يتكرّر مشهد مجزرة مخيم جنين التي وقعت في شهر نيسان (إبريل) عام 2002 بعد اقتحامها بقوات كبيرة من جيش الاحتلال الصهيوني معززة بالمشاة والدبابات والجرافات العسكرية، ما أدى إلى تدمير المخيم على رؤوس ساكنيه واستشهاد 58 فلسطينياً جلهم من السكان المدنيين، والذي شهد حينها مقاومة شرسة أدت إلى مقتل 23 جندياً صهيونيا، كل يوم، وخاصة بعد حملة التحريض الصهيونية المستمرة التي تُقاد ضده في الأروقة السياسية والإعلام الصهيوني. تعيش محافظة جنين بمخيمها حالة استثنائية منذ أن دمّر جيش الاحتلال الصهيوني مخيمها عام 2002، ويدفع بأجهزته الأمنية والإعلامية للتحريض على المخيم الذي يعد أيقونة للمقاومة وعنواناً للتضحية، وإطلاق الدعوات لتنفيذ عملية «سور واقي 2». فما جرى في السادس والعشرين من كانون ثاني (يناير) 2023 في جنين من جريمة مكتملة الأركان استهدفت المدنيين من الشباب والأطفال والنساء بإطلاقها وابل من الرصاص المحرم دولياً تجاههم، واستهداف الأجزاء العلوية وخاصة في الرأس والصدر بقصد القتل، ما أدى لاستشهاد 10 فلسطينيين من المدنيين الأبرياء وجرح العشرات ليرفع حصيلة الشهداء منذ بداية العام الجاري إلى 30 شهيداً حتى كتابة المقال، إلى جانب ذلك إطلاق جيش الاحتلال تبريرات واهية لارتكاب جريمته تحت دعاوى «إحباط تنفيذ عملية كبيرة داخل أراضي 48». الاحتلال بثّ معلومات مضلّلة عن صيرورة عمليته العسكرية الإجرامية في جني، وفرض الرقابة والتعتيم على النشر الإعلامي للصحفيين والنشطاء الصهاينة، وأخفى الرواية الفلسطينية عن جريمته باستهداف الصحفيين ومنعهم من التغطية، في حين أن الإعلام الفلسطيني بمختلف وسائله وتوجهاته نقل وروج المعلومات وفق سردية الإعلام الصهيوني دون تمحيص أو تدقيق، في خدمة مجانية للاحتلال، فيما وقع أصحاب النقل والترويج للرواية الصهيونية في وحل التطبيع الإعلامي مع الاحتلال. في جنين تفوح رائحة البارود والرصاص في كل مكان، ويعيش سكانها حياتهم بطرقهم الخاصة، شهيد يودع شهيداً، وشهيد يوصي بشهيد، شهداء جنين حالهم وشكلهم يختلف عن باقي شهداء فلسطين، في شوارع وأزقة جنين تشتم رائحة الدم في كل مكان. كل بيوت وشوارع وأحياء جنين تعيش الموت وتودع أبنائها الشهداء بالزغاريد في مواكب جنائزية مُهيبة، ولكن للحياة في جنين طعم آخر، فهي محاطة بوابل من الآلام والآمال معاً. جنين خزان الثورة والانتفاضة الفلسطينية، جنين أيقونة نضالية في العطاء والتضحية، لها أن تفخر بأبنائها الشهداء، ففيها استشهد عز الدين القسام في جبال يعبد، وفيها ولد وترعرع الشهيد خالد نزال، واستشهدت الطالبة منتهى الحوراني بعد دهسها من إحدى آليات الاحتلال خلال قيادتها مسيرة طلابية عام 1974، وفيها استشهدت أيقونة الصحافة الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، وفي جنين ولد وترعرع أسرى سجن جلبوع، وتصحو كل يوم في جنين على خبر شهيد أو معتقل أو جريح، أو هدم بيت، وهي التي قدمت في الانتفاضة الوطنية الكبرى «انتفاضة الحجارة» لوحدها قرابة 150 شهيداً وأكثر من 10 آلاف جريح. جنين لا تستطيع أن تصفها الكلمات والمرادفات، والتي عبّر عنها المخرج الفلسطيني محمد البكري وهو صاحب الفيلم الشهير (جنين جنين) قائلاً: «ليس فقط الموت، كانت التفاصيل الصغيرة تقتلني، أتذكر ذلك اللاجئ الذي قال لي عن صدمته عندما أفاق صباحاً ووجد منزل جاره كومة حجارة». هذا واقع جنين كما هو واقع فلسطين بعاصمتها وبمدنها وقراها ومخيماتها وأزقتها، وصولاً إلى شتات أبنائها في معارك التاريخ والصراع الطويل دفاعاً على الهوية والأرض والشعب والحقوق الوطنية المشروعة، حيث وصفها الشاعر الفلسطيني سميح القاسم «يا وجع قلبك يا جنين..وأنتِ كل يومٍ تودعين بطلاً من رجالك..وتبكين بحرقةٍ على فتية بعمر الورد..ويا عزك يا جنين وأنتِ تكتبين بدمكِ تاريخاً مُشرفاً لشعبٍ يموت من أجل حريته..جنين ستبقى نافذة فلسطين المشرقة نحو الاستقلال والأمل والغد الأجمل!». إنّ هذه الجريمة النكراء والبشعة في جنين دفعت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى تعليق العمل بالتنسيق الأمني مع دولة الاحتلال على أنه «لم يعد قائماً اعتباراً من الآن»، وهذه الخطوة وإن جاءت متأخرة فهي في الاتجاه الصحيح على طريق استكمال تنفيذ باقي قرارات المجلس المركزي، بما في ذلك سحب الاعتراف بدولة الاحتلال باعتبارها دولة فصل وتمييز عنصري. وأمام استمرار السياسات العدوانية والجرائم الصهيونية، والتي تأخذ أشكالاً تصاعدية مع تشكل الحكومة الصهيونية الفاشية برئاسة نتنياهو، واتساع نفوذ المستوطنين وانتقالهم للفعل المؤثر فيها عبر تشكيلات لميليشيات منظمة ومسلحة تدعو لحلول صفرية للصراع يقوم على الضم الزاحف، والقتل والإعدام، والتهجير والتهويد وهدم المنازل والمنشآت، للاستيلاء على كامل أرض فلسطين، وإقامة دولة الصهاينة الكبرى القومية، ما يتطلب وضع خطط للتحرك الشعبي في قطاع غزة للانخراط في المقاومة الشعبية والتنسيق بكل أشكال النضال الوطني وأساليبه مع الضفة الفلسطينية ومناطق 48 والشتات كما رسمها البرنامج الوطني المرحلي، والعمل على إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الداخلية. فيما على اللجنة التنفيذية التي دعت جميع القوى الفلسطينية لاجتماع طارئ، التسريع بتشكيل القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية في كافة جبهات الصدام مع الاحتلال،والتي تأخر تشكلها لنحو ثلاث سنوات عملاً باجتماع الأمناء العامين للفصائل، وتحصين المقاومة الشعبية بكل أساليبها وتطوير أدواتها وتزخيم أعمالها ونضالاتها وحمايتها سياسياً وأمنياً، ورسم الاستراتيجية النضالية على طريق الانتفاضة الشعبية الشاملة باعتبارها صيغة حرب التحرير الشعبية للتحرر من نير الاحتلال والاستعمار الاستيطاني العنصري.