في ندوة "أركون مفكّرا" التي نظّمتها الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، والتي شاركتُ فيها بمداخلة معنونة "تجربتي الشّخصية في قراءة الفكر الأركوني خارج الإطار الأكاديمي"، طُرح عليّ سؤال من أحد المتدخّلين حول الفرق الموجود بين مصطلح "الظاهرة القرآنية" ومفهوم "الظاهرة الإسلامية" كما وظّفهما محمد أركون في كتبه وأبحاثه، خاصة في نقده للعقل الإسلامي. وكنتُ من قبل خصّصتُ مقالا لكتاب مالك بن نبي "الظاهرة القرآنية"، وعنونته "من علم الكلام إلى الظاهرة القرآنية". ومن المحتمل جدا، أن يكون صاحب نقد العقل الإسلامي قد اطّلع على كتاب بن نبي واستلهم منه المصطلح، انطلاقا من أنّ محمد أركون انتقد مالك بن نبي لخوضه في هذه المسائل الدينية التراثية، وكان يرى أن التطرق إلى هذه القضايا تتطلب التحكم في العلوم الإنسانية ومناهجها الحديثة. 1- مفهوم الظّاهرة القرآنية كنّا رأينا مع مالك بن نبي، أنّ القرآن الكريم يمثل في حدّ ذاته ظاهرة، باعتبار أنّ استغراق نزوله نحو ثلاثة وعشرين سنة يجعله أكثر من أن يكون مجرد حدث. فإذا أمكن تعريف ظاهرة ما على أنّها "حدث يتكرر وقوعه بنفس الشروط"، فإنّ تعاقب نزول القرآن لأكثر من عقدين يصدق عليه هذا التعريف، أمّا أركون فيقصد بالظاهرة القرآنية، القرآن كحدث يحصل لأول مرّة في التاريخ، وبشكل أدق يقصد التجلي التاريخي لخطاب شفهي في زمان ومكان محددين تماما: الزمان هو بدايات التبشير، وترى الرواية الرسمية أنّ أول ما نزل على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يوم الإثنين 21 من شهر رمضان، وهو ما يوافق 10 أغسطس من عام 610م، أما المكان أو البيئة الاجتماعية -الثقافية التي ظهر فيها هي الجزيرة العربية أو الحجاز بتعبير أدق. ويُلح أركون على الطّابع الشفهي للقرآن في البداية، لأنه لم يُكتب أو لم يُدوّن إلّا فيما بعد حسب زعمه ورؤيته للإسلام المبكر، وهو بذلك يخالف الرواية الرسمية التي تؤكد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر كتبة الوحي بتدوينه وفق الوسائل المادية المتاحة آنذاك. ويرى أركون أنّ هذا الخطاب الشفهي رافق الممارسة التاريخية المحسومة لفاعل اجتماعي يدعى: محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - حيث رافق ممارسته التاريخية المتنوعة الجوانب طيلة أكثر من عشرين عاما أي حتى وفاته. ويرى أركون أنّ الهدف من بلورة هذا المصطلح لم يكن الدفاع عن البعد الديني أو نفيه، ولا خلع التقديس عليه أو نزعه، وإنما الهدف الرئيسي منه يبقى وصف الأمور كما هي. ففي المرحلة الأولى، يبقى الهدف هو لفت الانتباه إلى المشروطية اللغوية والثقافية والاجتماعية لإنتاج هذا الخطاب من قبل متكلم ما. فهذا الخطاب تلفظ به متكلم هو النبي العربي - صلى الله عليه وسلم - بلغة ما هي هنا اللغة العربية، في بيئة ما هي الجزيرة العربية. ثم استقبله، لأول مرة في التاريخ، جمهور ما، هو الجمهور العربي القرشي في مكة. واتخذوا منه مواقف شتى كما هو معروف، منها القبول من قبل الجماعة المؤمنة الأولى، والرفض من قبل المشركين واليهود والنصارى، كما جاء في القرآن الكريم (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجّر لنا من الأرض ينبوعا. أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجّر الأنهار خلالها تفجيرا. أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا. أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلّا بشرا رسولا)، الآيات 90-93 من سورة الإسراء. ويبرّر أركون لجوءه إلى مصطلح الظاهرة القرآنية، باعتبار أن كلمة قرآن مثقلة بالشحنات والمضامين اللاهوتية، والممارسة الطقوسية الشعائرية المستمرة منذ مئات السنين إلى درجة أنّه يصعب استخدامها كما هي. من جهة أخرى، لا يمكن استخدام كلمة قرآن كمصطلح فعّال من أجل القيام بمراجعة نقدية جذرية لكل التراث الإسلامي، وإعادة تحديده أو فهمه بطريقة مستقبلية استكشافية. كما أنّ كلمة قرآن تحتاج إلى تفكيك مسبق من أجل الكشف عن مستويات من المعنى والدلالة، كانت قد طمست ونسبت من قبل التراث التّقَوي الورع، وكذا من قبل المنهجية الفيلولوجية النصّانية، أو المغرقة في التزامها بحرفية النص. فهدف أركون في استعماله الظاهرة القرآنية، هو وضع كل التركيبات العقائدية الإسلامية، وكل التحديدات اللاهوتية والتشريعية والأدبية والبلاغية والتفسيرية...إلخ على مسافة نقدية كافية من البحث العلمي. مع ذلك نشير أنّ أركون استعمل مصطلح القرآن بدل الظاهرة القرآنية في عنوان كتابه "قراءات في القرآن"، الذي صدر أول مرّة بعنوان: "القرآن؛ من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني". ويعترف أركون أنّ القرآن الكريم يتضمّن خطابا دينيا غنيا عابقا بالمجاز، ولغته تتميز ببعدها الرمزي الذي عجزت المنهجيات الألسنية والفقهية اللغوية أن تسير كل أغواره حتى الآن. وهذا ما شعر به أركون - في اعتقادنا - في دراسته لسورة الفاتحة، وفق المنهج الألسني في كتابه السابق الذكر، فالخطاب القرآني يرتفع بالبعد الرمزي إلى مستوى عال يفوق الوصف، لذلك فإن الظاهرة القرآنية هي ظاهرة متعالية لا يمكن حصرها في تفسير واحد؛ لأنها مفتوحة على الدلالات المعنوية كلها؛ لذلك، يرى أركون أن القرآن تعرّض عبر التاريخ إلى عدّة قراءات، منها القراءة اللاهوتية أو الإيمانية والقراءة التاريخية أو الأنتروبولوجية والقراءة الألسنية أو السيميائية الأدبية. كما عرف القرآن عدّة تفاسير منذ عهد التدوين إلى يومنا هذا، خضعت للأنظمة المعرفية السائدة أو ما يعرف "بالإبستمه" بتعبير ميشال فوكو، وهو ما يفسر الاختلافات والتباينات من تفسير لآخر. فتفسير الطبري يختلف عن تفسير ابن كثير، وتفسير هذا الأخير يختلف عن تفسير فخر الدين الرازي، وتفسير القدماء يختلف عن تفسير المحدثين من أمثال المراغي وابن عاشور. وتشكل هذه القراءات والتفاسير أحد روافد الظاهرة الإسلامية حتى وإن انطلقت من القرآن الكريم. 2- مفهوم الظّاهرة الإسلامية يمكن تفسير الظاهرة الإسلامية بالإنتاج الفكري والفقهي واللغوي والأدبي...إلخ الذي انطلق من الظاهرة القرآنية. ومن ثمة، فالظاهرة الإسلامية هي تاريخية بامتياز، باعتبار أنّها تجسّد معنى من معاني الظاهرة القرآنية، وبتعبير آخر، فإن الظاهرة الإسلامية هي تجسيد تاريخي للظاهرة القرآنية من خلال الوساطة البشرية، أي من خلال التفسير والتأويل والاجتهادات الفقهية التي يقوم بها البشر، وهم المفسرون والفقهاء والمتكلمون وحتى الفلاسفة الذين تطرقوا إلى تأويل القرآن والاستدلال به، كما فعل ذلك الفيلسوف ابن رشد. لذلك نجد أنّ الظاهرة الإسلامية وعلى خلاف الظاهرة القرآنية، تنقسم إلى ملل ونحل ومذاهب، تتباين قراءتها وتفاسيرها للظاهرة القرآنية، وهو ما نجده في مذاهب السنة والشيعة والخوارج. بل نفس المذاهب راحت تختلف عقديا وفقهيا وكلاميا وسياسيا على غرار الفرق الشيعية كالزيدية والإسماعيلية والاثنا-عشرية، أو المذاهب الفقهية السنية كالمالكية والحنفية والشافعية والحنبلية، أو الكلامية كالمعتزلة والأشعرية والماتريدية، ونفس الشيء يمكن إسقاطه على كتب الحديث المختلفة كصحيح البخاري السني والكافي للشيخ الكليني الشيعي ومسند الربيع بن حبيب الإباضي، وكذا الفرق الصوفية بمختلف طرائقها وفلسفاتها. بل يمكن اعتبار الحركات الإسلامية الاجتماعية والسياسية المعاصرة إحدى روافد الظاهرة الإسلامية، مادامت تلجأ هي الأخرى إلى الظاهرة القرآنية، قصد تجسيدها ميدانيا عن طريق تأويل بعض الآيات التي تخدم توجهها السياسي، كآيات الشورى وطاعة أولي الأمر على سبيل المثال. كذلك نلاحظ أنّ الظاهرة الإسلامية تجسدها فئات اجتماعية محددة، أو لنقل جماعة إسلامية معينة، راحت كل واحدة منها توهم جماعة المؤمنين (المواطنين بالمفهوم الحديث) بأنها تمتلك المشروعية الدينية بشكل كامل ومتعال، أي تدعي الحقيقة المطلقة انطلاقا من قراءتها الضيقة للظاهرة القرآنية، وهي بذلك تُجيّش جماعة المؤمنين لتقديس رؤيتها والدفاع عنها باستعمال العنف المعنوي والمادي، وهو المثلث الأنتروبولوجي الذي أشار إليه أركون (الحقيقة-المقدس-العنف)، وهو ما حصل عبر التاريخ الإسلامي من صراعات وحروب دموية ظاهرها الدفاع عن الحقيقة الدينية، وباطنها صراع سياسي من أجل السلطة عن طريق حركات سياسية بحتة أو أحزاب لاهوتية-سياسية. يرى محمد أركون أنّ الرسول العربي - صلى الله عليه وسلم - يكون أوّل من جسّد الظاهرة القرآنية ميدانيا، وذلك في تجربة المدينة، وبالتالي يمكن القول إنّ إرهاصات الظاهرة الإسلامية بدأت مع عام 622 ميلادية، أي العام الأول للهجرة، وقد أمست هذه التجربة النبوية التاريخية مثالا يحتذى به لكل الجماعات الإسلامية والفرق، وكذا الحركات السياسية الإسلامية المعاصرة. إلّا أنّ النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في تجربة المدينة، بقي وسيطا بين القرآن الذي استمر في النزول، والجماعة المؤمنة التي تلقت كلام الله مباشرة عن طريق الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - 3- خصائص الظّاهرة القرآنية مقارنة بالظّاهرة الإسلامية يركّز محمد أركون في معرض تمييزه ما بين الظاهرة القرآنية والظاهرة الإسلامية على ثلاث نقاط أساسية تتمثل فيما يلي: أولا: هناك فرق بين الظاهرتين من الناحية اللغوية، إذ أنه من السهل ملاحظة الاختلاف ما بين الخطاب القرآني وبين أي خطاب عربي آخر. ومن المعروف أنّ علماء اللغة قسموا اللغة إلى نثر وشعر وقرآن، وهو ما ذهب إليه أيضا طه حسين عندما قال: القرآن ليس نثرا ولا شعرا، إنما هو قرآن. يشير أركون إلى كل ما يميز القرآن سواء على صعيد المعنى أم الأسلوب أم النحو أم البلاغة أم الإيقاع. فالمجاز يؤدي دورا حاسما في بنية الخطاب القرآني عندما يسمح بتغيير الوقائع الوجودية اليومية ويصعدها فيجعلها متسامية، فيتأسس بذلك وعي ديني جديد. ثانيا: هناك من الناحية السيميائية خطة معينة متبعة من أجل توصيل الرسالة التي يتضمنها الخطاب القرآني: فالله هو الفاعل المرسِل، يتواصل مع مرسَل إليه ينقسم إلى نوعين: مؤمن وكافر. يقوم النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ الرسالة، فهو الوسيط المميز ومحايد، لأنه مجرد مبلغ ينقل الوحي فقط (وقال الرسول يا ربّ إنّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) الآية 30 من سورة الفرقان. ثالثا: يتبين من الناحية التاريخية أنّ القرآن قد خلع غطاء التعالي على ما قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعمال وممارسات، ما جعلها متسامية ومرتبطة بالله. أسماء الأماكن والتواريخ والأحداث الفردية معظمها مُحيت ولم تعد مهمة، فنزعت عنها صفة التاريخية. هكذا أصبح من واجب المؤمن أن يربط كل ما هو في هذا العالم بالخالق المطلق، وأن يتبع أحكام القرآن التي تصلح لكل زمان ومكان، لأنها فوق التاريخ. أما فيما يتعلق بالظاهرة الإسلامية، فالأمر مختلف، إذ إنه بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعد الخطاب القرآني يمارس دوره كقوة منظمة ومشكلة ترسخ وعيا في حالة الانبثاق ضمن الأحداث المعيشة من قبل جماعة المؤمنين. لقد أصبح مرجعا مميزا ومكانا تسقط عليه مختلف التصورات والمفاهيم والأفكار التي تعيشها العواصم الحضرية التي نشأت حديثا بعد انتشار الإسلام كدمشق وبغداد والبصرة والكوفة...وهي مختلفة عن تلك التي كانت سائدة زمن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - من هنا، يصل أركون إلى الاستنتاج الذي يبحث عنه ويريد توظيفه، وهو أن العقل الإسلامي الذي عمل على تفسير الظاهرة القرآنية في سبيل تحيينها وتجسيدها هو عقل تاريخي، يخضع لمشروطية التاريخ البشري، ولا يمكن التعالي عليها، وهذا ما يسمح له بإخضاعه لشروط النقد المنفتح والحر عن طريق المناهج الحديثة كما فصلها في الإسلاميات التطبيقية، ونقده لرسالة الشافعي التي صقلت العقل الإسلامي خاصة السني، لقرون ولازالت. في الأخير، يمكن القول إن الإنتاج المعرفي والفكري الذي تركه محمد أركون يندرج هو الآخر ضمن خطوط الظاهرة الإسلامية، مادام لجأ هو أيضا إلى الظاهرة القرآنية قصد تفسيرها وقراءتها من جديد، وفق المناهج الحديثة كما فعل ذلك في كتابه "قراءات في القرآن"، حيث طبق المنهج الألسني على صورة الفاتحة، والمنهج التاريخي على سورة الكهف والمنهج الأنتروبولوجي على صورة التوبة أو آية السيف، هذا يعني أن فكر أركون يندرج ضمن سياق تاريخي معين ونظام معرفي محدد، ويخضع هو الآخر لشروط النقد المعرفي المنفتح والحر. وقد تعرّض أركون إلى انتقادات شتى من قبل التقليديين والحداثيين سواء من العرب أو من الغربيين، وهو موضوع قد نعالجه في ندوة أو مقال مستقل. ملاحظة: للمقال مراجع عديدة نذكر أهمها: - قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟ لمحمد أركون. - القرآن: من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، لمحمد أركون. - التراث والمنهج بين أركون والجابري، لنايلة أبي نادر. - الظاهرة القرآنية عند محمد أركون: تحليل ونقد، لأحمد بوعود.