في سنة 2016، صدر للكاتب الفرنسي "رفائيل ليوجيي" (Raphaël LIOGIER) كتاب بعنوان: "لن تحدث حرب الحضارات" (La guerre des civilisations n'aura pas lieu)، ومما جاء في المؤلف أنّ صراع الحضارات أمسى اليوم شائعا كلما تعلق الأمر بالحديث عن الجغرافيا-السياسية أو الدين أو الهوية الوطنية. يؤكد الكاتب أنّ هذا مجرد وهم في مواجهة واقع الحضارة العالمية الواحدة التي وُلدت في صيرورة تاريخية من تكثيف التبادلات الكوكبية، وأصبحت الاستخدامات التقنية والممارسات الغذائية والدورات الجامعية والعلاجات الطبية موحدة؛ فالصور والموسيقى والعواطف تجوب الكوكب في زمن واحد. يواصل الكاتب تحليله ويقول: صحيح أنّ هناك مواقف معادية ومتطرّفة للحاضنة الحضارية الكونية مستندة على إيديولوجيات دينية وسياسية (Altermondialistes)، إلّا أنّ هذه المعتقدات أمست مع هيمنة العولمة أقل تأثيرا على القيم الكونية. إنّ جميع الأديان تتأثر بدرجات متفاوتة بثلاث اتجاهات وُلدت من رحم العولمة وهي: الروحانية والكاريزماتية والأصولية. صحيح أنّ العولمة لم تمنع الفوارق الاجتماعية والاقتصادية الهائلة ليس فقط ما بين الدول (شمال-جنوب)، ولكن حتى داخل المجتمعات الواحدة (أمريكا كنموذج). إنّ هذا التفاوت الاجتماعي والاقتصادي إلى جانب المخاوف من الهوية المُعدية، أكيد ولّد لنا داخل هذه الحضارة الفريدة أشكالا غير مسبوقة من العنف يتميز بإرهاب نوعي جديد. يدعو المؤلف في كتابه من موقعه الجغرافي-الغربي، دعوة عاجلة للتفكير في مسامية الحدود واختفاء شخصية الآخر المتطرف، هذا الغريب الذي وقف يوما ما وراء مساحة معيشتنا. إنّ تعريف الهويات الفردية والجماعية والتعايش في عالم بلا حدود حقيقية، هي محاولة قوية لمحاربة التحيز وفهم العالم من حولنا بشكل أفضل. والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا، هو: هل يدعو الكاتب إلى إعادة الاعتبار إلى نظرية فوكوياما في نهاية التاريخ والإنسان الأخير؟ 1- تذكير بنظرية فوكوياما عبّر فوكوياما الذي كان مستشارا للرئيس رونالد ريغن- عن مفهومه لنهاية التاريخ في مقال نُشر في عام 1989 بدورية ناشيونال إنترست (National Interset). وقد نشر المقال في سياق انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين، وتكمن خلاصة مقاله في أنّ تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية قد ولّى بغير رجعة مع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك المعسكر الشيوعي واندثار حلف وارسو وهدم سور برلين، لتحل محله الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية". ونظرا للشهرة السياسية المتبوعة بالاهتمام الأكاديمي للمقال، حوّل فوكوياما فكرته إلى كتاب صدر في سنة 1992، حيث فصّل ما جاء في المقال تفصيلا مؤكدا على نهاية الإيديولوجيات وإحلال السلام العالمي وانتشار قيم الليبرالية الديمقراطية الغربية. وتقوم فكرة نهاية التاريخ لفوكوياما على عناصر ثلاث هي: أن الديمقراطية الحديثة بدأت في النمو منذ بداية القرن 19م مع انتشار أفكار الثورة الفرنسية، حيث أصبحت بالتدرج بديلا حضاريا في مختلف أنحاء العالم للأنظمة الديكتاتورية. فكرة الصراع التاريخي بين السادة والعبيد لا يمكن أن يجد له نهاية واقعية سوى في الديمقراطيات الغربية واقتصاد السوق. الاشتراكية الراديكالية أو الشيوعية لا يمكنها أن تنافس الديمقراطية الحديثة، وبالتالي فالمستقبل سيكون للرأسمالية أو للديمقراطية الاجتماعية. 2 - نظرية صدام الحضارات لصموئيل هنتنغتون نظرية نهاية التاريخ لا تسمح للبيت الأبيض - من حيث المبدأ- بالعمل على انتشارها بالقوة وحملها فوق دبابة إلّا إذا كانت مدعمة بنظرية أقل ما يقال إنها تمثل نقيض القضية. لقد تعالت الأصوات بكامل المعمورة بحلّ حلف الناتو بعد اندثار حلف وارسو.. كثير من المحللين السياسيين في الغرب ذاته، وخاصة في أوروبا، تنبؤوا بذوبان الحلف الأطلسي الذي أصبح بلا وظيفة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. لكن، كان للمجمع الصناعي-العسكري الأمريكي رأيا مغايرا وذلك للحفاظ على الثروة والمزايا والهيمنة التي ألفها منذ الحرب العالمية الثانية. وكان لابد من إيديولوجية تبريرية لبقاء حلف الناتو، فوجدها كل من المجمع والبيت الأبيض البنتاغون في نظرية صدام الحضارات لصموئيل هنتنغتون. يرى المفكر السياسي الأمريكي أنّ الهوية الثقافية أو الحضارية هي التي تشكل نماذج التماسك والتفكك والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة؛ فالسياسة العالمية هي في آن واحد متعدّدة الأقطاب والحضارات، ويجب التمييز بين التحديث والغربنة؛ فالغرب - حسب هنتنغتون - يتقهقر في نفوذه النسبي، والحضارات الآسيوية تقوم بتوسيع قواها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، خاصة الحضارة الصينية-الكنفوشيوسية، والحضارة الإسلامية تتفجر ديمغرافيا، مصحوبا بنتائج عدم الاستقرار للدول الإسلامية وجاراتها، والحضارات غير الغربية بشكل عام. إنّ أساس انبثاق النطاق العالمي هو التنوع الحضاري، فهناك مجتمعات تتقاسم روابط ثقافية تتعاون مع بعضها البعض، والدول تجمع نفسها حول الدول السياسية أو الرائدة أو الكبرى من نفس حضاراتها. يرى هنتنغتون أنّ الدعوة إلى العالمية والإنسانية التي غالبا ما يطرحها الغرب، تضعه بشكل متزايد في صراع مع الحضارات الأخرى، وبشكل أكثر خطورة مع الإسلام والصين، وعلى المستوى الإقليمي، حروب خطوط الصدع والتي تقع بشكل رئيسي بين المسلمين وغير المسلمين، حيث تؤكد الحشود التي تؤيدها دولة تشاطرها حضارتها، وتهدّد بتوسّع حدود الصراع، وبالتالي تبذل الدول الكبرى مجهودا من أجل إنهاء هذه الحروب. ويؤكد في الأخير أن استمرار الحضارة الغربية مرهون بقوة أمريكا، وعلى سكان العالم الغربي أن يعتبروا حضارتهم متميزة وليست عالمية، وعليهم أن يتحدوا لغرض تجديدها وحفظها ضد التحديات الواردة من المجتمعات غير الغربية. ومن المعلوم أنّ نظرية هنتنغتون عرفت رواجا غربيا وحتى عالميا بعد أحداث سبتمبر 2001، وهي الأحداث التي دفعت البيت الأبيض بقيادة بوش الابن إلى الإعلان عن الحرب ضد "الإرهاب" المتواجد حسب زعمهم بأفغانستان والعراق، حاملين "قنابل نهاية التاريخ" ليجربوها على المسلمين العزل. 3 - القاعدة وداعش لقيادة الحضارة الإسلامية ورفض نهاية التاريخ قسم هنتنغتون الحضارات إلى ثماني أقطاب، خمس منها لها قيادات وهي: الحضارة الكنفوشيوسية بقيادة الصين، والغربية بقيادة الولاياتالمتحدة والأرثوذوكسية بقيادة روسياوالهندوسية بقيادة الهند والحضارة اليابانية التي تتقارب مع الحضارة الغربية، لكن تبقى خصوصية؛ أما الثلاث الباقية، فهي تبقى بلا قيادة بارزة وهي: اللاتينية والإفريقية والإسلامية. وكان على الدوائر الغربية خاصة الإعلامية منها، صناعة رائد للحضارة الإسلامية يكون مبررا للتدخل الأمريكي-الغربي في منطقة الشرق الأوسط، قلب الحضارة الإسلامية خاصة بعد سقوط حكومة "طالبان". وجد البيت الأبيض ومن ورائه البنتاغون في أحداث سبتمبر 2001، فرصة سانحة لتضخيم دور القاعدة ودورها الرئيسي في توجيه الرأي العام في المنطقة الإسلامية، وخلق مخيال جماعي إسلامي يلتف حول المنظمة الإرهابية، خاصة وأنّ جزءا من هذا الرأي الإسلامي استقبل بحماسة وارتياح هذه الأحداث، نظرا للدور السلبي الأمريكي في المسألة الفلسطينية. وكان تقرير استخباراتي أمريكي (CIA) قد تنبأ من قبل (صدر في 2008) بتأسيس خلافة إسلامية في الشرق الأوسط، وهو ما تحقق بعد غزو أمريكا للعراق بظهور الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" التي استطاعت جلب حتى مسلمين ذي أصول أوروبية. 4- الصين-الكنفوشيوسية ترفض نهاية التاريخ في جزيرة تايوان: هل استيقظت الصين؟ في سنة 1973، ظهر كتاب "آلان بيريفيت" (Alain Peyrefitte) المعنون: عندما تستيقظ الصين، وقد تزامن ظهور هذا الكتاب مع استرجاع الصين لمقعدها الأممي من جمهورية الصين أو جزيرة تايوان، وأصبحت من الدول الخمسة الكبار التي لها حق الفيتو في التصويت على القرارات الأممية. استطاعت الصين أن تصمد أمام نهاية التاريخ، وقامت في سنة 1989 بقمع الحركة الديمقراطية الطلابية في "ميدان تيانانمن" بقوة السلاح، واستطاعت أن تحافظ على النظام الشيوعي في التسيير السياسي فيما فتحت الباب أمام الرأسمالية المحلية والعالمية في التسيير الاقتصادي. هذه الظاهرة الفريدة في التوفيق بين التسيير الأحادي الشمولي السياسي والتسيير الاقتصادي اللبرالي هي التي دفعت صموئيل هنتنغتون إلى تصنيف الحضارة الصينية كأكبر خطر يهدد الحضارة الغربية إلى جانب الإسلام. لازالت الصين تطالب بجزيرة تايوان كجزء من أراضيها التاريخية، وهو ما ترفضه حاليا أمريكا التي راحت تحمي النظام اللبرالي بتايوان بالتهديد العسكري، فيما راحت الصين تستعمل التهديد النووي الكوري الشمالي كورقة ضغط ضد النفوذ الأمريكي في المنطقة ككل. 5- روسيا-الأرثوذوكسية ترفض "نهاية التاريخ" على أطراف حدودها عكس كل التوقعات والاستشرافات السياسية والإستراتيجية التي تنبأت بحلّ حلف "الناتو"، أخذ هذا الأخير يتمدد شرق أوروبا، وبسط نفوذه بدول البلطيق، وكل دول حلف وارسوا سابقا. كما ضمّ معظم الدول الناتجة عن تفكك يوغوسلافيا. منذ صدور كتاب نهاية التاريخ، ازداد أعضاء حلف الناتو ب14 عضوا، البداية كانت مع كل من التشيك والمجر وبولندا في 12 مارس 1999، وآخر دولة انضمت للحلف هي مقدونيا الشمالية في 28 مارس 2020، ليصبح العدد الإجمالي 30 عضوا. هذه الوضعية لم ترق للدب الروسي-الأرثوذوكسي الذي كشر أنيابه منذ وصول فلاديمير بوتين إلى الحكم الفعلي لروسيا الاتحادية كرئيس للوزراء ثم كرئيس للدولة. لقد خاض بوتين حربا داخلية عندما راح يقضي على أطماع جمهورية الشيشان ذات الأغلبية المسلمة التي أرادت أن تستقل عن روسيا الفدرالية، وربما اللحاق بكوكب حلف الناتو، كما خاض أربعة حروب خارجية بدأها بالتدخل في النزاع الصربي-الكوسوفي في مارس 1998، لحماية صربيا الأرثوذوكسية، ليعطي بذلك نكهة فكرية لكتاب "صدام الحضارات" لهنتنغتون. في 2008، تدخلت القوات الروسية ضد جورجيا لحماية مقاطعتي جنوب أوسيتيا وأبخازيا المواليتين للروس، مع الإشارة أنّ الأرثوذوكسية هي المذهب السائد في البلاد؛ وفي سنة 2014، ضمت روسيا الاتحادية شبه جزيرة القرم لأراضيها، وساندت الانفصاليين في "دونيتسك" و«لوغانسك" الموالين لروسيا الاتحادية. في 2015، وبعد موافقة البرلمان الروسي على طلب الرئيس بوتين استخدام القوة العسكرية في الخارج، تدخلت القوات الروسية في سوريا بهدف تقديم دعم جوي للقوات المسلحة السورية في معركتها ضد التنظيمات الإرهابية. إنها عودة رسمية للحرب الباردة بين القطب الأمريكي والقطب الروسي، وبعبارة صدام الحضارات، هي حرب بالوكالة بين الحضارة الغربية بزعامة الولاياتالمتحدةالأمريكية، والحضارة الأرثوذوكسية بزعامة روسيا الاتحادية، في أرض الحضارة الإسلامية: سوريا وريثة الدولة الأموية. في السنة الماضية، صدر للكاتب "نوح جون باتيست" (Jean-Baptiste Noé) كتاب بعنوان "تراجع العالم: الجغرافية السياسية للمواجهات والخصومات في سنة 2023" (Le Déclin d'un monde : géopolitique des affrontement et des rivalités 2023)، أكّد من خلاله أنّ الغرب أمسى لا يحتكر القوة، وراح الحلم الكوني الساري على مدى قرنين يتلاشى ليفسح المجال لعالم مجزأ. يرى الكاتب أنّ العالم في هذا الربع الأول من القرن 21، يعرف أكيد مواجهات وخصومات عسكرية وسياسية، لكن أيضا اقتصادية وحضارية، فالصراع من أجل السيطرة على الطاقات، وحروب العملة النقدية، وعسكرة آسيا، والمواجهة بين الصينوالولاياتالمتحدة، وروسيا والغرب عن طريق أوكرانيا، هي علامات على تدهور العالم التي تكون أوروبا واحدة من ساحات القتال الرئيسية. لقد قدم فلاديمير بوتين بحربه على أوكرانيا فرصة للمحللين قصد رؤية الأحداث بمنظار مغاير يؤكد على أنّ الغرب بعد سقوط الاتحاد السوفيتي لم يكن هدفه إنهاء التاريخ كما حلم فوكوياما، ولكن الاستمرار في خلق بؤر التوتر بالعالم وعسكرة الدول بالسلاح قصد الحفاظ على حيوية ونشاط المركب العسكري -الصناعي الأمريكي.