لئن سدت بنادق الاحتلال الإسرائيلي نوافذ السماء، ولئن مارست أقسى أنواع التذويب والمحو والاستئصال للتاريخ وللجغرافيا، فإنها لم تتمكن ولن تفلح في انتزاع القدس من وجداننا، نحن العرب العاربة المقذوفين على قارعة الحلم والأمل بأن تصدح أناشيدنا في حواريها العتيقة، ونبلسم بالأشواق جراحاتها، ونزرع على عتبات بيوتها قبلات الحنين· نذهب إلى القدس بكل حمولتنا الوجدانية، وبكل إيماننا المدجج بقوة الحق الذي لا تزحزحه الأعاصير السياسية التي تنزفها الطائرات والبوارج·· الحق بأن هذه الأرض لنا نحن الكنعانيين الذين روى أجدادنا بدموعهم مواسم الزيتون، وسيجوا الكروم بشرايينهم كيلا تهب ريح عاتية فتقلع عيونهم من الأرض· بهذا الامتلاء اليقيني نتقدم من القدس، تسبقنا الحروف والأزهار والكلام المغنّى· وتسبقنا قبل ذلك الأساطير الحقيقية المترعة بالبطولة، والتي كتبتها الأشجار والأحجار وموج البحر والقلاع التي هزمت الأساطيل·· وتسبقنا القوافل والحداء والماء الضنين الذي نسج على الرمل حكاية المسافر العنيد، فبأي سلاح ستتدجج إسرائيل كي تمنع هذا الشغف العظيم من أن يرصع مآذن القدس بالتراتيل العابرة للقصف والإبادة؟ ومن يحمي مستقبل إسرائيل من عاصفة الحق التاريخي بأن الغزاة عابرون مهما استوطنوا في البلاد، ومهما أكثروا فيها الفساد· ألم يعلم المحتلون أن طول بقائهم لا يمنحهم الطمأنينة بأنهم أصحاب حق، فالحق لا يسقط مع التقادم، بل إنه يتجوهر كلما طال الزمن· إنه يتعتق كنبيذ ادخره كهان نبيلون ذات عصر قرب حجرة النشيد بجوار القبر المقدس في كنيسة القيامة· بهذا الإيمان الذي لا يشيخ نحتفل بالقدس كعاصمة للوجدان الإنساني الذي وحدت المدينة المقدسة ضميره منذ آلاف السنين، فلم تكن القدس إلا جامعة موحدة تنصهر في طرقاتها خُطا الناس العابرين للجغرافيا وللجنسيات وللمذاهب والطوائف· وبهذا المعنى الكلي نتأمل القدس، بعيداً عن الحراب والاحتراب، وقريباً في الوقت نفسه من نار الألم الفلسطيني الذي يذيب الصخر لفرط عذاباته· نتوحد في القدس لأن السياط الإسرائيلية ما انفكت تلسع ظهر سيزيف الكنعاني وهو يرفع بمشقة وبلا كلل صخرة الحلم والحرية· نأتي إلى القدس بالأفكار الكبرى التي زلزلت الإمبراطوريات وأطاحت القياصرة وقصمت ظهر الطغيان·· نأتي وليس في يدنا سوى صرة أحلام أودعتنا إياها الجدات، فصارت كالوشم نحمله ونورثه ونحرس ظله العالي من النسيان· نأتي إلى زهرة المدائن كي نمسح عن عيونها رهق الاحتلال، ونوسّع لها مجرى الهواء كي تتنفس بعيداً عن دخان الديناميت وأحقاد المستوطنين والهراوات المعدة للنيل من أضلاع المصلين وهم يدلفون فرادى وزرافات نحو ساحة المسجد الأقصى والقبة المقدسة· نأتي إلى القدس بقلوبنا التي تعبر الأسلاك الكونية المزروعة بالموت، وفيما أجسادنا تتململ وراء الحدود، تسبقنا الكلمات وعلبة الألوان والأقلام والأناشيد والرؤى التي تحلّق بحناحين كونيين تمطران نجوماً وأغاني·· ويسبقنا إلى القدس هتافنا الأول القادم من شهقة التاريخ السحيق والذاهب إلى أعماق المستقبل كي يذكره بترسانة الحق الذي تكوي جمرته أكف القابضين عليه، وسيظلوا قابضين عاضين على آلام الحريق حتى تتجول الشمس في كل حواري القدس، وتقود الأحرار إلى موعدهم مع نهار العدالة الطويل·