إنّها مدينة الموحدين، يستمر الطريق إليها صعودا نحو أجنحة الملائكة. في هذا الجزء من تكوين الأرض تتّخذ القدس خطوطا أمامية ممتدة ومتواصلة لتضاريس الإنسان الفلسطيني الأول هذا المخلوق المحال، العصي على الانكسار، المحصن بقدسية تشبه تراتيل هذه المدينة المنبسطة نحو السلام والمجد والأبدية. من بعيد يمكنك رؤية رؤوس التلال المبثوثة في استحكامات متعرجة، وتأتيك كلما اقتربت من جدائلها رائحة المسك. تلمس كلما تعرجت بك أزقتها خبايا صرة جدنا الكنعاني، وقطع أثرية من وصاياه. وربما يأتيك فلسطيني صغير لم يتجاوز عمر «محمد الدرة» أو «فارس عودة» زاحفا فوق سور المدينة، بإصرار كبير يقدم طلقات شاردة تئز فوق قبعات الجنود، أو ربما يقترب منك جندي يرتدي بزة عسكرية، لتتساءل من أي البلدان هذا الأبيض المحتل لهذه المدينة «الفراشة» المنقطة بالتاريخ والحكايات والأسماء والأنبياء. ربما من بولندا واسمه «ليفنسكي» أو «بنيامين» أو روسي ينادونه «ليبرمان» جاء متخفيا فى حقائب المهاجرين الجدد. هذه المدينة التي سال فيها الدم حتى الركب حين جاء الصليبيون فصائلا وكتائبا، أريقت الدماء وتصاعدت أعمدة الدخان إثر حرائق لا متناهية، وفيها جاء النصر، كانت تنزف من وريدها حتى رد إليها أهلها الدم والروح والتاريخ. هي القدس التي يزحف في وجهها السم الزعاف لثعبان متوحّش، لا إنساني، بشع، مسخ، يستمد بوقه من روايات المستعمرين الأوائل لأرض الهنود الحمر فى براري أمريكا. من بين فتحات النار نحاول أن نصر على واجب حراستها، أمامنا عدونا، معتما كالليل مخادعا كالسراب. هناك من فوق تلة نراها من بعيد، يقف عجوز يقبض بيد طفل صغير يتوشح كوفية طويلة، هناك يردد الشيخ صيحات الاستثارة والغضب والتمرد، ويردّد حفيده اليتيم صراخا عميقا في مدًى بعيد. في الناحية الأخرى خلف الوادي، مقابل التلة، قناص يهودي يصوب بندقيته فوق سماء المدينة. مشهد يوحى بأن الشيطان يحمل شرا ثقيلا في خرطوش رصاصاته أمريكية الصنع. هذا الحارس الغبي يلزمه أن يفهم أن هذه المدينة لا يمكنها أن تموت أو تتبدل.