يعتبر المفكر الجزائري محمد أركون أحد أهم القامات الفكرية والفلسفية في العالم العربي، فهو ولا شك أبرز الرواد الجدد للفكر العربي المعاصر، وهو ما اصطلح على تسميته ب«جيل القطيعة المعرفية" والذي تشكّل وعيه الاجتماعي والسياسي على الفشل والقصور المعرفي الذي واكب ميلاد الدولة الوطنية ما بعد الكولونيالية، حيث أدى النكوص الدائم عن التقدم وفشل عملية التحديث في الوطن العربي في مجال التقدم العلمي والفكر السياسي الديمقراطي وقيم المواطنة وحقوق الإنسان، خصوصا بعد الهزيمة العربية سنة 1967، وما تراكم عنها من آثار نفسية واجتماعية على الذات العربية بصورة عامة. كما تشكل وعيه العلمي الفكري والفلسفي على ما أنتجته المدارس الفكرية النقدية الغربية في مجال مناهج البحث العلمي في العلوم الإنسانية، بداية بالمدرسة الوجودية لجون بول سارتر إلى البنيوية، وصولا إلى منهج التفكيك لجاك دريدا، ومختلف المناهج العلمية الحديثة لدراسة التاريخ والتراث، حيث ما انفك الفكر العربي يدرس أسباب التخلف العربي النفسي والاجتماعي، فكان نقد العقل العربي وبنيته الاجتماعية والفلسفية على طريقة القطيعة المعرفية التي أحدثها الفيلسوف "وليام كانت" في الفكر الغربي، وكذلك ما قام به "نيتشه" و«فوكو" من خلخلة للفكر الغربي، فكانت البداية مع عبد الرحمان بدوي وتأثره بالمذهب الوجودي (الزمن الوجودي)، وكذا كتابات عبد اللّه العروي في تحليله للهزيمة العربية في (الإيدولوجيا العربية المعاصرة)، إلى حسن حنفي وموقفه من التراث والحداثة (التراث والتجديد)، والجابري في دراسته للتراث (نحن والتراث) ونقده للعقل العربي، والطيب تيزيني في تحليل الخطاب العربي المعاصر (رؤية جديدة للفكر العربي)، إلى كتابات إدوارد سعيد ما بعد الكولونيالية ونقده للاستشراق، مرورا بالثابت والمتحول عند أدونيس، وهي كتابات كلها تؤسس لنقد العقل العربي من خلال دراسة التراث والتاريخ العربي وفق المناهج العلمية الحديثة. ولعل الحيرة الفكرية عند رواد النهضة العربية هي نفسها عند محمد أركون، وهي الإجابة عن سؤال شكيب أرسلان: "لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟"، فجاءت كتاباته على النمط المنهجي والمعرفي نفسه من خلال نقد العقل العربي والإسلامي والدعوة إلى الإسلاميات التطبيقية في مقابل الإسلاميات الكلاسيكية (الاستشراق)، وذلك من خلال تطبيق المناهج العلمية الحديثة على التراث الإسلامي بواقعية وتجرد علمي وتخليصه من المتخيل الأسطوري، وجعله ينقّب عن تلك الدرر الكامنة في التراث الإسلامي والتي حال السياج الدوغمائي دون وصول العقل الإسلامي إليها. الأنوار الفكرية في القرن الرابع الهجري وُلد محمد أركون بمنطقة القبائل سنة 1928 في قرية توريرث ميمون، وهي القرية نفسها التي وُلد فيها الكاتب الكبير مولود معمري، انتقل بعدها إلى الغرب الجزائري وفي وهران، حيث نال شهادة البكالوريا ليسجل في كلية الآداب بجامعة الجزائر، ثم انتقل بعدها إلى فرنسا من أجل إتمام دراسته العليا بجامعة السربون، حيث سجل رسالته للدكتوراه حول نزعة الأنسنة في الفكر الإسلامي في القرن الرابع الهجري، ومنه بدأت علاقته الروحية مع شقيقه وتوأمه الروحي أبي حيان التوحيدي، صاحب المقابسات وصديقه مسكويه (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)، حيث ينقلنا أركون من خلال دراسته للأنسنة العربية إلى تلك الحلقات الفكرية والفلسفية في بغداد، وهي تمثل حاضرة العالم المتمدن آنذاك، حيث حرية التفكير والرأي والمناظرات الفلسفية وعلم الكلام وتعدد المذاهب وانتشار الترجمة للفكر اليوناني، محاولا من خلال ذلك إبعاد تهمة الانغلاق عن الفكر الإسلامي التي حاول الاستشراق الغربي إلصاقها به، إضافة إلى ما تنشره وسائل الإعلام الغربية عن المسلم بصورة عامة بأنه "الشخص غير المتحضر" و«المتعصب" والذي يعشق الاستبداد وينكر حرية الرأي والاختلاف، موجها نقدا لاذعا إلى الكتابات الغربية عن الإسلام والتي تتم من غير المختصين، خصوصا الصحفيين الذين ينشرون انطباعات وآراء أولية في تحقيقات صحفية تتحول إلى مراجع لفهم الإسلام، ومع مرور الوقت إلى معتقدات لدى الرأي العام الغربي حول الإسلام والمسلمين. وبهذه الطريقة يكون تاريخ الإسلام ومعتقداته عرضة للتشويه والتسطيح. كما هاجم الجماعات الإسلامية المتواجدة في أوروبا والتي تقدّم "إسلام الممنوعات" وليس "إسلام التسامح والفكر الإنساني"، مبرزا من خلال كتاباته الاهتمام الذي كان للفكر الإسلامي بالإنسان وفق مقولة التوحيدي (الإنسان أشكل عليه الإنسان)، منتقدا في الوقت نفسه العلمانية الأوروبية والتي تستبطن المتخيل الاجتماعي الميثولوجي عن الإسلام منذ قرون عديدة، وهو ما حدث معه أثناء كتابته لمقال في جريدة "لوموند" الفرنسية سنة 1989 حول حق المسلمين في الدفاع عن معتقداتهم ودينهم ضد ما كتبه سلمان رشدي، حيث واجه محمد أركون هجوما عنيفا من النخبة الفرنسية ووصف بالأصولي الإسلاموي. ويا للفضيحة كيف يكتب أستاذ في جامعة السربون بهذا الطريقة ويتجاوز حدوده؟ موضحا أن الفكر العربي قد عرف عصر الأنوار في القرن الرابع الهجري، في حين لم تعرفه أوروبا إلا في القرن الثامن عشر، عاتبا على المسلمين والعرب الذين لا يحسنون قراءة تاريخهم الفكري والفلسفي، ولو فعلوا ذلك لاستطاعوا أن يعثروا على نقاط ارتكاز مضيئة تؤسس للحداثة العربية والنهضة المنشودة، والتي أضاعوها من خلال النكوص الدائم عن الفكر الفلسفي الحر من خلال السياج الدوغمائى الذي يحيط بالعقل العربي ويجعله غير قادر على مواكبة حركة التاريخ الحديث والفكر الإنساني، معتبرا أن اللغة العربية قد فقدت كنوزها المعرفية ومصطلحاتها العلمية من خلال تخلف الفكر العربي الذي حوّلها إلى لغة خطاب دغمائي، بعد أن كانت لغة حية تستوعب جميع العلوم سواء كانت علوم طبيعية أو فلسفية. العقل السياسي العربي هو المسؤول عن التعصب المذهبي يعتبر محمد أركون أن العقل السياسي العربي هو الذي ساهم في افتعال التعصب المذهبي والديني، من خلال إذكاء الصراعات الطائفية وتوظيفها من قِبل رجل السياسة الذي يستغل رأس المال الرمزي لدى العامة للوصول إلى السلطة والهيمنة على الحياة الثقافية والروحية في المجتمع وقمع الآراء المخالفة وتأسيس إيديولوجية الحاكم بأمره. وهو ما حدث في القرن الرابع الهجري، حيث استغل مذهب المعتزلة من قِبل الخليفة العباسي المأمون لما أصبح مذهبا رسميا للدولة العباسية لمدة من الزمن، ثم جاء الخليفة القادر الذي أطاح بالفكر المعتزلي من خلال تحالفه مع المذهب الأشعري. وأركون من خلال هذا الطرح يتقاطع مع الجابري في دراسته ونقده للعقل السياسي العربي، والذي كشف عن محددات مركزية تحكمه (العقيدة والقبيلة والغنيمة)، والتي هي صياغة جديدة لنظرية العصبية التي تكلم عنها ابن خلدون الذي يعتبره أركون آخر ما أنتج العقل العربي في مجال الفكر السياسي والاجتماعي، ليدخل بعدها في حالة ركود تام من خلال هجر التفكير العقلي النقدي والفلسفي وشيوع الفكر الظاهري والاكتفاء بشروح الحواشي للفقه القديم،وهي سمة لصيقة بإنسان ما بعد الموحدين الذي تكلم عنه مالك بن نبي. ويتساءل أركون (أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟) الذي يواجه التحديات المطروحة على المستوى العالمي في المجالات المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والفلسفية وفي مسالة الحرب والسلم العالميين وفي مجال حوار الحضارات (الإسلام أوروبا والغرب)، ولا يزال استغلال الصراعات الطائفية والمذهبية في الحياة السياسية ماثلا للعيان في الواقع العربي. وحين غادرنا أركون منتصف سبتمبر 2010 كان العالم العربي يدخل مخاضا عسيرا على المستوى السياسي والاجتماعي، حيث يهدد الأخدود الطائفي الدولة الوطنية والبنية الاجتماعية، دون أن يتمكن من الإجابة عن الكثير من الأسئلة المعرفية فيما يخص خروج الوطن العربي من الصراعات المذهبية. [email protected]