إن تعريف الأنواع الأدبية بشكل عام ليس أمرا سهلا، كما أنه ليس أمرا محببا في نظر النقد الأدبي، ولأن عملنا منصب على علاقة المسرح بالتراث، ولأننا حاولنا أن نعطي فكرة عن ماهية التراث، وعن نظرة الدارسين له، فإنه من المنطقي في هذا الحال أن نلقي نظرة على مفهوم المسرح عند النقاد والمهتمين بهذا الحقل، وسنختار ما يوافق وجهة نظرنا من هذه الآراء، من ذلك مثلا ما تراه ( قواص، هند ) من أن كلمة مسرح مشتقة من الفعل (سرح)، فالممثلون يسرحون فوق خشبة المسرح، كما أن فكر المشاهدين يسرح عند مشاهدة التمثيلية. المسرح بهذا المعنى هو المبنى الذي يحتضن العرض المسرحي. أما ( حمادة، إبراهيم ) فإنه يعتقد بأن مصطلح ( مسرح ) له دلالات متعددة، منها دلالته على دار العرض، وعلى النص التمثيلي، وعلى كل ما له علاقة بالتمثيل والدراما. إن هذه الدلالة يتبناها ( إبراهيم، أحمد ) عندما يذكر أن أصل كلمة المسرح theater يعود للكلمة اليونانية theatron التي تعني مكان الفرجة أو المشاهدة، حيث يحضر المشاهدون لمناظرة ممثلين يتحركون في الفضاء المسرحي لتقديم حكاية بالحوار، والحركة عن خبرة إنسانية، غير أن الباحث ( إبراهيم، أحمد) يوضح بأن الحالة المسرحية - في رأيه – لا يصنعها المبنى المعد للمسرح فحسب، بل تتشكل من خلال التفاعل الحي لأربعة مكونات هي: الممثلون، والنص المسرحي، والركح أو الخشبة، والجمهور. ونستنتج مما تقدم أن «المسرح نشاط إبداعي فكري حرفي من جهة إرساله، وهو يحتاج في الوقت نفسه إلى نشاط جماعي بشري متلق له، فالمسرح إبداع تعبيري معروض في حالة من الأداء الحاضر على متلقين حاضرين جسدا وذهنا ومشاعر.» إن المسرح فن درامي يراهن على تحويل النص المسرحي إلى عرض يجسده الممثلون على الخشبة مستعينين في ذلك باستخدام مختلف الفنون التعبيرية، ولذلك نلاحظ أن المسرح عادة ما يوصف بكونه (أبو الفنون). ولقد اختلف النقاد والدارسون، بل وحتى المنظرون حول جنس فن المسرح ونوعه وتمحورت الإشكالية حول سؤال جوهري هو: هل المسرح أدب أم ليس أدبا ؟ ومن الطبيعي أن تتباين المواقف إذا اختلفت المنطلقات، فالذين يصنفون المسرح ضمن أنواع الفنون، يستندون إلى فكرة أن المسرح عرض يقوم على تفاعل مجموعة من الفنون التي تتداخل في تشكيل ذلك العرض المسرحي، أما الذين يعدونه شكلا أدبيا، فإنهم يستندون إلى فكرة أن المسرح نص مادته الكلمة وموضوعه حياة الإنسان، وهو ما يجعلنا نخلص إلى أن المسرح «ضرب من الأدب عند تناوله بكونه نصا، وضرب من الفنون عند تناوله بكونه عرضا.» إن المسرح بوصفه إبداعا أدبيا يحيلنا مباشرة إلى قضية النص، وإن «أول ما نلاحظه على المسرحية ك ( شكل ) أدبي أنها تقوم على الحوار.» على هذا يمكن أن نخلص إلى أن النص المسرحي « نوع من الأدب المعد للتمثيل أي أن يتقمص ممثلون أشخاص النص.. وهذا ما يميز النصوص الدرامية عن غيرها من النصوص الشعرية والسردية، قابليتها للتمثيل والتقديم للجمهور من خلال عرض مسرحي تتعدد عناصره. « وصفوة القول فإن المسرح فن يقوم على عرض قصة تعكس صراعا يدور بين شخصيات تعبر عن نفسها بواسطة الحوار. ولأن المسرح فن الناس والساحات، فإن ذلك قد جعله من أكثر الفنون تحريضا على التغيير والتصاقا بالسياسة وفاعلية في حياة الشعوب والأمم في ماهية الثورة يتعدد مفهوم لفظ الثورة بتباين سياقاته وغايات استعماله، ولكنه في الاستعمال السياسي يعني « قيام شعب بحركة سياسية أو عسكرية أو هما معا، من أجل تغيير وضع راهن سيئ، وإبداله بوضع جديد أفضل منه». ومن هنا فإن أساس الثورة رفض الواقع القائم والسعي إلى تغييره نحو الأحسن، فمصطلح الثورة كما يرى« الشيخ صالح، يحيى» يحمل معنى الرفض منطلقا والحدة أسلوبا والتغيير الجدري الشمولي هدفها، ولذلك فإن النظرة الثورية- في رأيه- هي التي ترمي إلى رفض الأوضاع من أساسها وإلى مقاومة المستعمر وتحقيق الاستقلال. وتجدر الإشارة هنا إلى وجود فروقات جوهرية بين مفهوم الثورة والإصلاح من جهة وبين مفهوم الثورة والحرب من جهة ثانية. فبخصوص الثورة والإصلاح نلحظ أن الثورة تراهن على التغيير الجذري الشامل لكل مجالات الحياة وقطاعاتها، في حين أن الإصلاح ينشد التغيير في مجالات جزئية محددة اجتماعية أو دينية مثلا، وذلك على غرار الحركة الإصلاحية التي قامت بها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين منذ تأسيسها سنة 1931. أما بخصوص الثورة والحرب، فالملاحظ أن الحرب تقوم على المواجهة العسكرية بين قوتين متحاربتين أو أكثر، في حين أن الثورة تتجاوز الطابع العسكري إلى خلق المواجهة الشاملة لكل القطاعات ضد القوة الأخرى والتي عادة ما تكون غازية أو احتلالية، ولذلك يرفض أغلب الباحثين في موضوع ثورة التحرير الجزائرية استخدام مصطلح « حرب الجزائر » لأن الصحيح هو أنها « ثورة » وليست مجرد حرب، ومع ذلك « فإن الثورة التحريرية الوطنية الجزائرية المظفرة لقاء ضريبة مأساوية جسيمة تزيد على مليون من الضحايا، ربما مليون ونصف، وإحراز شعب بأكمله على الاستقلال يظلان ينعتان بصفة غير لائقة ب « حرب الجزائر » بقلم أغلبية المؤرخين والصحافيين ورجالات السياسة الفرنسيين... إن اللجوء إلى هذا العنوان ينم عن الجهل أو الاستخفاف المقصود بالشرعية التاريخية لثورة تحريرية وطنية ». إن مفهوم الثورة أشمل من مفهوم الإصلاح، وأكبر من مفهوم الحرب، إذ أن الإصلاح تغيير جزئي في حين أن الثورة تغيير شامل، كما أن الحرب رهان عسكري وهذا يعني أنها وسيلة من وسائل الثورة وليست كل الثورة. ملتقى المسرح والثورة إن غاية كل ثورة إنما هي تحقيق التغيير الجدري نحو الأفضل، وربما يكون أقرب رمز يدل على وسيلة الثورة هو الرصاصة، ذلك أن العنف أحد مميزاتها، غير أن الرصاصة ليست وحدها أداة الثورة فالفنون بأنواعها المختلفة لها إسهاماتها الفاعلة في الثورة، والتحريض عليها ونشرها، وتحقيق هدفها، وهو التغيير الجدري الشمولي. « والحق أن فن المسرح هو أكثر الفنون قدرة على التحريض، لأنه إضافة إلى كونه فن الناس والساحات، فهو تجمع يقوم على المواجهة المفتوحة بين ثنائية العرض والجمهور، بين الإنسان الممثل والإنسان المتفرج، فالمسرح في جوهره خطاب سياسي يتبنى التحريض والثورة فيوجه المرآة نحو الهدف المنشود بالتغيير ». ومن هنا نلاحظ أن كلا من المسرح والثورة يلتقيان في الهدف المنشود وهو التغيير، ولكنهما يختلفان من حيث الوسيلة، إذ أن وسيلة المسرح هي التمثيل في حين أن وسيلة الثورة هي الرصاصة. وفي الحقيقة أن وجوه الصلة بين المسرح والثورة تتعدد وتتداخل فالمسرح يصنع الثورة إذ تصنعه، والثورة تصنع المسرح إذ يصنعها فما « ثورة السياسة آخر الأمر إلا استجابة لثورة العقول والقلوب... ولست أعرف ثورة سياسية بالمعنى الحديث أو القديم للفظ الثورة إلا وقد سبقتها ثورة أدبية عقلية كانت هي التي أغرت الناس بها، ودفعتهم إليه». إن مستويات العلاقة بين الفن والثورة متداخلة ومتشابكة، فقد يسبق الفن ومنه المسرح الثورة فيمهد لها ويحرض عليها ويسعى إلى خلقها من خلال الدعوة إلى قيامها، وقد تسبق الثورة الفن فتمده من حوادثها ووحيها وقيمها ما يجعله يغرف من ينبوعها، وقد يلتحم الفن بالثورة فيواكبها ويكون صوتها وصداها، ومهما تباينت مستويات تلك العلاقة فإن الفن الأصيل لابد وأن يكون لسان الثورة ووسيلة هامة من وسائلها، إذ لا فرق بين فاعلية الرصاصة وفاعلية الكلمة، والصحيح في مستويات العلاقة أنه في البدء كانت الكلمة، ففي حالة الثورة الجزائرية مثلا يقول: « مرتاض، عبد الملك»: « إن من الناس من يعتقد اليوم في الجزائر أن ثورة فاتح نوفمبر 1954 لم يكن وراءها مفكرون، ولنكرر ذلك، فهي ثورة شعبية وكفى ! ونحن لم نر أخطل من هذا الرأي قيلا. ذلك بأن هذه الفكرة تحمل مغالطة تاريخية وفكرية لا تقبل. إنا لنعلم أن الفكر مصدره الدماغ، وأن الدماغ، من الوجهة العلمية، هو المتحكم في كل حركة من حركات الجسم، فالجسم يتلقى الأوامر أبدا من هذا الجهاز العجيب، وإذا تعطل الدماغ تعطلت الأوامر المصدرة إلى الجسم فيتوقف عن الحركة، ويعجز عن النهوض بأي وظيفة مادية، ولا يعقل أن تكون حركة ثورية عظيمة، كثورة التحرير العارمة، ولا يكون وراءها عقول مفكرة، وأدمغة مدبرة قبلها وأثناءها». إن تأثير المسرح في المتلقي عظيم جدا حتى أننا « نستطيع أن نمثل هذه العلاقة بمحرض ومتحرض يتولد بينهما تيار ينقل الشحنة ويصب أهداف وخلاصات وحرارة نبض ما يجري على المسرح في أعماق نفس المتفرج الفرد، الذي يشعر بالشحنة الوافدة إليه من خشبة المسرح تفترس كيانه وتمتلك مشاعره، وتغزو روحه، فيعيش تحت تأثيرها كل مراحل العمل الفني، ويمنح نفسه لها برضى، ويتركها تنغرس في ذاته بارتياح واستسلام وتنمو بما تملك من قدرة ذاتية ومكتسبة على النماء حتى تصبح ذات قوة قادرة على أن تحرضه وتدفعه إلى سلوك ضمن الجماعة وفي حياته اليومية معها، يؤكد ويجسد الفكرة والاحساس، القناعة والقيمة، التي غرستها الشحنة الوافدة من المسرح في أعماقه. وهكذا يتحول الفرد إلى طاقة مشعة أو إلى محرض، يرسل شحنات جديدة، في جسم المجتمع الكبير، ويسهم في تغييره بالقول والعمل. ومن هنا جاءت أهمية ذلك الدور الكبير الذي يلعبه المسرح في حياة المجتمع، ويلعبه الفن فوق خشبة المسرح، ويلعبه الأديب والفنان في حياة الأفراد والشعوب». إن الدارس للمسرح الجزائري مند ولادته في العشرينات من القرن الماضي ليلاحظ تفاعله مع تطور الحركة الوطنية وتشكله بسماتها وامتزاجه بتياراتها وطروحاتها السياسية فكانت انطلاقته مواكبة لانطلاقة الحركة الوطنية بقيادة «الأمير خالد » الذي انخرط بنفسه في تفعيل النشاط المسرحي. فبعد مخاض عسير من الولادة انطلقت الحركة المسرحية الجزائرية ساعية إلى تجدير هذا الفن في أوساط الجماهير. فكان مسرحا جزائريا شعبيا مقاوما طرح بأسلوب فني أسئلة الذات الجزائرية العميقة بمواجهة الآخر الاستعماري، كما أنه قام بدور المحرض على الثورة قبل اندلاعها، فكانت له صدامات عديدة مع إدارة الاحتلال، فمنعت نشاطاته حينا ووضعت نصوصه وعروضه تحت المراقبة أحيانا، ومن مساحة الكوة التي سمحت بها إدارة الاحتلال استطاع المسرح الجزائري مرافقة خطوات المقاومة والتحريض على الثورة، إذ اتخذ كل فضاء يجده منبرا له وهكذا نشط المسرح في العمل السري والسجون والمعتقلات وفي الجبال وخارج الجزائر وعبر الأثير من خلال المسرحيات الإذاعية الثورية. إن المسرح يشخص الثورة ويشعلها، كما أن الثورة تفتح مجال الإبداع والخلق للمسرحي، فهي تمده بالمشاهد وتخلق له الرؤى، وإذا كانت ثورة كتاب المسرح في مختلف الآداب العالمية تتنوع بتنوع منطقاتهم الفكرية ورؤاهم العقيدية والإيديولوجية وهو ما تحدث عنه أحدهم حيث قال: « فالثورة الخلاصية تحدث عندما يثور الكاتب المسرحي على الرب ويحاول أن يأخذ مكانه: هنا يتأمل الكاهن خياله في المرآة، وتحدث الثورة الاجتماعية عندما يثور الكاتب على العرف والأخلاق والقيم في التكوين الاجتماعي: هنا يوجه الكاهن المرآة إلى الجمهور، وتحدث الثورة الوجودية عندما يثور الكاتب على ظروف وجوده: هنا يوجه الكاهن المرآة إلى الفضاء». وإذا كان مصدر هذه الثورات في الآداب الأجنبية، مرتبط بثورة الكاتب ذاته ورؤيته للحياة والكون من حوله، فإن تفاعل المسرح العربي مع الثورة الجزائرية منذ انطلاقتها في أول نوفمبر 1954 مصدره النوازع القومية التحررية، فليست الثورة هنا جزء من الكاتب المسرحي ولكنه هو الجزء منها إذ « تعتبر الثورة الجزائرية، بكل موضوعية، أكبر ثورة عرفت في إفريقية والعالم العربي إطلاقا. وهي من أكبر الثورات في العالم. وعظمة الثورة الجزائرية لا تتمثل في هزم أكبر جيش استعماري حاول أن يتحدى مسيرة التاريخ... وإنما يتمثل أيضا في استمراريتها ومواقفها المشرفة في المحافل الدولية. بحيث أصبحت الجزائر في عهد قصير ذات سمعة دولية محترمة وواسعة». لقد برهنت هذه الثورة العظيمة أن « الجزائر لم تكن قلبا ميتا ولا طائرا مكسر الجناحين، بل هي قلب شاب ينبض بالحياة والحيوية والنشاط، وصقرا لا تناله السهام والنبال ولا تفلت منه فريسته مهما كانت طاغية أو شرسة. إن ثورة أول نوفمبر 1954 من هذه الناحية هي البعث الجديد للجزائر الجديدة والحديثة، بكل أبعادها ومفاهيمها، وقيمها الحضارية العريقة وأمجادها البطولية الخالدة » ونستخلص مما تقدم أن المسرح يتقاطع مع الثورة في مستويات عدة إذ «هناك من يقول بأن الأدب الثوري الحقيقي هو الذي يحس بحجم وعنف الحدث أو المأساة، قبل الوقوع، فيندفع إلى الأمام ليدق أبواب الغيب، ويستشف معالم المستقبل، يحلم بالثورة، ويمهد لها، قبيل وقوعها، فيرتفع إلى مستوى النبوءة. وهناك من يردد: بل هو ذاك الذي يأتي أو لا يأتي بعد مرور فترة من الزمن، قد تطول أو تقصر، بحسب مقتضيات الظروف والأحوال، بعد أن تستقر الأوضاع، وتتضح الأمور، وتجتمر الأشياء والأفكار في الذاكرة، وتنمو تلك البذرة الطيبة فإذا هي شجرة مباركة جذورها في الأرض وفروعها في السماء، وهناك من يرى بأن أدب الثورة هو الذي يعيش معها ويعايشها عن قرب ملتحما بلحمها وعظامها، يحتضن همومها ومكاسبها يواكب عن كثب أحداثها ووقائعها، ويغمس قلمه في دمها ولهيبها. لكن ومهما كانت مستويات هذه العلاقة. فإن عظمة الثورة الجزائرية قد ألقت بظلالها وآثارها على الإبداعات الفنية، فعلى مستوى فن المسرح راحت هذه الثورة تمده بمواد المقاومة وتسلحه بعمق الصراع وقوة الخطاب الثوري فظهرت بعض الأعمال المسرحية الجزائرية والعربية والعالمية التي سعت إلى تصوير الثورة الجزائرية والتعبير عن حوادثها وقيمها وبالتالي تمجيدها وتخليدها في آثار مسرحية – على قلتها- إلا أنها حاولت توقيع حضور الثورة الجزائرية في الإبداع المسرحي. -يتبع-