حقّقت القضية الفلسطينية مؤخّرا انتصارا جديدا بعد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة طلب فتوى من محكمة العدل الدولية حول طبيعة الاحتلال الصهيوني، والذي من المقرر أن تنظر فيه المحكمة خلال 2023. وتعتبر الاستشارة الثانية من نوعها بعد الاستشارة الصادرة في جويلية 2004 حول الآثار القانونية الناشئة عن تشييد جدار الفصل العنصري في الأرض الفلسطينيةالمحتلة. رحّب الفلسطينيون بالقرار الذي يعد خطوة جديدة نحو كسب المزيد من الدعم الدولي في سبيل إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني وإجبار المحتل الصهيوني على الالتزام بالقرارات الدولية، ومن ورائه الدول الداعمة له، والتي عادة ما تستعمل حق الفيتو إذا تعلق الأمر بعقوبات ضد الكيان الغاصب. ورغم عدم إلزامية استشارتها، إلا أنها تستحدث وضعا قانونيا جديدا يفرض على الدول الالتزام به، بما أن القرار الذي يتوقّع أن يكون في صالح الفلسطينيين، يستند إلى القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني، وهما أعلى من القوانين الوطنية، بالنسبة للدول التي صادقت على الانضمام لمحكمة العدل الدولية. وبالنسبة للقضية الفلسطينية يعتبر قرارا تاريخيا، لأن كل المحاولات السابقة بقيت على مستوى الجمعية العامة ولم تتمكن من الذهاب إلى محكمة العدل الدولية فيما عدا قرار 2004. الاحتلال وميزان العدالة صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالأغلبية على مقترح طلب استشارة محكمة العدل الدولية حول طبيعة الاحتلال الصهيوني والآثار القانونية المترتبة عنه. وجاء السؤال على الشكل التالي: «ما هي الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك (الكيان الصهيوني) المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلاله طويل الأمد للأرض الفلسطينيةالمحتلة منذ عام 1967 واستيطانه وضمه لها، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديمغرافي لمدينة القدس الشريف وطابعها ووضعها، وعن اعتماده تشريعات وتدابير تمييزية في هذا الشأن؟ وكيف تؤثر سياسات (الكيان الصهيوني) وممارساته المشار إليها في الفقرة 18 (أ) على الوضع القانوني للاحتلال وما هي الآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة لجميع الدول والأممالمتحدة؟». واستند الطلب على المادة 65 من النظام الأساسي للمحكمة، مع الأخذ بعين الاعتبار قواعد ومبادئ القانون الدولي، بما في ذلك ميثاق الأممالمتحدة، والقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان ذات الصلة وفتوى المحكمة الصادرة يوم 09 جويلية 2004 بخصوص جدار الفصل العنصري. وطلبت الجمعية العامة في قرارها الجديد من الأمين العام، أن يقدم في الدورة الثامنة والسبعين تقريرا عن تنفيذ هذا القرار، بما في ذلك انطباق اتفاقية جنيف الرابعة على الأرض الفلسطينيةالمحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وعلى الأراضي العربية المحتلة الأخرى. وصوتت الجمعية العامة أيضا على قرار تمويل المتطلبات المالية الذي اعتمدته اللجنة الخامسة. رعب داخل الكيان الصهيوني رغم أن إحالة موضوع الاحتلال على محكمة العدل الدولية سيصدر عنه مجرد قرار استشاري وغير ملزم للدول قانونيا، من حيث أن المحكمة لا تملك آليات تنفيذية تجبر الدول الأعضاء على الالتزام، لكنه أثار ذعرا في صفوف الكيان الصهيوني، الذي وصفه ب «غير الملزم»، في إشارة إلى أنه لن يلتزم به، ويرجع سبب الذعر إلى التغييرات القانونية التي ستحدث على مستوى القوانين الداخلية للدول الأعضاء المصادقة على ميثاق المحكمة. ويسمح الرأي الاستشاري بحصد القضية الفلسطينية مزيدا من الدعم على الصعيد الدولي؛ ذلك أن الاحتلال الصهيوني غير قانوني في حد ذاته، بالنظر إلى طول مدته التي قاربت الثمانية عقود، (بينما يمكن للاحتلال أن يكون قانونيا خلال فترة الاشتباكات أثناء الحرب). يضاف إلى ذلك، أن الممارسات الوحشية ضد الشعب الفلسطيني من تهجير وتطهير وتمييز عنصري وضم الأراضي وبناء المستوطنات، وانتهاك حق تقرير المصير وضرب القرارات الدولية عرض الحائط، والقفز على القانون الدولي، عززت قدرة الفلسطينيين على الدفاع عن حقوقهم على الصعيد الدولي وصولا إلى محكمة العدل الدولية، وكذا جعلت معظم دول العالم والمنظمات الحقوقية تقف موقف الرافض لهذه الانتهاكات. وقرار الجمعية العامة وما ينتج عنه من فتوى محكمة العدل الدولية سيجعل الرواية الفلسطينية الحقيقية مسموعة في العالم أجمع وستظل موجودة وعادلة. وقرار المحكمة حتى وإن لم يكن ملزما، فإنه يمكن المفاوض الفلسطيني وكل الجهات الفاعلة في المجتمع المدني الدولي والدول والمنظمات من استخدامه ضد الكيان الصهيوني. وبما أنه رأي قانوني سيكون مقبولا على الصعيد الدولي، لأنه يصدر عن أعلى هيئة قضائية في العالم وبذلك يزيد من قوة الوضع القانوني لفلسطين ويضعف موقف المحتل الصهيوني في المحافل الدولية. من جهة أخرى، ستضع الفتوى التي تستند إلى القانون الدولي العام والذي يرى أن الاحتلال عملية مؤقتة ويجب أن تنتهي، أمام الأمر الواقع، وينجر عنه- بحسب القانون الدولي دائما- ترتيبات على القوانين الداخلية، بما أنها أدنى من القانون الدولي، وأية موافقة على قواعد القانون الدولي تعني بالضرورة تغيير القوانين الداخلية بما يتماشى معه. خاصة وأن الاحتلال الصهيوني تحول من احتلال الأرض إلى ضم الأراضي وهي عملية غير قانونية. ويستمد القرار قوته، رغم أنه استشاري وسيحال مجددا على الجمعية العامة التي تعتبر قراراتها غير ملزمة، من أن المحكمة ستصدر توصية للمجتمع الدولي بالإجراءات الواجب اتباعها لإنهاء الاحتلال الذي طال أمده. وبالتالي تخشى الدول الغربية من أن تتعرى أمام القانون الدولي الذي وضعته هي وأنشأت هيئاته ومنها محكمة العدل الدولية وهي أعلى محكمة في العالم. يضاف إلى ذلك أن الرأي الاستشاري المنتظر صدوره سيحاكم فكرة الاحتلال نفسه، وهو يشبه في جوهره قرار العام 1975 الذي أدان الحركة الصهيونية، وبالتالي هذا القرار الذي توقع أن يصدر عن محكمة العدل الدولية لصالح فلسطين وإدانة الاحتلال وعدم قانونيته وتعطيله لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، هي إدانة لفكرة الاحتلال. ومن المنظر أن تجيب المحكمة عن كيفية التعامل مع هذا الاحتلال، ما يعني أن الرأي يضم آلية عمل للتعامل مع كيان غير قانوني، على اعتبار ان المحكمة ستحكم وفقا للقانون الدولي الذي يعتبر هذا النوع من التواجد غير قانوني لأنه تحول من احتلال إلى ضم، كما أشرنا إليه. متواطئون يسدون منافذ الشرعية من الصعوبات التي تعترض موضوع القضية الفلسطينية والقرارات التي تصدر بشأنها هو أولا عدم التزام الكيان الصهيوني بها، كما جرت عليه العادة، حيث يعتبر نفسه فوق القانون. ثانيا، ازدواجية المعايير التي تحكم الممارسة الدولية، التي تغض الطرف عن انتهاكات الكيان الصهيوني لحقوق الشعب الفلسطيني، بينما تعمل كل جهدها لإنهاء الحرب في أوكرانيا، وفرضت كمّا هائلا من العقوبات على روسيا التزمت بها العديد من الدول الغربية، بغرض الحصار الاقتصادي والدبلوماسي والإعلامي والضغط على روسيا لإنهاء العمليات العسكرية التي بدأتها قبل قرابة عام في أوكرانيا. رغم أنها جاءت نتاج استفزازات الغرب الذي لم يلتزم بقرار عدم التوسع شرقا غداة انهيار الاتحاد السوفييتي، وراح يضم المزيد من الدول لحلف الناتو وبلغ حدود روسيا بمحاولة ضم أوكرانيا إلى الحلف. ثالثا، تغير مواقف الدول باستمرار إما بسبب مساندتها للكيان الصهيوني أو بسبب تعرضها للضغط من طرفه، ومثال ذلك تغير مواقف دول حول السؤال نفسه الذي طرح أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 نوفمبر 2022، حيث صوتت حينها 98 دولة لصالح السؤال وعارضته 17 دولة وبعد نحو شهر واحد أي يوم 30 ديسمبر 2022، تراجع عدد الدول المؤيدة إلى 87 وارتفع عدد الدول المعارضة إلى 26. فيما غابت أوكرانيا التي صوتت لصالح السؤال ابتداء ثم تغيبت في جلسة ديسمبر. ظروف مساعدة يتوفر الظرف الدولي الحالي على عوامل مساعدة تخدم المسعى الفلسطيني، فداخليا تشكل المصالحة الوطنية والتئام الشمل الذي وقع إتّفاقه في الجزائر شهر أكتوبر 2022، وقرارات قمة الجزائر التي من شأنها أن تعيد التضامن العربي مع القضية التي عاشت عزلة في محيطها الإقليمي ما سمح بتغول الاحتلال الصهيوني عليها، وكذلك ينهي الانقسام الداخلي الذي زرعه المحتل لتسهيل السيطرة وإحكام قبضته على زمام الأمور من خلال إلهاء الأطراف الداخلية بالصراع الذي لم يزدها إلا ضعفا، وعليه التزام الداخل الفلسطيني بالمصالحة سيجعله أكثر صلابة في مواجهة العدو، ومنه تتركز الجهود سواء بالمقاومة المسلحة على أرض الواقع أو السياسية والدبلوماسية في المنظمات والمحافل الدولية. العامل الآخر المساعد، هو صعود حكومة يمينية متطرفة وممارساتها الفاشية سيعطي شرعية ومشروعية أكبر للمطالب الفلسطينية. أما دوليا، فيشهد العالم تغيرا في النظام الدولي، ببروز أقطاب تدعو إلى عالم أكثر عدلا، تتساوى فيه سيادة الدول وترد المظالم، وبالتالي ستجد القضية مزيدا من الدعم في مواجهة استبداد نظام الفصل العنصري الصهيوني، هذا من جهة. من جهة أخرى، الحرب الدائرة في أوكرانيا والدعم الدولي الغربي الذي تحظى به هذه الأخيرة، يعطي الفلسطينيين حجة أخرى ضد هذا الغرب الذي يكيل بمكيالين، من أجل إنصاف الفلسطينيين وإرجاع حقوقهم التي يقرها القانون الدولي. مما يعني أن الظروف التي حالت دون التزام الكيان الصهيوني برأي المحكمة للعام 2004 حول جدار الفصل العنصري قد تغيرت، فلم تعد هناك أحادية قطبية تدير العالم وفق وجهة نظر واحدة. وأهم العوامل المساعدة هي مساندة أكثر من ثلثي الدول الأعضاء في الأممالمتحدة للقضية الفلسطينية. فعلى مستوى منظمة الأممالمتحدة يحظى الحل السياسي وحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وتجديد ولاية الأونروا بتأييد بين 150 إلى 170 صوت. وبالتالي وعلى هذا المستوى تحظى القضية الفلسطينية بتأييد أقوى من ذلك الذي تحظى به أوكرانيا من طرف الدول الغربية، حيث حظيت القضية الأوكرانية ب141 صوتا فقط في الجمعية العامة وقد اعتبره الغرب شبه إجماع وهو أقل بكثير مما تحظى به القضية. ورغم أن القضية تلقى دعما أقل في المواضيع الاستشارية، لأن دول الغرب، على رأسها أمريكا، تعلم أن رأي محكمة العدل الدولية الاستشاري يترتب عليه التزامات قانونية، لذلك كانت تعرقل حصول إجماع في الجمعية العامة الذي يؤدي إلى الذهاب إلى محكمة العدل الدولية، إلا أن تلك الدول، وهي تشكل الأغلبية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، نجحت مجددا في تمرير الطلب إلى محكمة العدل الدولية، الأمر الذي كان صعبا جدا حدوثه، وهي خطوة جديدة إيجابية في مسار النضال الفلسطيني لاسترجاع حقه وسيادته. قرارات داعمة يضاف إلى ذلك الدعم الذي حصلت عليه من خلال قرارات منظمات دولية، على غرار منظمة العفو الدولية «أمنستي» التي اعتبرت الاحتلال الصهيوني اعتداء على الأراضي الفلسطينية. ونشرت في 1 فيفري 2022، تقريرا كاملا حول سياسة الفصل العنصري الصهيوني ضد الفلسطينيين. ووثق التقرير الذي حمل عنوان «نظام الفصل العنصري (أبارتايد) الصهيوني ضد الفلسطينيين: نظام قاس يقوم على الهيمنة وجريمة ضد الإنسانية» عمليات الاستيلاء على الأراضي والممتلكات الفلسطينية، وأعمال القتل غير المشروعة، والنقل القسري، والقيود الشديدة على حرية التنقل، وحرمان الفلسطينيين من حقوق المواطنة والجنسية، من خلال فرض قوانين وسياسات وممارسات ضد كل الفلسطينيين في كل فلسطين في غزة والضفة الغربية، والقدس الشرقية، أو الخليل، أو الداخل المحتل. وقال التقرير، إن الكيان المحتل يعاملهم كجماعة عرقية دونية، ويحرمها من حقوقها بشكل ممنهج يرقى إلى مستوى الفصل العنصري بموجب القانون الدولي كما هي معرفة في نظام روما الأساسي والاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها (اتفاقية الفصل العنصري). ودعت منظمة العفو الدولية حينها في تقريرها المحكمة الجنائية الدولية إلى النظر في جريمة الفصل العنصري في سياق تحقيقاتها الحالية في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، وطلبت من جميع الدول ممارسة الولاية القضائية الشاملة وتقديم مرتكبي جرائم الفصل العنصري إلى العدالة. وقبل ذلك نشرت منظمة «هيومن رايتس ووتش» تقريرها السنوي للعام 2021، وتضمن التقرير توصيفا للممارسات الصهيونية ضد حقوق الشعب الفلسطيني، باعتقال المواطنين ومصادرة أملاكهم، وفصلهم قسرا وإخضاعهم بحكم هويتهم، وذلك ما اعتبرته يرقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية، ووصف التقرير بناء الحواجز بين المناطق الفلسطينية والصهيونية، وفرض قيود السفر على الفلسطينيين، واستعمال القوة المفرطة ضدهم، وتعليق الحقوق المدنية الخاصة بهم بالفصل العنصري والاضطهاد. وأوضح ان القوانين والسياسات والبيانات الصادرة عن المسؤولين الصهاينة وجهت سياسة الحكومات الصهيونية منذ فترة طويلة، بهدف إبقاء السيطرة الصهيونية اليهودية على التركيبة السكانية، والسلطة السياسية والأرض.