروائيّة للأزهر عطيّة تعتبر تجربة الروائي الأزهر عطيّة من التجارب الفنيّة الخصبة التي تستحق الدّراسة؛ لأنّه أنتج أدبا روائيا له عالمه الخّاص. المواضيع التي تدور حولها كتاباته تتعلّق أساسا بالحياة الاجتماعيّة، ثمّ البعد الوطني الذي مثّل هاجسا إبداعيا تمحورت حوله مختلف أعماله الروائيّة؛ حيث استمدت مدوّناته موضوعاتها من التاريخ ، إضافة إلى المشاعر الروحيّة والإنسانيّة. لقد كان التاريخ الوطني من أهمّ مصادر استلهام الروائي الكثيرة والمتعدّدة، فرواياته تتدفّق بداخله لتعبّر عن الجروح والآلام والمعاناة التي عاشها في طفولته وعايش فيها الاستعمار، لذا كانت طفولة الكاتب المبكّرة هي المنبع الذي استقى منه ذاكرته؛ إذ لم يكفّ في كلّ رواياته عن محاولة استعادة ذلك الجرح الطفولي القابع في أعماقه، طفولة عاشها في خضم ثورة التحرير. ما جعل تلك الموهبة التي غذّاها بالمطالعة المكثّفة تنفجر من أعماقه عبر فعل الكتابة. أمّا الطبيعة فقد عشقها منذ الصّغر؛ لأنّه ولد وأمضى طفولته الأولى قبيل الاستقلال في منطقة ريفيّة أثّرت بجمالها وبهائها فيه وزرعت في قلبه حبّها؛ حيث كانت تجاربه الأولى في الحياة بكلّ أشكالها وأنواعها، من فقر وحرمان وخوف ورعب ناتجين عن ما خلّفه الاستعمار. أمّا فيما يخصّ المشاعر الروحية ومسالك الصوفيّة فهي طريقته في التعبير عن مفهومه للحياة. كما أنّ إعجاب الأزهر عطيّة بالواقعيّة لا يمكن إغفاله، أو إخفاؤه؛ لأنّه وجد فيها المعرفة والمتعة؛ حيث قدّم من خلال روايتي «الروابي الجميلة» و«غرائب الأحوال» مثالا للروايات الواقعيّة الاجتماعيّة بدرجات متفاوتة من خلال تشخيصها لصوّر من نسيج الحياة الجزائريّة، خاصّة تلك الصّور الاجتماعيّة والاقتصاديّة الصّعبة للشّعب الجزائري في الرّيف إبّان الاحتلال الفرنسي، مصوّرا من خلالهما بيئته المحليّة بكلّ ما تحمله من عادات وتقاليد معبّرا بذلك عن رؤى اجتماعيّة تخص فئة أو طبقة شعبيّة في إطار ظرف تاريخي وسياسي واجتماعي معيّن متعلّق بقضايا إنسانيّة مختلفة، لا عن رؤى فردية. ف «عمّار العريان» بطل رواية «الرّوابي الجميلة» لا يصوّر حالته فقط، بل يصوّر حالة المجتمع الجزائري الضائع إبّان الاحتلال الفرنسي؛ لأنّه يرمز للشعب الجزائري الذي جرّب كلّ أنواع الحلول للاستقرار لكنّ لعنة أرض الجزائر وحبّها ظلّت تلاحقه. أمّا شخصيّة «زهو البال» بطلة رواية «غرائب الأحوال» تلك الجدّة الطاعنة في السّن تمثّل الماضي بكلّ ما يحمله من أبعاد تاريخيّة، فهي سّجل غني برصيد معرفي يختزن موروثا شعبيا يصعب العثور على مثيله، وهي الحكمة والتجربة التي نأخذها دون مقابل، والمرأة المجاهدة المعاندة التي تفقد كلّ ما لديها لكنّها لا تنحني، حاول الروائي من خلالها إبراز الدّور النضالي للمرأة الجزائريّة في تحمّل أعباء الوطن والتضحيّة من أجله، فهي ترمز للوطن الصامد رغم كلّ المحن. في حين صوّرت رواية «اعترافات حامد المنسي» – وهي سيرة ذاتية – الصراعات والإحباطات والشكوك التي يعاني منها المثقّف الجزائري، فهي تتحدّث عن معاناة المبدع في مجتمع يشهد تحوّلات كبيرة على كلّ المستويات. يسعى بطلها «حامد المنسي» عبر أفعاله وتأملاته إلى ردم تلك الهوّة القائمة بين الأنا الواقعيّة والمتخيّلة وفق رؤيا تجعل الذات ترقب ذاتها والعالم المحيط من نقطة ما. كما استند الروائي في روايته هذه إلى جانب تاريخي أسطوري ثقافي شعبي تتخلّله أسئلة الوجود والموت والحياة من خلال حشده لكمّ هائل من الشخصيات الأسطوريّة والتاريخيّة في المتن الروائي واتّكائه عليها في توضيح رؤاه وتفسير الحالات النّفسيّة التي تختلج بداخله. فما توظيفه لشخصيّة عوج بن عناق الخارقة إلاّ إظهار للضّعف والوهن الذي اعترى الإنسان في عصر سادت فيه الماديات المختلفة. وما تشبّهه بديوجين الكلبي ذلك الفيلسوف الإغريقي الذي ازدرى تقاليد المجتمع والغنى،مؤمنا بأنّ سعادة الإنسان لا يمكن أن تكون ماديّة، متجوّلا في وضح النّهار وهو يحمل مصباحا مضيئا يبحث من خلاله عن الرّجل المثقّف إلاّ بحث عن الحكمة التي ينشدها كلّ مثقّف عربي. فرحلة اغتراب «حامد المنسي» في صميمها هي رحلة بحث عن الذات والمجتمع في وسط الركام الحضاري القاتل الذي فقد كلّ مقوّمات الحياة. كما شدّت الواقعيّة النّقدية الكاتب فعبّر عن آرائه حول النقلات النّوعيّة التي مسّت البلاد والمجتمع الذي كان يشهد أزمة اقتصاديّة، وصراعات سياسيّة خفيّة في عهد المراجعة لا التراجع الذي جاء بعد وفاه الرّئيس هوّاري بومدين، منطلقا في كتابته لرواية «المملكة الرابعة» من فترة الاستقلال راصدا أهم تحوّلاتها ونتائجها في قالب حكائي طافح بالرّمز عمد من خلاله إلى محاولة الانفتاح على متخيّل جديد يجعل المادّة التاريخية شيئا قابلا للكتابة بلمسات ونبرات جديدة، رواية تحمل دلالات حكائيّة سرديّة وأبعاد ثقافيّة واجتماعيّة انطلقت من الماضي وأحاطت بالحاضر وتطلّعت إلى المستقبل؛ حيث لم يكتف بحشد الحقائق التاريخية فحسب بل عمل على دمجها مع الحسّ الفني للتعبير عن آرائه وأفكاره. فهذه الرواية لها أهميّة قصوى تتمثّل في تجميعها للتراث الشعبي والمسح التاريخي والاتّكاء عليهما لتوضيح رؤيته الخاصّة؛ حيث قارب الكاتب روايته بما هو موجود في التراث العربي من أدب الرحلات، معتمدا على الموروث الشّعبي الجزائري عبر توظيفه للعبة الخربقة التي حاول من خلالها أن يعكس صراع الشّعب الجزائري مع مختلف القوى الاستعماريّة، معبّرا من خلالها عن الفترات العصيبة التي عاشتها الجزائر في سبيل نيل الاستقلال. ما جعلها تجربة روائيّة متميّزة استطاع من خلالها أن يمزج بين الأحداث التاريخية والسّرد الروائي دون أن يحرّف الأوّل أو يخلّ بالبناء العام للثاني، محدثا بذلك توليفا بين كلّ ما هو تقليدي وحداثي. وتعد رواية «المملكة الرابعة» شهادة حيّة على عصر الكاتب ، فهي تعتبر أو تعدّ بحق وثيقة تاريخيّة هامّة تعرّف بأحداث الماضي من خلال تشخيصه لرواية حياته والأحداث والتاريخ الذي يساهم في صنعه والشخصيات التي تأثّر بها. وإذا ما حاولنا استعراض بعض خصائص الكتابة الروائيّة لدى الأزهر عطيّة نجد منها: الدّقة، والاعتماد على المقروء المتعدّد الذي يوظّف باشتغال سردي له رهاناته الجماليّة الهادفة إلى الحكاية بمتخيّل جديد. كما يشعر القارئ أنّ مجهودات المبدع في القراءة واسترجاع التراث والأساطير، ورغبته في إعادتهما في صورة قصصيّة أو عمل إبداعي يتوافق مع حالة العصر هي التي شكّلت تميّز العمل الإبداعي، فهو خلاصة تجربة امتدّت لسنوات طويلة من القراءة والكتابة في عيون الأدب وفي التراث. اتّسمت كتاباته بمعالجتها الفنيّة الموضوعيّة وصرامتها في تناول الكثير من القضايا، معتبرا أنّ هذه الروايات تحمل في طياتها رسائل أدبيّة وسياسيّة واجتماعيّة... متجاوزا من خلالها الذّات إلى وصف حركتها داخل النسيج الاجتماعي اعتمادا على ذاكرة نقديّة متفحّصة تهتم بالتفاصيل وتؤكّد أنّ الواقع لم يكن خواء ولم يأت من فراغ. إنّ كلّ محاولة لتفسير جهد الأزهر عطيّة الروائي الإبداعي، تبقى مجرّد محاولة أو جهد يظل مستعصيا عن كلّ منطق مادام يحكمه إلهام الفنّ والموهبة. ومهما تكلّمنا عن الأسباب التي تشدّ الأديب إلى هذه الكتابة الشّاقة فأعتقد أنّ أهم سبب هو متعة الإبداع التي يشعر بها الأديب وهو يمارس طقوس الكتابة إلى غاية ابتكار شيء جديد كليّة، لا علاقة لها بتصوير الواقع بل يكون هذا الواقع خلفيّة لها. فهو يبني ممّا هو موجود في الواقع، وقد يطوّع بعض ما هو موجود فيه كي يصبح فنّا ويعطيه من عنده ما ينسجم معه. تعتبر تجربة الأزهر عطيّة الإبداعيّة الذي جمع في رواياته بين هموم الذات ومعانقة قضايا الوطن والتاريخ النضالي للأمّة من التجارب التي تحسن استخدام هذه التشكيلات من الكتابة، والعمليّة تتوقّف على موهبة المبدع وإدراكه لمفهوم الإبداع، فالكتابة عن التفاصيل والخصوصيات إلى جانب القضايا العامّة بعيدة عن الإفراط في الحديث عن الأشياء المألوفة في حياتنا والراسخة في سلوكنا. مريم بوزردة الوجه الشعري للزهر عطية عودني الصديق الروائي لزهر عطية و أتاح لي فرصة الإطلاع على أعماله الروائية قبل صدورها ، فكان لي الشرف أن قرأت تقريبا كل إبداعاته الروائية حالما تخرج من فرنه الإبداعي و قبل حتى أن يضع اللمسات الأخيرة عليها في الكثير من الأحيان . و إذا كنت هنا لست بصدد تناول ريبارتواره الروائي الغني في مواضيعه و مضامينه تاركا إياه إلى فرصة أخرى أكثر اتساعا فإني في هذه الوقفة المتواضعة سأطرق آخر ما كتب و أبدع و هو قصيدة شعرية غير منشورة ، زودني بها في الأيام الماضية فقط بعنوان : « بحيرة البجع « كتبها من وحي سمفونية تشايكوفسكي المشهورة و التي تحمل نفس التسمية . و حكى لي أن هذه السمفونية عاشت معه و تعلق بها و أحب مقطوعاتها و أندغم في نوطاتها إلى الحد الذي أصبح ( يرى و يدرك ) من خلالها و يتمنى أن يكتب من وحيها ... كان هذا في سنوات خلت ... و كان أن ضيع شريط سمفونيته و لم تعد في متناول سماعه ... إلى أن جاءته بها ابنته كهينة محملة على قرص مضغوط قائلة له : هذه سمفونية تشايكوفسكي التي تحب ... حملتها لك من الانترنت . وقال لي لزهر: رغم أن الكتابة عنها ومن وحيها ظلت تلاحقني فإن عودة هذا النص الموسيقي إلي كان دافعا وباعثا لكي اشرع في ترجمة هذه السمفونية إلى قصيدة . وروائينا الشاعر من خلال قصيدته هذه يضعنا في مواجهة تجربة استثنائية إن لم تكن فريدة من نوعها فالشعراء غالبا ما يكتبون من وحي ( تجارب ما ) ، أما أن تكتب من وحي نص أو معزوفة موسيقية وتنجح بكمال أو نقصان في ترجمتها إلى نص شعري فتلك هي الفرادة والاستثناء خصوصا وأن النص الموسيقي الذي اشتغل عليه لزهر شعريا ليسه أي نص ، ذلك أنه أحد روائع الموسيقى الكلاسيكية العالمية وعلامة مميزة في تاريخ البشرية الفني .بما يحمله من عمق تعبيري و ما يحيل عليه من معاني ترتبط بجوهر الحياة الإنسانية . و قصيدة لزهر مفصلة في أربعة عشر مقطعا شعريا تبتدئ جلها باسم الإشارة (هو) الذي خص به (الأفق مرة واحدة ، الكون مرة واحدة ، الماء مرة واحدة ، الموج مرتين ، البجع أربع مرات ، الجسد مرة واحدة ، الموت مرتين ) و هي العناصر التي يرسمها لزهر في قصيدته و يمنحها أبعادها التي نعرفها و لا نعرفها ، و القصيدة عبارة عن مواجهة و مكاشفة كونية من خلال هذه البحيرة المتناولة شعريا و التي تسكن الكون الشاسع في إحالة على أرضنا و حياتنا .. وجودنا .. و فنائنا .. غيابنا ..و حضورنا .. موتنا و عشقنا ...الخ من المعادلات المحاطة بهالة من الغموض في غالب الأحيان و بوضوح في أحيان قليلة . و القصيدة تنطوي على عديد البؤر في شكل صور شعرية لها قابلية لتعدد الرؤيا و التأويل و الإشارة إلى ما يشكل جوهر وجودنا . و كأمثلة على ذلك ما جاء في المقطع الأول (جبال تداعبها العتمات ) في إشارة إلى الوجود و ما يكتنفه من غموض ، (أضرحة في السفوح ) في إشارة إلى حضور الموت أبدا و في المقطع الثاني : ( هو الكون يمتد منتشيا حدالأفق / و يمتد منتشيا بعد الأفق ) في إشارة إلى الكون الحاضر و الكون الغائب ، و في المقطع الرابع :( هو الموج يركبه بجع مستهام ) الموج كمعادل للحركة و البجع كمعادل لما يسكن البحيرة الأرض . و ما أقوله هنا ليس إلا ما تركته في نفسي القراءة الأولى لهذا النص الذي اعتقد أنه يحتاج إلى قراءة متأنية و تحليل يستند إلى أدوات نقدية و هو ما نتمنى أن نجده لدى المهتمين بالنص الشعري الجزائري أو لدى المتناولين لكتابات لزهر عطية ، لأن هذه القصيدة مغرية بالحديث و الكتابة عنها و لعلي أنا كذلك سأعود إليها بحب في فرصة أخرى