تَتِّجه وزارة الفلاحة والتنمية الريفية بالجزائر، نحو تطوير وتوسيع زراعة «عباد الشمس» التي تدخل في صلب الأمن الغذائي، وترتبط بشكل مباشر بصناعات الزيوت الغذائية والأعلاف الحيوانية والعديد من المنتجات الاستهلاكية. يعد نبات «عباد الشمس» من المحاصيل الزراعية الإستراتيجية الهامّة في العالم، يكبّد استيراد بذوره ومنتجاته الخام لأغراض التحويل الصناعي الغذائي، أعباء ثقيلة على الخزينة العمومية، نظرا إلى أنّه يقترن بإنتاج المواد الأساسية والضرورية واسعة الاستهلاك، في ظلّ انعدام بدائل محلية تعوّض استيراده من الأسواق الدولية. مؤشرات ايجابية لمحاصيل الزيوت بالتّوازي مع خطط ترقية وتوسيع منتوج عباد الشمس، سبق وأن قامت وزارة الفلاحة والتنمية الريفية بتجارب زراعية لمحصول السّلجم الزّيتي الإستراتيجي، خلال السنتين المنقضتين، سجّلت بدورها نجاحا باهرا بعدد من ولايات الوطن، في مؤشر إيجابي على بداية حصر أزمة استيراد المواد الخام الخاصة بصناعة الزيوت والمنتجات الغذائية. وفي هذا الجانب، لاحظنا وجود إقبال من الفلاحين والمستثمرين على إنتاج السّجلم الزّيتي وتخصّص البعض منهم في زراعته، على غرار باقي المحاصيل الفلاحية الأخرى التي بلغت مستويات إنتاجية عالية، عبر سائر مناطق البلاد، ومنها ما يسجّل فائضا سنويا كبيرا مؤهلا لعمليات التصدير إلى الخارج. زراعة قديمة وناجحة في الجزائر تكشف المعطيات التي استقتها «الشعب»، أنّ زراعة «عباد» أو «دوار الشمس»، كانت موجودة وناجحة في ما مضى ببعض ولايات الوطن، لكن، لم يجرّ تطويرها بما يتناسب وحاجيات الاقتصاد الوطني ومتطلّبات الصناعات التحويلية الغذائية المحلية. كما قامت العائلات الريفية في الجنوب بزراعته بشكل واسع خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لأغراض الاستهلاك العائلي والمناسباتي، والتسويق المحلي المحدود، إلى أنْ تَكثّف استيراد بذوره، أدّى إلى تقويض زراعته الفتيّة والتخلّي عنها آنذاك. ويتلاءم إنتاج «عباد الشمس»، حسب خبراء الفلاحة، مع المناخات المتعدّدة التي تتمتّع بها أقاليم الجزائر، ويتشابه مساره التقني ومراحل نموّه مع باقي الحبوب المنتجة محليا، وهو أقل استهلاكا للمياه والأسمدة الزراعية مقارنة بالمحاصيل الهامة المُماثِلة له جينيا. مسعى تطوير وتوسيع إنتاج «عباد الشمس»، وباقي المحاصيل الإستراتيجية، اعتبره مهندسو الزراعة، خطوة في المسار الصحيح، تنمّ عن نظرة استشرافية لمستقبل الفلاحة والاقتصاد الوطني الباحث عن دعائم وموارد محلية جديدة من شأنها تحقيق الأمن الغذائي المستدام، والاكتفاء الذاتي في مختلف أنواع المنتجات الاستهلاكية. سدّ فجوات الصناعات الغذائية والأعلاف يؤكّد رئيس المنظمة الوطنية للفلاحة والأمن الغذائي، كريم حسن ل»الشعب»، أنّ المواد الفلاحية الإستراتيجية هي أكثر المنتجات استيرادا في الجزائر، ومنها الحبوب والزيوت والحليب، ويتعيّن التوجّه نحو تلك الزراعات بالاعتماد على المكنّنة المحلية، والتقنيات الحديثة في المجال. وثَمّن كريم حسن مسعى التوجّه لإنتاج محاصيل الزيوت الغذائية، باعتبارها تدخل في الدورة الزراعية لإنتاج الحبوب وتساهم بشكل مباشر في سدّ فجوات الصناعات التحويلية الغذائية وأعلاف المواشي، وكذا إنتاج اللحوم والحليب ومشتقاته، وهو ما سيترتّب عنه توفير المواد واسعة الاستهلاك للمواطنين، على مدار العام، وبأسعار معقولة تكون في متناول الجميع. تحديات إنتاج «عباد الشمس» كشف كريم حسن، أنّ زراعة «عباد الشمس» تتميز بأثر اقتصادي واجتماعي إيجابي، كونها تلعب دورا مباشرا في توفير كثير من المنتجات في الأسواق، وإمكانية تحقيق الاكتفاء الغذائي في عدد منها. وبحسبه، تُمثل زراعة «عباد الشمس» تحديا كبيرا، لارتباطها بعوامل وظروف تقنية مثل تحسين مكافحة الآفات الفلاحية، الأمراض الفطرية، الأعشاب الطفيلية الضّارة التي تصيب النبات والتربة على حدّ سواء، ومتابعة مسارات الإنتاج وفق آليات علمية دقيقة لبلوغ الغرض من زراعة الشّعبة. ويعتمد الاستثمار الفلاحي في «عباد الشمس»، مثلما يقول المهندس الزراعي، على قواعد أساسية تتلّخص في كفاءة الري والصرف الزراعيين، التسويق، حداثة أنماط التحكّم في الزراعات الواسعة، وهي عناصر رئيسية تشكل دافعا قويا لإقبال الفلاحين على المحصول وضمان تحفيز إنتاجه مستقبلاً. نفع بيئي وصحّي.. لفت رئيس المنظمة الوطنية للفلاحة والأمن الغذائي، كريم حسن، إلى وجود فوائد بيئية جمّة لزراعة «عباد الشمس»، حيث تساهم في الحدّ من تلوث التربة واستدامتها وتجديدها وتأهيلها لإنتاج الزراعات الموسمية والمبكرة الأخرى. ووفقا له، تدخل زراعته في تجسيد الدورة الزراعية لدى الفلاحين، ومن خلالها، ارتفاع المردودية وتحسين إنتاج باقي الشعب، لا سيما محاصيل الحبوب، علاوة على فعاليتها الصحية والطبية، بحيث تستغل مخلفات أجزائها في علاج كثير من الأمراض الشائعة. وفي هذا الخصوص، نوّه حسن، بأهمية تكوين وتدريب الفلاحين والمستثمرين المقبلين على زراعة البذور الزيتية، لضمان إنتاجها واستغلالها الأمثل في شتى المجالات الغذائية والبيئية والصحية وغير ذلك من الفوائد النوعية التي تمنحها. زراعة أصيلة في وادي ريغ.. أوضح رئيس جمعية الوفاق لتنمية وتطوير الفلاحة الصحراوية، تماسين، بولاية توقرت، فاجي عبد الحكيم، أنّ «عباد الشمس»، أو ما يعرف في منطقة وادي ريغ ب»دبابة الشمس»، عبارة عن نبات سهل النمو، ويستطيع تحمل ظروف الطقس القاسية. وأضاف فاجي عبد الحكيم في تصريح أدلى به ل «الشعب»، أن الحديث عن «عباد الشمس» كتجربة جديدة لا يصحّ في الجزائر، لأنه مجرب وناجح ومعروف لدى أهل منطقة وادي ريغ خاصة توقرت، وهو يتعايش مع المناخ الصحراوي، ويفضّل درجات حرارة عالية للنمو والتطوّر. واعتبر المتحدث ذاته، توجّه الدولة ممثلة بوزارة الفلاحة نحو تشجيع الفلاحين على الاستثمار في هذا النوع من المحاصيل الإستراتيجية، قرارا جدّ فعّال، لأنّ العودة إليه بغرض الاستفادة من خصائصه الغذائية، وعمليات التحويل واستخراج الزيوت الطبيعية خاصة زيت المائدة، من شأنه ترشيد النفقات العمومية والتقليل من عمليات استيراد المنتجات الزيتية والمواد الخام المتعلقة بها. دراسات علمية لأصناف البذور في الجانب التقني لهاته الشّعبة، أبرز فاجي عبد الحكيم، بأن تطويرها يحتاج إلى دراسات علمية حقيقية تمسّ كل جوانب نموّها وتكثيفها، مثل مراعاة مطابقة المنتج الحقيقي والجيد المتعلّق بالبذور وتأهيلها للتأقلم مع المناخ بمختلف مناطق الوطن، لا سيما وأنّ زهرة «عباد الشمس» لها عدة أنواع ومسميات، ويمكن البحث في خصائص كل صنف منها وظروف وشروط إنتاجها الطبيعي. كما يتعيّن اختيار المواسم أو الفصول الزراعية المتناسبة مع إنتاج هاته الشعبة حسب خصوصيات كل إقليم فلاحي، وتحديد توقيت زراعتها به حتى تكون النتائج المرجوة ايجابية على جميع الأصعدة. خارطة طريق ومصانع جوارية لكي تتحقّق غايات تطوير محصول «عباد الشمس» الإستراتيجي، والاكتفاء من مادته الخام، اقترح فاجي عبد الحكيم، وضع خارطة طريق لإنتاج الشعبة، تكون معزّزة بإنشاء مصانع تحويلية جوارية لاحتواء المنتوج، بعد حصاده في الولايات أو المناطق التي ستحتضن زراعته. ومن خلال هذا الإجراء، يمكن توفير ضمانات كافية للفلاحين والمنتجين وتجنّب ما وقع فيه بعضهم سابقا، بعدم شراء محصولهم بعد أن أقبلوا على زراعته كتجربة، مع تذليل مصاعب المهنة المرتبطة بغلاء الأسمدة وآلات الحرث ومختلف الوسائل المستخدمة في الإنتاج، فضلا عن توفير وتأهيل اليد العاملة التي تعرف نقصا بالمجال. وأشار فاجي إلى أنّ منطقة توقرت تحديدا، تكتسي بُعدا فلاحيا استراتيجيا نظرا إلى غِناها بالمياه الجوفية، وتثمين مواردها يتطلّب توسيع شبكة الكهرباء الفلاحية، تجسيد آبار كافية لسدّ حاجيات الإنتاج، التسريع في منح العقارات الفلاحية وبرامج الامتياز والاستثمار، ناهيك عن إتاحة تسهيلات بمختلف أنماط الدعم المخصّصة للفلاحين بغية إنشاء مشاريع في مجال الزراعات الإستراتيجية. خيار زراعي استراتيجي كشف أستاذ العلوم الاقتصادية والتجارية وعلوم التسيير بجامعة الوادي، الدكتور عمار مصطفاوي، أنّ «عباد الشمس» من الزراعات الصناعية ذات الأهمية القصوى في التحويل الغذائي، ويأتي في المرتبة الثالثة عالميا بعد محصولي القمح والأرز، ويتجاوز إنتاجه الدولي 47 مليون طن، تحتل أوكرانيا المرتبة الأولى ب13.6 مليون طن تليها روسيا ب11 مليون طن. وقال الباحث الاقتصادي عمار مصطفاوي في تحليل خصّ به «الشعب»، أنّ التغيرات الاقتصادية التي يعرفها العالم، دفعت الدولة الجزائرية للاستثمار في الزراعات الصناعية كتوجّه استراتيجي، وزراعة «عباد الشمس» تحديدا، تعتبر أهم الخيارات لعدة أسباب، أهمها أنّ تكاليفه أقل من الصوجا، ومن منتجات زراعية أخرى تستوردها الجزائر من الأسواق الخارجية. وأشار محدّثنا إلى إمكانية زراعة «عباد الشمس» في دورتيْن زراعيّتيْن في الموسم الواحد، وتميزه بمسار تقني بسيط وغير معقّد، بالتوازي مع مردوده المرتفع الذي لا يتطلّب مياه وأسمدة كثيرة، واحتوائه نسبة زيوت عالية تتراوح بين 40 و60% ذات جودة من حيث الخصائص الكيميائية والطبيعية. تحقيق اندماج للفلاحين يؤكد الدكتور عمار مصطفاوي، أنّ الجزائر لها تاريخ قديم مع زراعة «عباد الشمس»، حيث أثبت نجاعته ونجاحه في عدة ولايات ساحلية، على غرار وهران وعنابة والشلف، ما يستوجب العمل على تحقيق اندماج للفلاحين في مثل هذه الزراعات الاستراتيجية الجديدة، قصد تدعيم صناعات الزيوت النباتية وتحقيق الاكتفاء فيها والتوجّه نحو التصدير في مرحلة موالية. ومن جهة أخرى، يقول محدثنا، يمكن استغلاله كأعلاف للحيوانات بالنظر إلى القيمة الغذائية التي يمتلكها لغناه بمصادر البروتينات، وكونه أيضا من النباتات المحبّبة للنحل ويجدر استغلاله في تربية هذا النوع من الحشرات المفيدة جدا. ولنجاح هذه الزراعة الإستراتيجية، اقترح الباحث عمار مصطفاوي، مرافقة زراعة الشعبة من خلال مراكز البحث والمعاهد المتخصّصة في إنتاج البذور بما يتلاءم مع المناخ المحلي، فضلا عن توفير الإمكانات المادية والتقنية لتطوير وترقية إنتاجها. زراعة المساحات الواسعة تُعد زراعة «عباد الشمس»، حسب المُختصين، من النباتات المتأقلمة مع المناخات الدفيئة ضمن فترات متعدّدة من السنة، على غرار محاصيل الذرة والفول السوداني (الكاوكاو)، غير أنها تحتاج إلى نطاقات واسعة لتحقيق الغرض الغذائي والاقتصادي منها، حيث ينتج الهكتار الواحد حوالي 20 قنطارا من بذورها، يمكن أن تستخرج متوسط 2000 لتر من الزيت الغذائي. تأقلم زراعة «عباد الشمس» مع مناخات الجزائر المتعدّدة، وإعادة بعثها من جديد، يمهّد لإنهاء أزمة استيراد الزيوت الغذائية، وموادها الخام الموجهة إلى الصناعات التحويلية، شريطة المُضي في تجسيد استثمارات فلاحية جادة في هذا المحصول، وتشجيع الفلاحين على الإقبال عليه، بالتوازي مع زراعات الشعب الزيتية الأخرى سارية المفعول مثل السلجم الزيتي.