يسعى الروائي المعاصر خلق إبداع جديد من خلال تجديد أدواته التعبيرية، رغبة منه في تشبيبها وإخراجها من متحف الأدوات المستهلكة، لذلك جعل قلمه يرتوي من الفلكلور الشعبي، والخرافات من خلال تطعيم نصه الروائي بالموروث، وسعى إلى الاستعانة بالأسطورة لإضافة شيء من العجائبية والفانتازيا على نصه مع الرغبة في تحديث التراث. استلهم الروائي المعاصر من النصوص الأخرى من خلال المثاقفة وتحقيق تفاعل جديد قصد خلق روح جديدة لنصه وبعث إبداع بروح حداثية ونفس جديد لبناء نص سردي جديد. المثاقفة في رواية «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي حاولت الروائية أحلام مستغانمي الاستفادة من النصوص الغربية في روايتها «ذاكرة الجسد»، رغبة منها إثراء عملها الروائي. حيث سبحت روايتها في بحر من الثقافات تناولت أقوالا لفنانين غربيين، رسامين، كتاب، فلاسفة .. إلخ، رغبة منها الارتقاء بعملها إلى مصاف العالمية والتي نشهد بنجاحها في الوصول إلى مبتغاها. توحّدت شخصية أحلام (حياة) مع البطل خالد الذي شبهته «بزوربا»؛ لأنّها أعطت بطلها صفات هذا البطل الخرافي الهارب من أسطورة إغريقية تقول «فيك شيء من زوربا. شيء من قامته .. من سمرته .. وشعره الفوضوي المنسق». القامة وفوضوية الشعر وسمرة البشرة هي صفات تعشقها البطلة حياة، ووجدتها في بطلها خالد، تقول أيضا «يعجبني جنونه، وتصرفاته غير المتوقعة .. علاقته العجيبة بتلك المرأة، فلسفته في الحب والزواج .. في الحرب وفي العبادة، وتعجبني أكثر طريقته في أن يصل بأحاسيسه إلى ضدها» استشهدت أحلام مستغانمي بقصة «زوربا» في موقفين، موقف إغراء حبة الكرز له وإفراطه في أكلها مما جعله يتقيأ منها وأصبح يكرهها، كذلك حصل الموقف معها مع البطل خالد، بعدما تعودت عليه ماتت كل مشاعر الحب التي تكنّها له وأصبح رجلا عاديا بالنسبة لها. استحضرت رقصة «زوربا» فوق الخراب وشبهتها بحال الوطن العربي. ومأساة المواطن العربي، غير أن بطلها طموحه وحلمه أكبر ولن يرضخ للواقع «فلابد أن تكون لك أحلام فوق العادة، وأفراح وطموحات فوق العادة لتصل بعواطفك تلك إلى ضدها بهذه الطريقة»، رفض خالد على جثث رفاقه في الحرب وأولهم والدها. في مشهد مأساوي يعاتب حسان لما لم يقرأ زوربا، لأنّه لو قرأه لاستفاد من تجربته ولم يعجب بقاتليه وإنما لكان قال: «أيها السراقون، القتلة، لن تسرقوا دمّنا أيضاً، املئوا جيوبكم بما شئتم، أثثوا بيوتكم بما شئتم، وحساباتكم بأي عملة شئتم .. سيبقى لنا الدم والذاكرة بهما نحاسبكم.. بهما سنطاردكم .. بهما سنعمر هذا الوطن من جديد»؛ لأنّ حلم حسان حلم تافه لا يستحق أن يقتل لأجله. بل كان يجب عليه أن يحلم أحلاماً كبيرة، أعمق من منصب في مدينته، أو ثلاجة يفرح بها زوجته عتيقة، أو محل مواد غذائية. عبثية الحياة جعلت زوربا يستهزئ منها وأيضاً البطل خالد « مشهد لو رآه «زوربا» لأجهش راقصاً لنساء علقت رؤوسهن على أبواب بيوتهن البائسة في مدينة عربية .. لكن لا تهتم زوربا .. يا صديق الأرامل لا تحزن، الجميلات الصغيرات لا ترملن. إنهن يزين قصور سادة الحروب» رقصة زوربا هي رقصة نضالية ضد اليأس والفشل، ضد الظلم. لأن زمن «زوربا» زمن عبثي ظالم شبهه البطل خالد بزمنه يقول: «لزمن كان الناس يبحثون فيه عن خرافة كهذه، عن آلهة إغريقية جديدة تعلمهم الجنون والتحدي وعبثية الحياة» لأن هذا الزمن المأساوي يحتاج استحضار بطل خرافي أو آلهة إغريقية حتى يستمد منها الحياة. هي دعوة إلى الحلم؛ لأنّه الشيء الوحيد الذي يعطي أملا للشخصية رغم مرارته أحياناً تقول: « ففي أية لحظة، قد تأخذ الحياة قصته مأخذ الجد، وتعاقبه بها أو تعاقب ذلك المسكين الذي وقع تحت سطوة الكلمات، ولم يعد يدري وهو يقرأها، أين يقبع الخط الفاصل بين الوهم والحياة» و « يمثل اعترافاً لا شعورياً في اللاوعي من قبل الروائي بأن الحلم امتداد للواقع في الصراع الروائي والحياتي، كما يؤكد قاعدة سيكولوجية وهي تلازم الحلم بالواقع». توظيف المحمول الغربي للتعبير عن مشاكل الوطن برمزية أعمق أرادت الكاتبة توظيف المحمول الغربي لتعبر عن مشاكل وطنها برمزية أعمق. ورغم ذلك حاولت أحلام مستغانمي ألا تعوّد قلمها على أكسجين الحرية؛ لأنّ سجّان حريتها متربص بها لذلك رأت أن سلامتها تكمن في الاستنجاد بآراء كتاب غربيين، وتطبع شخصياتها بطباعهم. عشقت أحلام الكتّاب الذين يحوّلون لحظة ألم إلى لحظات أمل، واستخفاف بالألم، تقول: « تمنيت دائماً لأن أشبههم بأولئك الرائعين، الذين يأخذون كل شيء مأخذ عكسه، فيتصرفون هم وأبطالهم بطريقة تصدم منطلقاً في التعامل مع الموت والحياة والخيانة والنجاح والفشل.. والفجائع .. والخسارة. ولذلك أحببت زوربا الذي راح يرقص، عندما كان عليه أن يبكي» هي رغبة إخضاع المأساة والموت بالحياة. تناولت لوحات عالمية مثل الجوكندة حيث جاء على لسان البطل زياد « الفن للفن لا يقنعني، والجوكندة المحترمة لا تهزمني، أحب الفن الذي يضعني في مواجهة وجودية نفسي» ليتساءل أيضاً «بأي يد تراه رسم الجوكندة ليمنحها الخلود والشهرة» هذه اللوحة الظاهرة جعلت أحلام مستغانمي تتناولها في رواية فوضى الحواس. لقد شبّهت والدتها بلوحة الجوكندة؛ لأنّها غامضة مثلها وحزينة وهادئة، كنوع من الاستسلام اعتمدت والدتها الصمت. كذلك رمز الرسام للوحة الجوكندا بالخضوع للقدر من خلال تفاصيل وجه سيدة لا نعرف أهي سعيدة مع ابتسامة هادئة أو تعيسة بنظرة حزينة «ها هي ذي غامضة وهادئة كالجوكندا وأنا أكره الجوكندا، أكره الملامح الهادئة، والأنوثة المسالمة، والأجساد الباردة، فمن أين جاء أمي كل هذا الصقيع؟ أمن استسلامها للقدر؟ أم من جهلها» هذه اللوحة هي معاناة لامرأة توحدت فيها أحزان ليزا مع أحزان الأم. شبهت خراب بلدها بخراب مدينة «بيكاسو» في لوحته الشهيرة التي صور فيها الدمار يقول بل رواية فوضى الحواس: «خراب تلك المدينة على أيدي الفاشيين فجاء منهم من يسأله أنت الذي فعلت هذا؟ فرد عليهم بجوابه الشهير: لا، بل أنتم». استعار البطل جملة بيكاسو إذا سئل عن خراب مدينته «لو سألتني لأجبتك مثله: لست أنا .. بل هو» عندما وصف أحداث أكتوبر 1988 ورثاءه لحال المدينة الهادئة قسنطينة التي أصبحت خراباً يقول: « مدينة تحكمها الدبابات، كل شيء قائم فيها قد أصبح أرضاً، حتى أعمدة الكهرباء» تأثر البطل لحال مدينته بعدما عاث فيها المسلحون الدمار. لذلك تساءل البطل إذا كان الرسامون أنبياء أيضاً. هي رمزية لفلسفة تنويرية. تناولت فن النحت وإعجاب البطل بآلهة الجمال فينوس «لأنها المرأة الوحيدة التي ارتحت لها حتى الآن، والتي قاسمتني معظم سنوات غربتي» يقول أيضاً «ما استطاعوا أن يجعلوا تمثالها ينحني ولا يديها المبتورتين تصفقان لحاكم أو ملك» ربما لأن التمثال المبتور اليدين يجعل البطل العاجز لا يحس بأنه بذراع واحدة، لأنه تفوق على التمثال، إنه كامل أمامه. وهو أيضاً لم ينحن أمام قائد، أو حاكم، بل فضّل ذراع مبتورة على أن يصفّق لحاكم ظالم. كنوع من المثاقفة وتحقيق توازن للنص تناولت ربيعة جلطي الفن بأنواعه: الرسم، الرقص، العلوم. رغبة منها تأثيث عالمها الروائي بصورة حداثية تقول: «كانت تتعاظم في صدري لزيارة اللوفر ومشاهدة بالعين المجردة لوحة غويا «لاماخاديزنودا» ولوحة «لاجوكند» ليوناردو دافنشي لم تعد ملحة» تقول: «أيضاً ربما تأتيك النصيحة النافعة عن لسان مجنون». وحضور الموسيقى في قولها: «صوت مغني الجاز «لويس آرمسترون» في عناق جارف قدسي بصوت «إللا فيلتر جيغالد» في أغنية «وقت الصيف» أغنية شجية حطت فوق كل المنجزات الجميلة في العالم مثل فراشة، وغناها فنانون كثر» إذ شبّهت مأساة الوطن أحلام بأسطورة «زوربا»، ربيعة جلطي جعلت مأساتها تشبه موسيقى الجاز الصاخبة التي تعبر عن كل مكبوتات النفس من خلال رقص مجنون فيه رغبة للانعتاق حيث حملت موسيقى الجاز هموم وأوجاع نضال السود في أمريكا، تقول: « تحمل أوجاع تاريخ السود الأمريكيين ورغبتهم العتيقة المعتقة في الانعتاق» هو ذوبان بين الألم واللذة، تدفن الذات مواجعها من خلال أنغام مزلزلة. تقول أيضاً أحلام مستغانمي في روايتها فوضى الحواس « كنت مأخوذة بمقولة ل «أندرية جيد»: «إن أجمل الأشياء هي التي يقترحها الجنون، ويكتبها العقل» .. مأخوذة بها لدرجة أنني، عندما اقترح عليّ الجنون أن أذهب إلى موعد ضربه بطل في قصتي لامرأة أخرى، أخذته مأخذ الجد، وقررت أن أذهب بذريعة كتابة شيء جميل. كنت مرتبكة لعدة ساعات قبل الموعد، ذلك الارتباك الذي يسبق لقاء لا ندري ماذا ينتظرنا فيه، ولكننا نصرّ على الذهاب إليه، لأن شيئاً ما يأمرنا بأن نذهب» القلم المستغانمي مليء بالدلالات الرمزية. وطبع شخصياتها تشابه مع شخصيتها الواقعية، خالد هو نفسه أحلام. المحمول الثقافي في رواية «تاء الخجل» لفضيلة الفاروق فضيلة الفاروق بدت متأثرة بالكاتب «غي دي كار» تقول: «كان حين يأتي زوجته باكياً تسأله: من مات من أبطالك؟» فضيلة تتأثر أيضاً عند قتلها لشخصية من رواياتها «كان دمعي غزيرا تلك الليلة، فقد تركني بطلي وحيدة بين الجدران، بعد أن كان يسامرني لليال طويلة، ويسمح لي بالتصنت عليه وحبيبته. لقد فاجأني ذات ليلة مقمرة بشبه كبير بينه وبين نصر الدين، وقد سألته «لماذا تشبهه؟» فأجابت الذاكرة:»نُسخ الحب واحدة دائماً»!» اختارت «غي دي كار» لأنّه يصف شراسة الحياة مثلها، ويجعل شخصياته تسكنه، كما تسكنها شخصياتها هي. تأثرت فضيلة الفاروق بفلسفة «غي دي كار» تقول: «أمام رجل نواجه كل الأخطار» وردت مقولة لتوماس ستيرنز إليوت بالفرنسية وترجمتها إلى العربية «Toute terreur peut être connue Chaque chagrin a une fin quelconque Dans la vie il n'y a pas du temps pour les longs chagrins» «وكل رعب له ما يميزه كل أسى له نهايته لا وقت للحداد الطويل في هذه الحياة» لأن كل ذلك الرعب الموجود في تاء الخجل موجود في فلسفة إليوت. التلاقح الثقافي في رواية «كوكب العذاب» لشهرزاد زاغز «زاغز شهرزاد» وظفت محمولاً ثقافياً كثيراً، في روايتها «كوكب العذاب» تقول: «اعتقاد المفكرين والشعراء بوجود الجسد غير المادي: دانتي، جاكوب بولهم، وليم بليك، بلزاك باسكال، فرنسيس بيكون، سبينوزا، وودزورث، سويد نيرغ، أمرسون، تنيبسون...» تناولها لهذا الكم من الكتاب والشعراء دلالة على الثقافة الواسعة للكاتبة شهرزاد زاغز. «ما سكتت عنه شهرزاد أجاب عنه شهريار في كوكب العذاب» منذ ألف ليلة وليلة والأنوثة المعطوبة تحاول الثأر من شهريار في كل بوح ومداعبة للقلم. مازال نص ألف ليلة وليلة يُلهم مخيلة المبدع العربي، ويغازله لإبداع نص يتناص معه، يقتبس منه البنية والشخصيات «وقد تتعدد طرائق الروائيين في توظيف ألف ليلة وليلة، فبعضهم أقام بناء روايته على بناء ألف ليلة وليلة، ووظفها بشكل كلي، كما فعل نجيب محفوظ في روايته «ليالي ألف ليلة»، وبعضهم ضمن روايته حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة، كرواية «سلطان النوم» و «زرقاء اليمامة» لمؤنس الرزاز، في حين اكتفى بعض الروائيين بالإشارة إلى بعض الصور والموضوعات» اتجهت شهرزاد إلى ما اتجه إليه فروم حيث رأت أن مشكلة المجتمع البورجوازي، يمكن حلها بتحويل المرأة إلى ذكر برجوازي، بل هي مشكلة المجتمع الأبوي. لتؤكد لنا الروائية خوف المجتمع الأبوي على نفسه من شهرزاد من خلال جعل المرأة مشروعاً ثقافياً اجتماعياً مضاداً. لذلك ربطت المرأة باسم رملية، وهو مشتق من الأرض أرادت به الأرض المستلبة. كانت روايتها «كوكب العذاب» انصهار حضاري هيمنت عليه الشخصية الأسطورية، أسطورة جلجامش وبحثه عن نبتة الخلد، هذا ما فعله البطل أشير من خلال بحثه عن الخلود الأبدي، أما الأنثى فانتصرت لها الروائية، وساوتها مع البطل. الرمل مثل الهوية الأرض، لأنّ المرأة هي أصل الخصوبة ورحم الكون. أنتجت لنا الروائية نصاً متمرداً كان جسراً للتواصل مع القديم، والحديث، شكل الموروث أكسجيناً تنفسته الروائية، وجعلت كوكبها حُجرة واسعة تستقبل مختلف الزوار والوافدين، فكان النص تفاعلاً لغوياً فكرياً، أما ازدواجية البطل تؤكد الانفصام الذي نعيشه الآن، لا نحن تشبثنا بماضينا، ولا خلقنا حاضر أجمل، والكاتبة جزء من هذا المجتمع فتأثر قلمها النسوي، لأنّ المرأة عندما تفكر تكتب الوطن، وهذا ما ظهر في رحلة التساؤل عن معنى الوطن، فكسرت صمت الصوت، من خلال كوكب العذاب. « فكرة أنّ حكايات «ألف ليلة وليلة» يمكن أن تكون مادة صالحة تماماً، لأن أصوغ منها عملاً روائياً، متداخلاً ومتكاملاً بقدر الإمكان، أي قدر التداخل والتكامل نفسيهما الذين تجدهما في حكايات «ألف ليلة وليلة». لذلك أعدت قراءة «ألف ليلة وليلة» مرة أخرى، واستخرجت مجموعة من التيمات» أراد شهريار الانتقام من شهرزاد من خلال كسره لصمت الصوت واستلامه للسرد بضميره، إلا أنّ شهرزاد انتقمت منه مرتين من خلال جعله يتنصّل من ضميره. هي نهاية منطقية ترجع إلى تأثر الكتابة بالنظريات الحديثة، لأنّها باحثة أكاديمية أثرت على قلمها، من خلال جعل نصّها مليء لتداعيات أقرب إلى عوالم ما بعد الحداثة (موت المؤلف، البعثرة، التشظي). فكان نصها أشبه بنص مورافيا في «السأم»، أيضاً حالة العبثية الوجودية والتمرد عند أشير تجعلنا نعود إلى بطل كامو في الغريب «ميرسو» وكأن أشير هو ميرسو. عبثية فقدَ فيها الإنسان الثقة بكل المسلمات الاجتماعية، بطل كوكب العذاب متشائم، بطل مغترب يبحث عن الخلاص. فكانت الكلمة بوصفها علامة، هي الوسيط المقدس، وإن لم نكن نستشعر قدسيتها في ذواتنا، الكلمة قادرة على تمثيل العالمين، المرئي والغائب، تمثيلاً رمزياً يمكننا إدراكها ليتحد كوكب العذاب الورقي مع الكوكب الذاتي لكل قارئ لمس الرواية. تكلمت شهرزاد زاغز عن أحلام مسروقة لشخوص تبرت أحلامها اجتماعياً، وساوت بين الموت والحياة، عطرت عالمها بتداعيات الذاكرة. ذاكرة أشير ورملية من خلال صورة الحلم المتكررة، والذي جسده سراب رملية هنا وهناك، كما حاولت الموازنة بين الروائي والتاريخي، حيث دمجت خطاً بين متضادين في صورة واحدة. ربما عودة الروائية للتاريخ، ومداعبتها للموروث، هو البحث عن الذات الضائعة ومحاولة ترميم ماض جريح. تقول: «انتظرتك عند باب العرش، هبت مع قدومك عاصفة أطفأت موقدي المشتعل، وسرى ريح الصندل الممتزج ببقايا أكمام الياسمين .. زالت رهبتي» حاولت شهرزاد ترميم ذاكرتها من خلال استرجاع ماض فيه عبق الحنين لرائحة الوطن الآمن السعيد، أيضاً نرجسية شهريار تطفو على السطح لتظهر شهرزاد غاوية أوقعت به في شركها، يقول: « في تلك الليلة قاومتك بكل ما أحمل من أسلحة اللامبالاة، لكنك كنت أنت باستلامك المثير ونظرتك المريعة التي أشعرتني .. أستسلم ولا مجال للمقاومة، لكن لم أقترب منك. اندهشي لن أقترب .. سأحترق من بعيد» انتصار شهرزاد وإنقاضها لبنات جنسها جعل الرجولة المجروحة لشهريار تظهر هنا في هذا المقطع يثأر شهريار منها، وإن كان الثأر شكلي وليمضي في رحلة عنونتها الكاتبة برحلة الموت «فما الموت في الأخير إلا رحلة طويلة لا عودة بعدها». ليعانق نصها نصوصا أخرى ساعدت في تأنيث عالمها الروائي من جلجامش إلى أسطورة زوربا ورقصة الموت وحلولها مع الوضع المتأزم، وظهور الدراويش والصوفية «هكذا يتمكن النص الصوفي من انتهاك المألوف والطبيعي، بحيث تكون أمام رغبة قوية في تجاوز النظام القائم للعالم المبتذل، أمام كلام حر يعبر عن الصراعات والأهواء والمكبوت والقول المحروم»، لأنّ النص العجائبي يؤسّس لكتابة حداثية. رقص المتصوفة، أو رقص الدراويش .. في حلقة الحلول الروحاني «دعوة للموت يكون البياض الذي يرمز للكفن، والسواد الذي يرمز لظلمات القبر». وكأن الدرويش هنا أراد القول كنت ميتاً واستيقظت نعم، إنّ الموت يقظة. ليتوحّد هنا النص الروائي مع رائعة تولستوي إلياذة العصور الحديثة «الحرب والسلم». إن حارب تولستوي الغزو الثقافي الفرنسي الذي تعرضت له روسيا حيث العائلات الروسية، كانت تتحدث الفرنسية كنوع من النفاق الذي تعيشه. مالت الروائية إلى الأسطورة وشبّهت أشير إلى بجماليون الساخط على النساء «كان في جزيرة كريت، فنان بارع عقد عزمه ألا يتزوج، ليوفر حياته للفن، أو لأنه قد نفر من مظاهر استهتار النساء، كما راهن بأعياد فينوس، آلهة الحب، تلك الأعياد الصاخبة التي كانت تقام بمدينة أمانوتنس على الساحل الجنوبي للجزيرة، حيث كان معبد الآلهة، وغضبت فينوس من كبريائه، فألقت بقلبه، حب تمثال عاجي من صنعه، اسمه «جالاتيا»، واشتعلت بحواس الفنان المسكين، رغبات الحياة، فضرع إلى الآلهة، تنفث الروح في التمثال، ورق قلب الآلهة لضراعته، فاستجاب له، وتزوج ببجماليون من «جالاتيا»، وكان له منها ولد هو «فابوس» هي إحساس الأنثى بالانتصار على الرجل، وحتى إن كانت رملية سراب، إلا أنها جعلت أشير يلاحقها حتى يتزوجها. أغوته كما أغوت «جالاتيا» التمثال بيجماليون. حاربت الروائية الفكر المتعصب، العشرية السوداء التي جعلت الشعب يعاني نفاقاً دينياً خوفاً من المتعصبين والذين كسروا المجتمع الجزائري، وأهدوه نعوشاً مجانية، فإن كان كارون هو ربان الجحيم، فإن زمن المحنة مثل الجحيم بالنسبة للشعب الجزائري. أما شخصية بورحلة كانت صورة الرحالة المغامر ابن بطوطة الذي جعلنا نبحر في متاهات عالم فريد. أما البخور مثل رائحة الوطن في كل العصور. رائحة الماضي والحاضر والمستقبل، أما احتراقه لتتمتع بالرائحة هو احتراق الوطن ليجمعنا، وعود البخور مثل الموت أيضاً، عقده العودة. إن عودة رملية في الرواية، تدل على الحضور المخادع للموت حيث لا تدل على نهاية فعلية للبطلة وخطت الروائية الموت كمرجعية تقوم على نوع من التعالق الرمزي بين الموت والانبعاث، وشكل الموت عن ولادة جديدة بحسب تعبير «جيلبير دوران» أرادت منه شهرزاد العودة لاكتشاف الجذور الثقافية، لأنّ الموت أو الفقد يصبح الفقد يصبح نوعاً من الأمومة المضاعفة، العودة إلى الأرض أي الأصل. وتصبح كذلك مهداً سحرياً وناعماً، لأنها المكان الأخير للراحة بالنسبة لرملية، والمكان الأول للانبعاث بالنسبة لأشير، أما في الجزء الملعون «بمزاج هيميرا راقصة المعبد»، تعمدت الكاتبة حضوراً طارئا لبعض المؤشرات الثقافية وهو استجلاء لروافد الثقافة الروحية. تقول: «ها هي الثياب حايك لك، وحايك له، وبعد الوصول إلى كدية الصفا انزعا الحايك وضعا البرنس .. أخبروني .. ما حكاية الحايك والبرنس؟» و«.. نعم بورحلة .. هذا ما تقوله الشامخة، كلما مر عام على وجود أحد هنا، وحتى لا تعلم بلده عطفان يخبرنا، وما نفعله في هذا القصر تدس الشامخة السم في آخر كأس يشربه الضيف لتقضي عليه مطمئنة أن سرنا لن يعرفه أحد» لعنة الوطن وجحيم نسائه كانت تطارد كل وافد إليه. إلا أن بورحلة لم يمت وحافظ على حياته، وكان السبب خيانة (قطر الندى)، وهنا يتوحد نص ألف ليلة وليلة مع كوكب العذاب، حمل في طياته قصصاً لكن هنا شهريار هو من استلم السرد، لينتصر على أنوثة الوطن، ويبيّض صورته المشوّهة في ألف ليلة وليلة، غير أن شهرزاد تفطنت لذلك، وجعلت قطر الندى تهديه الحياة لتجعله حبيس العودة الفعلية إلى الجذور «الأنوثة» وكسر فكرة التصلب إزائها. من خلال هذه النزهة السريعة في كوكب العذاب لشهرزاد زاغز نلمس موهبتها التي جمعت بين عقل الأديب والمفكر السياسي، لتحقق معادلة صعبة طرحها الكاتب الألماني «برتولد بريخت» وأكدت أم قمر أن ما فرقته السياسة يمكن للقلم أن يصلحه. خاتمة.. المثاقفة أو التلاقح الثقافي في النص هو أمر صحي كان لابد منه، ليغوص الفرد في ذاته وينفتح على الآخر ليؤثث عالماً روائياً متشبعاً بثقافة الآخر. لأنّ الأديب يقوم بقراءة الأعمال الإبداعية لغيره، فيستفيد منها ويقوم برشها بتوابل ومنكهات حتى يكسب عمله تميزا وخصوصية أما استلهامه من الأعمال والأفكار الأجنبية، هو رغبته في جعل عمله متقاطعاً مع الأدب العالمي وليجعل التلقي شاملاً لكل الآداب، كما يعود أيضاً لتشرّب الكتاب العرب للثقافة الغربية والانفتاح عليها.