مرت السنوات، والعقود، وطوت الملكة البريطانية، عامها ال70 في الحكم، لتصبح أكثر من جلس على العرش في تاريخ بلادها، وكان الثابت شيئا واحدا: لم تتقاعس عن خدمة شعبها رغم الصعوبات والتحديات. الملكة إليزابيث الثانية التي رحلت عن عمر يناهز 96 عاما الخميس، دقت أبواب قلوب البريطانيين، منذ لحظتها الأولى في الحكم في فيفري 1952، لتصبح الملكة الأكثر شعبية في تاريخ البلاد، وتصفها مجلة فورين بولسي الأمريكية بأنها «شمس ساطعة لإمبراطورية غابت عنها الشمس». لكن شمس إليزابيث غربت الخميس بعد أزمة صحية، لتترجّل تاركة العرش لنجلها ووريثها تشارلز، الذي بات تلقائيا ملك بريطانيا الجديد تحت اسم « تشارلز الثالث»، لتبدأ معه مرحلة جديدة للمملكة المتحدة وللعائلة المالكة. حداد وطني فيما ينعى العالم والدته، قال قصر باكنغهام البريطاني أمس، إن الملك تشارلز الثالث أعلن حدادا ملكيا ينتهي بعد أسبوع من جنازة الملكة. وذكر القصر في بيان أن الحداد الملكي «سيستمر من الآن وحتى سبعة أيام بعد جنازة الملكة»، لكنه لم يحدد موعد الجنازة. كما ألقى تشارلز الثالث أول خطاب رسمي بصفته ملكا لبريطانيا، في أجواء حزينة على وفاة والدته. وبحسب «عملية جسر لندن»، وهو الاسم الرمزي لخطة مفصلة للغاية يتم وضعها منذ لحظة الوفاة ولغاية الأيام والأسابيع التي تلي ذلك، فإنه باليوم التالي للوفاة، يلتقي مجلس الملكة الخاص بمجلس ارتقاء العرش، ليعلن رسميا تشارلز ملكا. وفي اليوم ذاته، يلقي تشارلز أول خطاب رسمي له بصفته ملكا، وبعد ذلك يجري جولة في المملكة المتحدة تشمل اسكتلندا وأيرلندا وويلز، قبل العودة إلى لندن. تحدّيات وتشهد المملكة المتحدة حالة حداد على الملكة التي تركت فراغا كبيرا نظرا لما يكنه لها البريطانيون من حب، خصوصا أن الكثيرين منهم لا يعرفون غيرها على عرش بلدهم، وقد نجحت طوال حياتها في حماية الملكية رغم الأزمات. والتحديات كبيرة لتشارلز الذي يرى البعض أن شعبيته أضعف بكثير من والدته ووريثه الأمير وليام. ويرث تشارلز مملكة تواجه أزمة اقتصادية واجتماعية خطيرة وانقساما بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ورغبات في الاستقلال وتوتر في اسكتلندا وأيرلندا الشمالية، واضطرابا سياسيا مع تولي رابع رئيس للوزراء السلطة، خلال ست سنوات. أوّل رسالة متلفزة تفاصيل برنامج الأيام المقبلة المعد منذ سنوات، غير مؤكدة لكن الخطوط العريضة معروفة، ففور عودته، أمس، إلى لندن مع كاميلا التي أصبحت قرينة الملك، خاطب الملك الجديد البريطانيين للمرة الأولى عبر شاشة التلفزيون، في رسالة مسجلة مسبقا. وسيلتقي رئيسة الوزراء ليز تراس التي كان تعيينها رسميا من قبل إليزابيث الثانية الثلاثاء آخر مهمة دستورية قامت بها الملكة في حياتها المكرسة لدورها حتى النهاية. وتحدث تشارلز للمرة الأولى، مساء الخميس، في بيان عبّر فيه عن «حزن العائلة الشديد» بعد وفاة «صاحبة الجلالة العزيزة والأم الحبيبة». وقال «أعلم أن خسارتها ستلمس بعمق في جميع أنحاء البلاد والممالك والكومنولث ومن قبل عدد لا يحصى من الناس حول العالم». هذا، والملكة الراحلة حاضرة في حياة البريطانيين، من الأوراق النقدية إلى الطوابع. وكان عشرات الآلاف من الأشخاص تجمعوا مطلع جوان الماضي، لرؤية الملكة للمرة الأخيرة على شرفة قصر باكنغهام بمناسبة اليوبيل البلاتيني لاعتلائها العرش قبل سبعين عاما. محطات فارقة بمسيرة حافلة ولدت الملكة إليزابيث في 21 أفريل عام 1926 بلندن، وكانت المولود البكر لألبرت، دوق يورك، الابن الثاني لجورج الخامس وزوجته الدوقة إليزابيث بوز-ليون. تلقَّت تعليماً خاصّاً في منزلها، ودرست الأميرة التاريخ الدستوري واللغة الفرنسية فيما إرتقى والدها، جورج السادس، إلى عرش بريطانيا بعدما تنازل له شقيقه إدوارد الثامن عنه في عام 1936، ومُنذُ ذلِك الحين أصبحت إليزابيث الوريث المفترض للعرش. متى حكمت؟ بعد وفاة والدها الملك جورج السادس، وبعمر 25 عامًا، تولت إليزابيث، المعروفة باسم ليليبيت بين أصدقائها، العرش. وتوجت في كنيسة ويستمنستر في 2 جوان 1953، وكانت تلك المرة الأولى التي تمكن فيها العامة من مشاهدة هذا الحدث المقدس. ووفقا للتقارير، سمحت إليزابيث لكاميرات التلفزيون ببث الحفل، في إشارة قوية إلى أن ملكيتها كان عهدًا جديدًا ومنفتحًا وذو صلة، وقالت في كلمة لها حينها «أعلن أمامكم جميعًا أن حياتي، سواء كانت طويلة أم قصيرة، ستكون مكرسة لخدمتكم وخدمة عائلتنا الملكية العظيمة، التي ننتمي إليها جميعًا». أبناء الملكة إليزابيث في 20 نوفمبر عام 1947، تزوجت الأميرة إليزابيث من حبيب طفولتها، أمير اليونان والدنمارك، فيليب. وفي العام التالي، وتحديدا في 14 نوفمبر 1947 ولد الأمير تشارلز، أمير ويلز. وأنجبت الملكة ثاني أبنائها الأميرة آن في 15 أوت 1950، ثم الأمير أندرو (دوق يورك) في 19 فيفري 1960، وأخيراً الأمير إدوارد، (نبيل وسكس) في 10 مارس 1964. صلاحيات الملكة قادت الملكة إليزابيث البلاد كرئيسة للمملكة المتحدة والدول التابعة لها لمدة 70 عاما، واحتفلت في جوان الماضي باليوبيل البلاتيني لجلوسها على العرش. ووفقا لتقرير نشرته هيئة الإذاعة البريطانية، تمتعت الملكة إليزابيث الثانية - وأي ملك أو ملكة بريطانية - بما يطلق عليه الصلاحيات الملكية، وهي باقة من الصلاحيات التي ينص عليها الدستور البريطاني غير المكتوب. والصلاحيات السياسية اليوم رمزية إلى حد بعيد، ومن بينها حل البرلمان واستدعائه للالتئام وحضورها جلسته الافتتاحية. وكذلك صلاحية التصديق على القوانين وتعيين وإقالة الوزراء وصلاحية تعيين رئيس الحكومة. وبخصوص صلاحية إعلان الحرب، تحتفظ الملكة (أو الملك) بصلاحية إعلان الحرب على دول أخرى، مع أن هذه الصلاحية تمارس عمليا من قبل رئيس الحكومة والبرلمان. وكذلك صلاحية الاستثناء من المقاضاة، فبموجب القانون البريطاني، تعد الملكة فوق القانون ولا يمكن مقاضاتها أبدا، كما لا يمكن محاسبتها في القضايا المدنية. وارتبطت اليزابيث بشدة برفيق حياتها زوجها دوق أدنبرة الأمير فيليب، الذى توفي في 2021، عن عمر ناهز 99 عامًا، وحضر كبار أفراد العائلة المالكة جنازة تقلص حجمها بسبب فيروس كورونا. وأجبرت إليزابيث على الوقوف وحدها مع مشاهدة إنزال تابوته إلى الغرفة الملكية في قصر ويندسور، مودعة زوجها الذي رافقها ل73 عامًا، وقد كان الرجل الذي وصفته بأنه مصدر قوتها وقدرتها على الاستمرار.