في 15 مارس من سنة 1989، كتب محمد أركون مقالة في صحيفة لوموند الفرنسية أثارت الكثير من الجدل بعنوان: «التصور الغربي عن حقوق الإنسان يزيد من سوء التفاهم مع الإسلام». وكان ذلك بمناسبة ذكرى مرور قرنين من الزمن عن الثورة الفرنسية التي أعلنت عن حقوق الإنسان والمواطن. وأعاد محمد أركون الكرّة في 5 مايو 1993 بمقال آخر بنفس الجريدة، أكّد فيه أن «أول حق من حقوق الإنسان يتمثل في حقه في إنتاج نظامه الرمزي الخاص بمجتمعه، كما يشاء»، وهذا يعني أنّ لكل مجتمع الحق في بلورة تصوره الخاص عن حقوق الإنسان، وهذا عكس النظرة الليبرالية التي ترى أنّ حقوق الإنسان كونية، الأمر الذي يبرر ويشرع حق التدخل في شؤون الشعوب الأخرى من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان في حالة انتهاكها. 1- حالة حقوق الإنسان في الجزائر المستعمرة بادئ ذي بدء، يشير أركون أن «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» بالصيغة التي كتب فيها وصدر عن فرنسا أثناء ثورتها، هو إعلان «قابل للكونية والتعميم على جميع المجتمعات والشعوب»، غير أنه لم يصبح حتى الآن كونيا بالفعل، بمعنى أنه غير مطبق حتى الآن، على جميع مجتمعات وشعوب الأرض، وما يزال ينقصه الكثير حتى يصبح عالميا، على عكس ما يدعيه الليبراليون؛ لأنهم موجودون في الجهة التي تنعم بثمار دولة القانون وحقوق الإنسان. يعود أركون للتاريخ ويسرد: أنا ولدت في الجزائر عندما كانت ما تزال مستعمرة فرنسية (وُلد محمد أركون يوم أول فبراير 1928)، ولا أستطيع أن أنسى كل أنواع المهانات والذل والاحتقار العنصري الذي شهدته من هؤلاء الفرنسيين الذين كانوا يعلمونني في الوقت نفسه، وفي المدرسة، كونية حقوق الإنسان التي اخترعها الثوريون الفرنسيون. الكلام شيء والواقع العملي شيء آخر، فقد كان يوجد في الجزائرالمحتلة نوعان من المواطنين: مواطنو الدرجة الأولى الذين يتمتعون بكافة الحقوق السياسية والمدنية والامتيازات المادية أي الفرنسيون وباقي الأوروبيين الذين قدموا من بلدان أخرى، مثل إسبانيا وإيطاليا ومالطا، ومواطنو الدرجة الثانية، من سكان البلاد الأصليين، أي الجزائريين المسلمين. يجب التذكير هنا أن فرنسا الاستعمارية، ما بعد ثورة حقوق الإنسان، سعت في بداية الأمر إلى إبادة الشعب الجزائري عن آخره، قصد تعويضه بالسكان الأوروبيين، كما فعلت إسبانيا والبرتغال وبريطانيا، تماما، مع هنود الحمر في احتلالهم للقارة الأمريكية، كما سعت في مرحلة ثانية إلى تفقيره وتجويعه وتجهيله، وذلك بنزع أراضيه الخاصة والجماعية والوقفية ومحاربة الزوايا وتدجينها، بل نلاحظ حتى اليوم - كما يشير أركون - أنّ المكانة القانونية للمغتربين المسلمين بالبلدان الأوروبية، خاصة المغاربة والأفارقة غير مضمونة، وما تزال تثير المناقشات الصاخبة والحادة التي نعرفها (خاصة أثناء الانتخابات الرئاسية والتشريعية)؛ لهذا لا نستطيع أن نتحدث عن كونية حقوق الإنسان، إلا عندما يتشكل نظام قانوني دولي يحمي حقوق الإنسان في كل البلدان دون تمييز، وهذا ما لم يتوافر حتى الآن. 2- عنجهية ونفاق الغرب وموقف أركون من المسألة يبلغ الغرب من الغرور والعنجهية مكانة كبيرة عندما يتحدث عن كونية حقوق الإنسان في المحافل الدولية، ويستعملها كورقة ضغط لابتزاز دول الجنوب وسرقة ثرواتها، في الوقت الذي نعلم كيف تصرّف في أفغانستان والعراق من جهة، وكيف تصرّف في البوسنة من جهة أخرى، مقياسان ومكيلان مختلفان تماما، لا يمكن تفكيكهما إلاّ بارتباطهما بالمصالح الحيوية الأمريكية والغربية عموما، وبالمعطيات الجيوستراتيجية، يواصل أركون ويقول: أشير إلى هذا ويدي على قلبي كما يقال، لأني واثق من أنّ القراء الأوروبيين سوف يخطئون فهمي كما أخطأوه أثناء قضية رشدي (حيث من المعروف أن محمد أركون ندّد برواية «آيات شيطانية»، وأشار أنّ رشدي تجرأ على النبي الذي هو نموذج للوجود الإنساني، وباعتبار أن الوظيفة النبوية تتقاطع مع جميع اللاهوتيات المشتقة من الوحي، فإنّ على اليهود والمسيحيين أيضا أن يغضبوا ويتفهموا ردود الفعل ضد رشدي. وقد لاقى أركون نقدا لاذعا من الأوساط الأكاديمية والإعلامية الغربية إلى درجة اتهامه بالمسلم الأصولي). يواصل أركون ويقول: سوف يعتقدون بأني أريد تغليب التصور الإسلامي لحقوق الإنسان على التصور الغربي؛ لهذه الحقوق بالذات. ولكن هذا أبعد ما يكون عن منطقي وأسلوبي وفكري الثابت والمستمر منذ سنوات طويلة. يؤكد أركون: أنا لا أنتمي إلى الخط التبجيلي والتبريري الشائع جدا في الأوساط الإسلامية، (يشير أركون إلى كتابات بعض علماء وفقهاء المسلمون الذين يدافعون عن الإسلام وفق رؤية تقليدية تبجيلية). على عكس ذلك، إنني أنتمي إلى الخط الإسلامي الذي كنت قد بلورت خطوطه العريضة في مؤلفاتي وكتبي، قبل مجيء الثورة الإسلامية في إيران بوقت طويل، (وذلك على غرار أطروحته المعنونة: نزعة الأنسنة في الفكر العربي، وكتاب: جوانب من الفكر الإسلامي الكلاسيكي، وكتاب: الفكر العربي، وكتاب: الإسلام دين ومجتمع؛ وهي دراسات أنتجها أركون في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي) أي كما يشير قبل احتدام الصراع الإيديولوجي بين الإسلام والغرب على إثر الثورة الخمينية. يواصل أركون ويقول: إنّ مواقفي معروفة، وكتبي واضحة، لا لبس فيها ولا غموض، وكنت قد أكدت باستمرار على أن مفهوم الفرد-المواطن، ودولة القانون، وحماية التفكير والنشر والنقد هي مكتسبات حديثة تم تحقيقها لأول مرة في أوروبا. وقد انتزعت انتزاعا من أيدي الكنيسة والمواقع المحافظة للأديان الأخرى، بل أذهب إلى أبعد من ذلك، وأقول إن الفكر الإسلامي لم يساهم بنصيبه في انجاز الحداثة الفكرية والعلمية منذ القرن السادس عشر، وبالتالي فإنّ التحدث عن حقوق الإنسان في الإسلام أو في المسيحية، هو عبارة عن محض مغالطة تاريخية، فحقوق الإنسان من إنجاز العصور الحديثة لا العصور الوسطى. 3- حاجة الإنسان للحرية الروحية يقول أركون: إن انبثاق مفهوم الشخص البشري بصفته محلاً للحرية الروحية التي تتشكل وتمتحن نفسها في علاقة جدلية مع إله شخصي، حي، خلاق، كان قد حصل من خلال التجارب النبوية الموصوفة والملقنة في كل من التوراة والأناجيل والقرآن. إنّ هذا التمييز بين مفهوم الشخص ومفهوم المواطن غير ملحوظ من قبل الجميع في أوروبا، وتم تجاوزه نتيجة الحروب الدينية القاسية وردة الفعل المتطرفة من قبل النخبة الفكرية والسياسية خاصة ذات الميول البرجوازية. لكن في الواقع، يبقى لهذا الشخص - بحسب هذا المفهوم - رسالة روحية يقع مركزها الحيّ في القلب حسب التعبير القرآني. وهناك فرق بين هذه الرسالة الروحية وبين الاستقلالية القانونية للفرد-المواطن في الدّولة الحديثة. 4- الفكر السياسي الحديث لا يهتم بالجانب الروحي للإنسان نتيجة لذلك، يرى أركون أن الفكر السياسي الحديث لا يهتم بهذا التمييز، أي لا يهتم بمفهوم الشخص بالمعنى الروحي للكلمة، وإنما يترك ذلك لمبادرته الخاصة في هذا المجال لكي يتدبر أمره بنفسه في مجاله الخاص. ويركز هذا الفكر السياسي الغربي اهتمامه كليا على الحماية القانونية والمادية للفرد-المواطن؛ وذلك من خلال تجلياته العامة؛ أي من خلال ممارسته ونشاطاته في الحياة العامة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية وثقافية. هكذا نجد مثلا أنّ حقوق النساء المرميات في الفضاء «المحصن» للحياة الخاصة لا تزال خاضعة لنزوات الرجال التعسفية. وكذلك الأمر، فإن الدول «العلمانية جدا» (يقصد أركون العلمانية المتطرفة على شكل العلمانية القانونية بفرنسا) تحشر الحياة الدينية في الحياة الخاصة للفرد، وبالتالي، فهي تحرم القيم الروحية من تلك المجابهات الفكرية الكبرى ومن المناقشات الضرورية الجارية في المجتمع. وقد أفقرت هذه المناقشات وحرفت واختزلت إلى مجرد مظاهر خارجية ليس إلاّ. 5- نموذج السويد يستدعي التأمل يقول أركون: إن الفرد-المواطن كان قد استبطن داخليا كل آليات المراقبة الذاتية التي تمنعه من الخروج على الخط المعهود أو من تجاوز النطاق الذي يسمح بالتفكير فيه، وهذا النطاق مُشّكل من المعايير أو المقاييس التي يرتكز عليها إجماع الجماعة أو الأمة أو الجمهور، هناك حيث تنتشر استراتيجيات التأقلم ومحاولة الترقي الذاتي في المراتب الاجتماعية. ولا يمكن تجاوز هذا الآليات القمعية الشغالة إلا في الأنظمة الديمقراطية التي تسمح بالمناقشات العامة، بل وتشجع عليها. أقصد بأنها تسمح بمناقشة عدد كبير من المشاكل الشخصية المطموسة في دائرة الحياة الخاصة والتي يضطر الناس إلى التمدد على سرير المحلل النفساني من أجل حلها. إنّ نموذج بلد كالسويد يدفع للتأمل والتفكير فعلا. فالسويد تعتبر من أرقى بلدان العالم، ونلاحظ أن الدولة فيها تفعل كل شيء لحماية المواطنين اجتماعيا وصحيا وتوفير الرفاهية المادية لهم. ولكنها لا تهتم بحاجياتهم الداخلية أو الروحية الحميمة فيشعرون بالوحدة والوحشة ويغرقون في الغم والكآبة؛ وذلك لأن الجوانية الداخلية بغناها وتناغمها هي التي تتحكم بسلوك الفرد-المواطن ونوعية حضوره في المجتمع، وربما لهذا السبب فإن نسبة الانتحار أعلى ما تكون في السويد. 5- أوروبا في حاجة إلى القيم الروحية يمكن القول بأن الترقية الروحية للشخص البشري، ثم الترقية والحماية القانونية للفرد-المواطن ما تزالان تمثلان في كل مكان مهمة ناقصة لم تكتمل بعد، نقول ذلك وبخاصة إذا ما حرصنا على أن نتجاوز تلك الصراعات الخاطئة التي طالما نشبت بين الأديان من جهة، وبين الثورات الحديثة من جهة أخرى، بخصوص حقوق الإنسان والمواطن. وكنت قد دعوت إلى ذلك أكثر من مرة فيما مضى، بمعنى أن الدول الأوروبية حققت الكثير من التقدم على مستوى الفرد-المواطن، ولكنها لم تحقق التقدم نفسه على مستوى الإنسان-الشخص أو الشخص الروحي، لا المادي ولا السياسي فقط. يمكن القول إنّ الأوروبيين محدثون جدا جدا، وبالتالي فهم ليسوا بحاجة إلى المزيد من التحديث، وإنما إلى التأمل في الآفاق الروحية التي فتحها الفكر القرن-وسطي. والواقع أنّ رفض هذا الفكر واحتقاره من قبل الحداثة العنجهية الراهنة يمثل إحدى المشاكل المطروحة حاليا، وهي تتطلب من أوروبا إعادة النظر في موقفها هذا. فأوروبا المنخرطة في اقتناص الملذات والسعادة المادية التي لا تنفصل عن القوة العنجهية المغترة بذاتها، نسيت كثيرا القيم الروحية والآفاق الروحية. هذا ما نلاحظه على الأقل عندما ندرس تاريخ أوروبا منذ القرن 14 وتاريخ توسعها الاستعماري وإستراتيجيتها الامبريالية للسيطرة على ثروات العالم كله. هنا ينعقد تناقض ذو جوهر أخلاقي بين القادة الأوروبيين من جهة، وبين قادة الشعوب المُستعمرة سابقا من جهة أخرى. إنّ الخطاب المهيمن حاليا حول حقوق الإنسان والديمقراطية، ليس إلّا نوعا من الاستعادة لنظرية التقدم وتفوق الحضارة الأوروبية، هذه النظرية التي سادت في القرن 19 أي في عصر الاستعمار، وهكذا يتم حجب فضيحة أخلاقية معينة أو التقليل من شأنها تحت اسم «الحضارة والتقدم». وأقصد بذلك تلك الفضيحة المرتبطة بإرادة القوة والهيمنة التي تحرك أوروبا منذ القرن 18، وذلك على حساب مصلحة البحث عن المعنى الروحي وتشكيل نظام دولي قائم على العدالة والتضامن بين الشعوب. هكذا نجد أنفسنا وقد عدنا مرة أخرى إلى مسألة المعرفة والقوة، أو انحراف العقلانية الأوروبية عن مبادئ التنوير أثناء المرحلة الاستعمارية. ملاحظة: المقال مقتبس وبتصرف من كتاب محمد أركون المعنون: «الإسلام، أوروبا، الغرب: رهانات المعنى وإرادات الهيمنة».