ويبدو أن العلاقات بين مؤسسة نوبل والسياسة هي علاقة مبنية على الغموض، بسبب التناقضات والتعقيدات التي تمرّ بها الساحة السياسية في كل مرحلة تاريخية، مما يجعل الحكم على توجهات المؤسسة صعبا، إذ أنها تُبعد أسماء أدبية عالمية كبيرة، مثلما رأينا مع «خورخي لويس بورخس» بسبب مواقفه السياسية، وتُكرّم آخرين، مما يدفع إلى التّساؤل حول حياد المؤسسة: أين يبدأ وأين ينتهي؟ يبدو من الصعب الإجابة عن هذا السؤال، لكون أصحاب جائزة نوبل لا يقفون على موقف سياسي واحد، أي الانحياز إلى طرف دون الآخر بشكل واضح ومحسوم، وعليه قرّر النافذون في تسيير الجائزة التوقف عن تنظيم الجائزة خلال الحربين العالميتين: الأولى والثانية، وكذلك عدم الدخول في النقاش السياسي، وعدم معاقبة من فاز بالجائزة وتمّ انتقاده بسبب مواقفه السياسية. هل على لجنة نوبل الاحتفاظ بموقفها الحيادي والاشتغال بالأدب فقط، هذا كذلك سؤال كبير وإشكالية صعبة، لكون الأدب يتأثر بالأجواء السياسية فكرة ومضمونا ونشرا وتوزيعا، وعلى هذا الأساس، لا يمكن نعت مؤسسة نوبل على الرغم من الغموض الذي يلف علاقاتها بالسياسة - بأنها تنتمي إلى هذه الجهة أو تلك، والأمثلة التي أوردناها سابقا تدل على ذلك. تمرّد جان بول سارتر؟ لم يحدث أن رفض أحد الفائزين تسلم الجائزة، لكن حدث هذا الأمر مع الكاتب الفرنسي «جان بول سارتر» الذي رفضها سنة 1964 لأسباب ذاتية كما يقول في رسالته إلى الأكاديمية: «لأنهم لم يطلبوا مني رأيي في الترشح لهذه الجائزة» وأضاف: «لا أريد أن أكرم وأنا حيّ، وأن أتحول إلى مؤسسة» مبررا ذلك: «بأنني أخشى أن يؤثر المال على مواقفي السياسية والفكرية»، وأشار إلى أسباب أخرى يراها موضوعية، أي «أرفض أن تبقى هذه الجائزة حكرا على الغربيين ولا تنفتح على شعوب أخرى» و»أنا أرفض التكريمات مهما كان مصدرها، الشرق (الاشتراكي) أو الغرب (الرأسمالي) و»كنت سأقبل بالتكريم لو تم تكريم الموقعين على «بيان 121» الذين وقفوا إلى جانب الثورة الجزائرية، لأنه كان سيكرمنا جميعا وليس وحدي، وسيكرم الحرية التي نناضل من أجلها». وهناك من رأى في رد فعل سارتر نوعا من الغرور أو الأسى؛ لأن غريمه الفكري وخصمه السياسي، أي ألبير كامي، قد فاز بها قبله بسبع سنوات. وعلى الرغم مما قيل حول موقف «جان بول سارتر» من الجائزة، فإن هذا الأخير ظل وفيا لمبادئه، وظل يرفض التكريمات عكس غريمه، «ألبير كامي» الذي يحبها كثيرا ويبحث عنها، ويكون سارتر بموفقه هذا، قد عمّق الفجوة وألقى بظلاله على «حياد» هذه الجائزة التي ستدخل في جدالات لامتناهية منذ سنوات تأسيسها الأولى إلى الآن. توجّه عالمي مفتوح أو أورو مركزي مغلق؟ ولعلّ من بين مبررات اختيار وترشيح نص ما لأديب ما، يبدأ أولا بالاستقبال الذي يحظى به في بلاد السويد، بمعنى أن الأديب المعني بالترشيح أو بالفوز، معروف ومقروء في البلدان الاسكندينافية. وتضم هذه البلدان كل من السويد والنرويج والدانمرك وفنلندا، ولغات هذه البلدان، وإن كانت مختلفة، فهي تملك جذرا مشتركا ومفهومة من جميع السكان. ويقتضي الأمر الترجمة إلى هذه اللغات الاسكندينافية أو إلى اللغة الانجليزية حتى يصل إليها الأدب العربي وغيره من الآداب، ويمكن قراءته والتعرّف على أعلامه، كما يمكن للأكاديمية أن تطلب ترجمة استثنائية، إذا كان النص المقترح غير مترجم إلى لغة أعضاء لجنة التحكيم، كما قد تستعين الأكاديمية بمختصين للتعرف على مرشح غير معروف لديها. ومع ذلك فإن اختيارات لجنة تحكيم نوبل تظل مقتصرة على الغرب الأوروبي، أي بصفة عامة، تظل الجائزة أورو-مركزية التوجه، وإذ تم تكريم أدباء غير غربيين، يكون بسبب إتقانهم الكتابة بلغة معروفة كثيرا في أوروبا، ولعل الكتابة باللغة الانجليزية هي التي شجعت لجنة التحكيم على منحها لأحد الأفارقة وهو «وول سوينكا» من جنوب إفريقيا سنة 1986، وعكس ذلك، فإن بلدا مثل صربيا الذي يملك كتابا من ذوي القيمة العالية، نجد أن الكاتب الوحيد الذي نال الجائزة سنة 1961 هو «إيفو أندريك»، بينما لم يحصل عليها «ميلوراد بافيتش» وهو من أعظم أدباء هذا البلد، بسبب اللغة التي يكتب بها وهي لغة غير معروفة في أوروبا أو غياب الترجمة». ويبدو من هذا العرض القصير، أن الأكاديمية السويدية تفضّل الآداب الأوروبية على غيرها، لأنها تعتبر أن الآداب الأوروبية هي مركز العالم الأدبي، أما الولاياتالمتحدة فهي - بالنسبة إليها - معزولة تماما، لكونها لا تترجم كثيرا ولا تشارك في الحوار حول الآداب».. ذلك ما صرّح به أمين السر الدائم للأكاديمية السويدية «هوراس انجدال»، مما يؤكد ذلك الانتقاد الموجه لمؤسسة نوبل والقاضي بتفضيلها للآداب الأوروبية ضمن رؤية أورو-مركزية، وهي الرؤية التي تميز أعضاء لجنة التحكيم، وتؤكد العداوة البدائية لكل ما هو أمريكي، ولعل المناطق التي تمّ إهمالها بسبب ضعف الإشعاع الثقافي الذي يطبعها، أو بسبب الغياب شبه التام للترجمة إلى اللغات الأوروبية عامة، ومنها إلى اللغة الانجليزية على وجه الخصوص، ونجد من بين الآداب التي تمّ تجاهلها الآداب العربية التي تخضع كتاباتها للسياق والمرجعية الاجتماعية، ولا تستجيب لمقتضيات العالمية التي تميز الجائزة، كما يتصور أعضاء لجنة التحكيم نوبل. أما ما يتردّد من نقد تجاه الأكاديمية السويدية، فيتمثل في اللجنة التحكيم التي تتكون من خمسة أعضاء منتخبين لعهدة تدوم ثلاث سنوات وثمانية عشر عضوا منتخبا مدى الحياة، ويمثل اللجنة أحد الأعضاء الخمسة بوصفه أمينا دائما. وتقوم المجموعتان باختيار الفائز بالجائزة، ما قد يعني احتكار الجائزة من قبل السويديين. والملاحظ أن عدد الجوائز التي حصلت عليها بلاد السويد يقدر بثماني جوائز، أي ما يعادل ما حصل عليه الأفارقة (أربع جوائز) والآسيويون (أربع جوائز). ويبقى الأمر بالاختيارات الجمالية والأذواق لدى أعضاء لجان التحكيم التي قد تبدو «غير مفهومة في الكثير من الأحيان حسب الباحثة الفرنسية، «برنادت ميموزورويز»، وترى أن في فترة الثلاثينيات كان بإمكان أن تفوز بتلك الجائزة «فيرجينيا وولف» بدل «بيرل بوك»، والأمر الذي يؤكد ما ذهبت إليه هذه الباحثة الإشارة التي وردت في موقع نوبل على أن «فترة 1930-1939 كانت عقيمة من حيث نوعية المكرمين». وترى «جوزيفا لاروش» صاحبة كتاب «جوائز نوبل، سوسيولوجية لنخبة متجاوزة للأوطان،أنه «لا توجد معادلة بين القيمة الأدبية وجائزة نوبل». وتضيف أنه «قد لا يستحق الجائزة بالضرورة أديب مجدد، لكن يتعلق الأمر بتجسيد قيم احترام حقوق الشعوب، في شخصيته وفي أعماله الأدبية. وتتطلّع جوائز نوبل، بما فيها جائزة الأدب، على توطيد السلام في العلاقات الدولية، وهي، أي جائزة نوبل، فاعل دبلوماسي متجاوز للأوطان، عرف كيف يتكيّف مع تطور العلاقات الجيوسياسية الدولية». ويمثل هذا المسعى الأطروحة القوية لأعضاء مؤسسة نوبل، باعتبارهم أصحاب فكرة سياسة مثالية تتمثل في تدعيم أسس سلام عالمي بفضل إسهام الفنون والعلوم، وفي الوقت ذاته، عرف هؤلاء فترات غلبت فيها السياسة الواقعية على المثل، وبخاصة في فترة الحرب الباردة. أسهمت مؤسسة «نوبل» في محاولة بناء السلم بواسطة العلم والقانون، وبالتالي المراهنة على تحسين العلاقات التي هي مستحيلة بين الدول، مثلما سلمت جائزة السلام سنة 1994 لكل من الفلسطيني ياسر عرفات، والصهيونيين «شيمون بيريز» «اسحاق رابين»، وقد حاز عليها أيضا كل من الرئيس المصري أنور السادات، ورئيس الوزراء الصهيوني «مناحيم بيجين». وانتهى الأمر إلى التصفية الجسدية، سنة 1981 بالنسبة للرئيس المصري، وسنة 1995 بالنسبة للوزير الأول الصهيوني الذي وقع اتفاقيات «أوسلو» للسلام مع الفلسطينيين، بسبب مقاومة أطراف عديدة لهذه العملية في مصر وفي العالم العربي وحتى داخل الكيان الصهيوني. كما أثارت جائزة السلام الممنوحة سنة 1993 لكل من «نيلسون منديلا» والرئيس السابق لجنوب إفريقيا «فريديريك لو كليرك» في عهد التمييز العنصري، مما يعني أن جائزة نوبل تخضع دائما للجدل وللانتقادات، سواء ما تعلق بجائزة السلام أو بجائزة الأدب، التي تهمل أو تتناسى كثيرا من الأدباء من الدول التي لا تنتمي إلى أوروبا، كما هي الحال، بالنسبة للأدباء العرب، إذا استثنينا الروائي المصري نجيب محفوظ، وهو العربي الوحيد الذي فاز بها إلى الآن، تبقى بعض الأسماء التي يتمّ الحديث عنها كل مرة مثل الروائية الجزائرية آسيا جبار والشاعر السوري أدونيس والروائي الجزائري: رشيد بوجدرة، والروائي المصري جمال الغيطاني، الذين يعتبرون من المنسيين من قبل لجنة نوبل حسب «برنادت ميموزو- رويز»، التي تعتبر أن «أدب أدباء عرب كبار ومعاصرين هي في أغلب الأوقات مرتبطة بالسياق، وهو اجتماعي أكثر مما ينبغي، مما يدفع إلى التفكير أنه لا يناسب المقتضيات العالمية لجائزة نوبل». لكن ما معنى العالمية؟ في كتابه ما معنى الأدب العالمي، يرى «دافيد دامروش»، أستاذ الأدب المقارن بجامعة هارفارد، أن ذلك يرتبط ب»الاتساع أو الانتشار العالمي للظاهرة الأدبية»، مما يعني تداول النصوص في بلدان مختلفة ولن يتم ذلك إلا عن طريق الترجمة واستقبالها من قبل القراء والاهتمام بها إعلاميا ونقديا وأكاديميا في بلدان عديدة، وأشياء أخرى تتعلق بتوقعات القراء والاستجابة لأفق انتظارهم، وكذا تدخل الناشرين وغيرهم من الفاعلين في الحقل الأدبي. لماذا وقع الاختيار على نجيب محفوظ؟ لم يصدق نجيب محفوظ أنه نال جائزة، لما أيقظته، على غير العادة، زوجته من النوم لتعلمه بذلك، قال لها «لا تمزحي وأجلي الكذبة لأول أبريل». ثم جاءته التهنئة عن طريق الهاتف من إدارة جريدة الأهرام التي كان يشتغل بها، وفي اليوم ذاته، زاره السفير السويدي رفقة زوجته ليقدم له التهاني مع باقة من الورود. وهكذا تحققت، بعد ثلاثين سنة تقريبا، توقعات كل من طه حسين والعقاد ولويس عوض الذين توقعوا في بداية الستينيات إمكانية فوز نجيب محفوظ بهذه الجائزة. ولعلّ الكاتب المصري العقاد كان أكثر اقتناعا بضرورة التفات الأكاديمية السويدية لهذا الأديب العربي أكثر من غيره من الأدباء الآخرين، وقد قال هذا الكلام سنة 1963 في حديث تليفزيوني. وفي شهادته عن ذلك اليوم المشهود ذكر الروائي المصري أنه لم يكن يعلم بذلك، ولا يعلم من رشحه للجائزة، لكنه يعلم أن لا أحد من مصر قد فعل بصفة رسمية لذلك، لا وزارة ثقافة ولا جهة إعلامية أو هيئة ثقافية ما، وحسبه، فإن مصر لم ترشح إلا اثنين، هما طه حسين وتوفيق الحكيم، كما يقول. وكان يرى قبل التتويج بالجائزة أن الأدب العربي لم يبلغ بعد «المحلية الكاملة» لكي يصبو إلى العالمية، هذا بالإضافة إلى عدم وصول عدد القراء إلى الملايين وغياب الازدهار الثقافي الواسع، مع الحجر على الكلمة ومنع حرية التعبير في بيئة متخلفة من جميع النواحي، وهي مسائل يمكن أن تأخذ في عين الاعتبار في حالة الترشيح لهذه الجائزة التي لم تكن من انشغالاته آنذاك. يتبع - الحلقة الثانية