مكاسب دستورية وإعادة بناء المؤسسات المنتخبة منذ ثلاث سنوات، دخلت الجزائر مرحلة جديدة ارتكزت على إصلاحات دستورية وسياسية عميقة وشاملة، تُمهد لإرساء تقاليد ديمقراطية تشاركية وتُعزز قوام وأسس دولة القانون والحكم الراشد في إطار مشروع بناء جزائر جديدة. ما بلغته الجزائر اليوم من استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي، تعكسه مرحلة كاملة من إصلاحات دستورية وورشات تغيير وإعادة بناء المؤسسات، انطلقت في ظروف صعبة إثر جائحة كورونا باغتت الجزائر، مثل كل دول العالم، وما خلفته من تداعيات لاتزال أثارها إلى اليوم، ناهيك عن تراكمات أكثر صعوبة ومعطيات سياسية واقتصادية وُرثت عن فترات سابقة. الدستور.. أم الإصلاحات في حملته الانتخابية التي سبقت انتخابه رئيسا للجمهورية في رئاسيات 12 ديسمبر 2019، أطلق الرئيس تبون التزاماته 54، تشمل أبرز ورشات ومحاور مسار الإصلاحات وإعادة بناء مؤسسات الدولة، على رأسها ورشة مراجعة واسعة للدستور (الالتزام الأول)، وهي أم الإصلاحات تستند عليها باقي الإصلاحات. وكان الاقتراع الخاص بالاستفتاء على مشروع تعديل الدستور، الذي جرى في الفاتح نوفمبر من 2020، بمثابة الخطوة الأولى نحو إحداث التغيير المنشود، من خلال ما حمله من إصلاحات سياسية واقتصادية وتعزيز لدعائم دولة الحق والقانون، وإرساء مقاربة الديمقراطية التشاركية ودسترة التزامات تتعلق بدور الشباب والجمعيات جسدت لاحقا. وبنظرة إصلاحية عميقة تهدف إلى تحصين البلاد من أية هزات سياسية، يتسم التعديل الدستوري لسنة 2020 بانتقال الجزائر من نظام المجلس الدستوري إلى نظام المحكمة الدستورية، وهي من بين المكاسب الدستورية والإصلاحات الهامة التي جاء بها أول التزام للرئيس تبون، باعتبارها هيئة متينة تضمن آلية رقابية تسهر على سمو دستور البلاد. وتأتي المحكمة الدستورية، وفق ما يراه باحثون وأكاديميون، استجابة لمطالب طبقة سياسية وفاعلين حقوقيين، بالنظر إلى دورها في ضمان الرقابة واستقرار المؤسسات الدستورية والحفاظ على التوازن بين السلطات الثلاث والفصل بينها، إذ يدرجونها ضمن أفضل الأنظمة التي تستجيب للمعايير العالمية. مؤسسات قوية من هذا الباب، يتجلى حرص السلطات العليا في البلاد، على مباشرة إصلاحات عميقة على أسس جدية تضمن التغيير السلس والهادئ، بحيث يمكن للمحكمة الدستورية بالجزائر - وهي آلية معمول بها في أعرق الديمقراطيات - أن تؤدي أدوارا هامة من حيث السهر على ضمان احترام أحكام الدستور وتطبيقه، فضلا عن أنها جهة تفصل في النزاعات الدستورية وكل من مُسَّت حقوقه. وأعقب التعديل الدستوري، مواصلة مسار إصلاحات هامة متضمنة في الالتزامات 10 الأولى، وتشمل أساسا إعادة صياغة الإطار القانوني للانتخابات (قانون الانتخابات) من أجل إصلاح شامل للدولة بكل فروعها ومؤسسات الجمهورية، فضلا عن أخلقة السياسة والحياة العامة وتعزيز الحكم الراشد عن طريق إصلاح شامل للعدالة لضمان استقلاليتها وتحديثها. إلى جانب تحقيق حرية الصحافة وتعدديتها واستقلالها وضمان احترام قواعد الاحترافية وأخلاقيات المهنة، وتعزيز الديمقراطية التشاركية، وبناء مجتمع مدني حر ونشيط وقادر وهذا الأخير يعد الالتزام الثامن. ومن ضمن أهم المحطات في مسار إصلاحات المؤسسات، في الثلاثي الأول من سنة 2021، تعديل القانون العضوي للانتخابات، بعد قرار الرئيس عبد المجيد تبون حل الغرفة السفلى للبرلمان، أعلن عنه في خطاب موجه للأمة يوم 18 فيفري، وتنظيم انتخابات تشريعية مسبقة طبقا لأحكام المادة 151 من الدستور. ومن أجل ضمان إعادة تشكيل مؤسسات منتخبة وقوية تعبر عن الإرادة الشعبية، أدخلت تعديلات على القانون العضوي للانتخابات، من أبرزها تغيير نظام الانتخابات وتعويض القائمة المغلقة بالقائمة المفتوحة، يتيح للناخب مستويات أعلى من الحرية في ممارسة خياراته. صوت الشعب هذه التعديلات جاءت بنظام اقتراع نسبي يمثل الممارسة الأكثر ديمقراطية وفق المختصين، كما أنه نظام أسقط ممارسات سابقة تتعلق بالمال السياسي الفاسد وشراء الذمم في القوائم الانتخابية. وعلى ضوء ذلك، كانت 2021 سنة حافلة في مسار الإصلاحات وإعادة بناء المؤسسات المنتخبة التي باشرها الرئيس تبون، إذ أُجريت انتخابات تشريعية جوان 2021، أعقبتها انتخابات لتجديد المجالس الشعبية البلدية والولائية شهر نوفمبر من السنة ذاتها (وانتخابات محلية جزئية جرت مؤخرا)، وهي آخر محطة في إعادة بناء المؤسسات المنتخبة، إلى جانب تنصيب أعضاء أول محكمة دستورية في الجزائر (نوفمبر 2021). بعد استكمال مسار تجديد مؤسسات الدولة، جاء الدور على مباشرة إصلاحات هيكلية أخرى لا تقل أهمية واستحداث مؤسسات جديدة، تمهد لوضع أرضية صلبة في إطار ممارسة ديمقراطية تشاركية تتجاوز المقاربات التقليدية، وإشراك المواطن في عملية البناء دون إقصاء، خاصة على المستوى المحلي بكيفيات منظمة ومهيكلة وبطرق مرنة وفعالة. معالم ديمقراطية تشاركية من هذا المنظور، يولي رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون أهمية بالغة لفعاليات المجتمع المدني وفئات الشباب ودورهما في مسار بناء الجزائر الجديدة وإدارة الشؤون العامة، وهو ما تُرجم بدسترة المرصد الوطني للمجتمع المدني، والمجلس الأعلى للشباب، في التعديل الدستوري لسنة 2020. وفي هذه الجانب بالتحديد، يربط مختصون أهمية إشراك الحركة الجمعوية في تنفيذ السياسات العمومية إرساء لأدوات الديمقراطية التشاركية، بتقوية مؤسسات الدولة وتحصينها، لاسيما إزاء ما يشهده العالم من تحولات جيو- استراتيجية وتجاذبات وإعادة تقسيم للخارطة السياسية العالمية وما يقتضي ذلك من تحديات في الداخل. إصلاح وتقوية مؤسسات الدولة وتعزيز جسر الثقة بينها وبين الجزائريين، يمثل في نظر مشاركين في الجلسات الوطنية للمجتمع المدني، التي جرت مؤخرا بالجزائر العاصمة، عنصرا أساسيا في تقوية مؤسسات الدولة وجاهزيتها لمواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية، خاصة مع وجود إرادة سياسية وآليات دستورية تُتيح للمجتمع المدني بناء قدراته والخروج من نقاط الضعف والتحول إلى قوة اقتراح. مسار إصلاحي مستمر وطيلة 3 سنوات كاملة، لا تزال السلطات العليا في البلاد ماضية في مسار إصلاحات شاملة، بعضها أنجز وآخر قيد الإنجاز في صورة مراجعة مواصلة استكمال نموذج ديمقراطية تشاركية وتجويد تسيير الشأن العام وتحسين خدمة المواطن، خاصة على المستوى المحلي، إذ تعكف حاليا لجنة خاصة بمراجعة قانوني البلدية والولاية بشكل عميق، تنفيذا لتعليمات رئيس الجمهورية في اجتماع لمجلس الوزراء، أكتوبر الماضي. وبالنظر لدور فعاليات المجتمع المدني وأهمية قانون الجمعيات المنظم للمشهد الجمعوي، يُجري أيضا إثراء مشروع القانون ومراجعته، بشكل يتناسب والمقاربة الجديدة التي تسعى السلطات العليا في البلاد إلى إرساء قوامها في إطار مشروع الجزائر الجديدة، إلى جانب قوانين أخرى قيد المراجعة، منها تلك التي تضبط الممارسة الإعلامية وترتقي بها.