يُعتبر " عبد الوهاب المسيري " (1938- 2008)، المفكر المصري المعروف، من أبرز مفكري العرب المعاصرين، اشتغل في الحقل النقدي الفلسفي، وبالأخص الفلسفة الغربية، من حيث التمركز والتحيّز، ارتبط اسمه بالعمل الموسوعي الكبير الذي كتبه حول " اليهود واليهودية والصّهيونية "، حيث اعتبر إسرائيل مجرد دولة وظيفية مرتبط وجودها بالغرب، وبالتالي فهي نموذج استعماري، الغاية من وجودها تحقيق الأهداف الكبرى للغرب في السيطرة والهيمنة، ولا علاقة لها بخدمة العرق اليهودي أو اليهودية، لأنها في الأساس دولة علمانية بامتياز، العلمانية الشاملة وليست الجزئية، وإن كان المسيري يستسيغ العلمانية الجزئية، ويجد لها مبرراً وقبولا في واقع النّاس وحياتهم، كفصل الدين عن السياسة في جانبها السياسي أوالاحتكام إلى قواعد العلم الحديث في جانبها العلمي، فإنه يرفض العلمانية الشاملة بالمطلق، لأنها في واقع الأمر ضد إنسانية الإنسان، إذ تسعى إلى إنكار المعاني الإنسانية، وذلك بتحويل الإنسان إلى شيء " التشيّؤ "، وبحسب رأيه أن الإبادات التي استهدفت الجنس البشري، كالهنود الحمر في أمريكا أواليهود من طرف ألمانيا هتلر أوالاستعمار الحديث الذي أباد شعوباً ودمّر أوطاناً ونهب خيراتها، هي النتيجة الحتمية لمثل هذه الفكرة. من بين القضايا التي عالجها المسيري بمنظاره النقدي المعروف، أطروحة " صدام الحضارات " التي طرحها المفكر الأمريكي "صموئيل هنتنغتون " بعد نهاية الحرب الباردة، والتي أعلن فيها تصاعد الصراع بين الحضارات، عندما انتفى الصراع الإيديولوجي بسقوط المعسكر الشيوعي، إذ يؤكد أن هذه الأطروحة وليدة الحضارة الغربية، المبنية على إعلاء الأنا الغربي، وتمجيد القوّة، وإزاحة المقدس. يبدأ المسيري في نقده " صدام الحضارات " بعرض أطروحة هنتنغتون، الذي أكّد فيها تراجع دور الدولة القومية كفاعل أساسي في الصراعات الدولية، وظهر بدلا من ذلك الصراع بين الحضارات، والثوابت الحضارية، ويرجع ذلك في الأساس إلى إعادة صياغة التاريخ، العملية التي لم تعد قاصرة على الغرب فقط، بل تعدّت إلى قوى أخرى جديدة، ومن ثمّ فإن " الصراع ليس حتمياً، وإنما هو نتيجة دخول لاعبين جدد ". تفكيك كلمة "حضارة " ينتقل المسيري بعد ذلك إلى تفكيك كلمة الحضارة، إذ يؤكد (( أن استخدام هنتنغتون كلمة حضارة يعادل تقريبا استخدام كلمة معرفي عندنا ))، فالحضارة بهذا المعنى عبارة عن وعاء مفاهيمي يحوي رؤية خاصة للكون من خلاله تتحدد العلاقة بين الإله والإنسان والطبيعة، مما يترتب على ذلك أثار تتحدد بموجبها تراتبية المسؤوليات والحقوق، إذ تتأسس: (( على هذه الرؤية للكون منظومات معرفية وأخلاقية تحدد تراتب المسؤوليات والحقوق، المساواة والسلطة – الفرد والأسرة – المواطن والدولة – الصراع والإنسان)). وبحسب المسيري، فإن هنتنغتون لا يستطيع تحقيق المقصد الأساسي من أطروحته الصدامية، إلا بعد تأكيد الطابع الاختلافي بين الحضارات، لذلك قام بتصنيف الحضارات وفق أسس معينة كالتاريخ واللغة والعرق والحضارة والتقاليد، بالإضافة إلى عنصر جديد ومهم يخدم اللحظة، وتستدعيه الإستراتيجية الجديدة ألا وهو الدين، وهذا التصنيف على رأي المسيري يفتقد إلى الدقة والصّحة، إذ أنه (( يورد عناصر متداخلة مثل التقاليد والتاريخ باعتبارها عناصر مستقلة تمام الاستقلال، كما أنه يذكر العناصر بشكل رأسي، وكأنها جميعاً متساوية ))، ولكنه من خلال أطروحته يعطي الدين مركزية سببية من أجل التأكيد أن الصراعات القادمة تكتسي لباس الدين، وتستدعيه في التعاون والتكتل، ولتوضيح ذلك يضيف المسيري قائلا: (( ولكن يجب أن نذكر أنه يعطي مركزية سببية للدين، فكأن هناك صراعاً حضارياً في العالم هو في واقع الأمر صراع ديني )). الغرب مقابل بقية العالم: على الرّغم من أن هنتنغتون يذكر العديد من الحضارات من أجل تأكيد التعددية، ومن أجل إعطاء انطباع (( بأن ثمة تنوعاً حضارياً في العالم))، فهو يذكر الحضارة الغربية الأرثوذكسية، والبروتستانتية، والكاثوليكية، كما يذكر الحضارة الإسلامية والحضارة الكونفوشيوسية اللتين تسعيان لمنافسة الغرب، إلا أن المدّقق في أطروحته يجد أن هذه التعددية التي يطرحها واهية، والتنوع الذي يظهره في حقيقة الأمر زائف، إذ أن العالم عنده ينقسم إلى قسمين: الغرب من جهة، وبقية العالم من جهة أخرى، في هذه النقطة بالذات يؤكد المسيري هشاشة رؤية تعددية الحضارات وزيفها عند هنتنغتون، معلقاً أن العالم الذي يصوّره تحكمه في حقيقة الأمر ثنائية صلبة ((الغرب من ناحية وبقية العالم من ناحية أخرى)) لافتاً النظر في الوقت ذاته إلى ((أن العالم كله يتحرك في واقع الأمر نحو الغرب))، كما بشّر بذلك فوكاياما في كتابه " نهاية التاريخ والرجل الأخير "، على أن السؤال الذي يطرح هنا هو: ما المقصود بالغرب هنا؟، هل يتحدد بالجغرافيا أوبالنظام السياسي والاقتصادي، أو بالبعد الديني والثقافي؟ وفقاً للمسيري، فإن الغرب الذي يقصده هنتنغتون من خلال رؤيته الصدامية هو الحداثة، كما أنه يترادف (( مع كلمات أخرى مثل السوق الحر والديمقراطية والفردية))، نستشف ذلك عندما يقول هنتنغتون: (( إن الحضارة الغربية حديثة وغربية)) وبالتالي، فإن الحضارة الغربية في التحليل الأخير هي ما يطلبه كل الناس، ومنتهى أشواقهم وأحلامهم، لأنها في واقع الأمر تناسب حالتهم الطبيعية، وعليه، كما يقول المسيري (( فالحضارة الغربية حالة طبيعية، صفة لصيقة بطبيعة الإنسان، ومن ينحرف عنها فهو إنسان غير طبيعي وشاذ!، وهكذا، فإن هناك ترادفاً بين "الغربي" و"الحديث" وبين "الطبيعة/ المادة" )) ومن ثمّ، فإن الحالة غير الطبيعية التي تقاوم الحالة الطبيعية يجب استئصالها وإبادتها، لأنها تعكّر صفو الحياة، وتدمّر حالة الطبيعة، وفي هذا خطر على النّاس الطبيعيين، وقيمهم السّامية. غير أن هنتنغتون يفضح نواياه، ويكشف مقاصده الحقيقية، فعلى الرّغم من كلامه عن تعددية الحضارات، وحديثه عن تنوعها إلا أن التاريخ عنده، كما يقرر المسيري، يتبع مساراً واحداً، أي أنه (( يؤمن بالنّموذج أحادي الخط)). ديانة الغرب يمثّل " الدين " عند هنتنغتون أهمية كبيرة في بحثه، لذلك فهو لا يفوّت هذه الفرصة للتأكيد أن كل حضارة تستند في حقيقة الأمر إلى رؤية وبعد ديني، والسؤال الذي يطرح في هذا الصدد: ماهي الرؤية الدينية التي تستند إليها الحضارة الغربية؟. إن القيم التي يرافع لأجلها الغرب، وفق هنتنغتون ((هي الديمقراطية، والاقتصاد الحر، وفصل الدين عن الدولة، والليبرالية، والدستورية، وحقوق الإنسان)) وعلى هذا الأساس، فإن ديانة الغرب عند هنتنغتون، كما يخلص مفكرنا، هي العلمانية، أي ((فصل الدين عن الدولة))، فالعلمانية عنده تمثل حاضر الحضارة الغربية، ومستقبلها الواعد، أمّا استحضاره لليهودية والمسيحية فهو لأجل إعطاء الغرب جذوراً ممتدة في أغوار التاريخ، أي أنهما يمثلان (( ماضي الغرب، مجرد تراث))، بحسب المسيري. وهكذا، فإن هنتنغتون يريد من خلال أطروحة "صدام الحضارات" تشكيل عالم يتخذ من قيم الغرب ديانة، لأنّها، ببساطة، تناسب النّاس وحالتهم الطبيعية، ومن يقف ضدها فهو يعلن تمرده وعدائه لحالة الطبيعة (المادة)، وهنا، تظهر وفقا للمسيري، (( ثنائية حادة واستقطاب متطرف في عالم هنتنغتون بين الأنا (الطبيعي/ المادة) الغربي الحديث العلماني من جهة، والآخر (الديني الحضاري) من جهة أخرى ))، ذلك أن الغرب السّاعي للسيطرة والهيمنة يعمل بكل ما أوتي من قوة على محو هذه الثنائية، فينتفي بذلك صراع الحضارات، لأن حالة الطبيعة/ المادة قد سادت وتسيّدت، ثنائية يضيف المسيري يجب (( أن تزول، وهذا هو صراع الحضارات، أي صراع الحضارة الغربية الحديثة العلمانية ضد الحضارات الأخرى)). وانطلاقاً مما سبق، يتّضح سبب خروج أطروحة "صدام الحضارات" إلى الوجود في تلك اللحظة الفارقة في حياة البشرية، إذ كان الغرب يعيش نصراً كبيراً على المعسكر الشيوعي، جعلت من أحد المفكرين يعلن " نهاية التاريخ "، وانتصار القيم الغربية، وتحقق الفردوس الأرضي، لتأتي هذه الأطروحة لتقول للغرب مهلا، الوقت ما زال مبكراً (( وأن الطريق إلى النهاية الفردوسية الطبيعية ليس بهذه البساطة ))، يكتب المسيري. ولكن السؤال المطروح: لماذا هذه النظرة التشاؤمية؟ لقد لاحظ هنتنغتون بأن النهاية الفردوسية التي يعلنها البعض ما زال لم يحن وقتها بعد، فهناك تغيرات حدثت، وقوى جديدة ظهرت في العالم، تمثل بحق خطراً على المشروع الغربي في الهيمنة والسيطرة، وعليه لا بد على الغرب أن يصبر قليلا، ويجهّز نفسه لمعارك مستقبلية مع دول لا تؤمن بتراث الحضارة الغربية (المسيحية واليهودية)، ومع حضارات لا تتقاسم مع الغرب قيمه ومشروعه التغريبي، فالواقع يؤكد هذا الخوف الغربي من المستقبل، يتجلى أكثر في خطابات الساسة، وفي كتابات المفكرين والصحفيين، إذ توجد دول لا تؤمن بنموذج الحضارة الغربية، ودول أخرى ترفض قانونها الطبيعي، ذلك ما أكّده المسيري عندما كتب عن الهواجس التي تؤرق الغرب من الدول التي: (( لا تؤمن لا بالتراث المسيحي – اليهودي، أي تراث الحضارة الغربية، ولا بالقانون الطبيعي، التحديث على الطريقة الغربية والعلمانية، وقد زادت هذه الدول عدداً وأصبحت الآن في المقدمة))، واللافت للنظر أن هذه الدول تقاوم المشروع الغربي، وترفض الخضوع والاستسلام أمامه، برفع رايات المقاومة والدفاع عن الخصوصية والهوية. وفي هذا الصدد يضيف المسيري قائلا: (( هذه الدول لا تحثُّ الخطى نحو النهاية الموعودة، والاستسلام للآخر لإزالة الثنائية))، بل أسوأ من ذلك هو الحاصل، فهناك العديد من الدول تتراجع عن عملية التحديث والعلمنة، وتتحصّن بهويتها وثوابتها وقيمها. صراع حضاري تبدو الملاحظات التي يوردها عبد الوهاب المسيري، في نقده لأطروحة هنتنغتون حول الصراع بين الحضارات موجهة أساساً إلى جذور الرؤية الغربية، الفلسفية والثقافية والحضارية، لذلك فهو يتوقف عند ظاهرة التشيؤ، وإزاحة المقدس، والرؤية الخاصة للكون والإله، وكذا النظرة الاختزالية للإنسان، كما يربط كل ذلك بالمشروع الغربي الذي يحاول تشكيل عالم مادي/ طبيعي، مبني على أسس، كالديمقراطية وقيم السوق والفردية، ومن ثمّ فهو يرفض فكرة صدام الحضارات، ويخلص في التحليل الأخير إلى أن العالم يعيش في صراع حضاري (( بين منظومة قيمية غربية علمانية تدور في إطار المرجعية المادية، وتستند إلى فكرة القانون الطبيعي "المادي" بكل ما يتضمنه ذلك من إنهاء للتاريخ والإنسان والهوية، وبين كل من يقاوم ذلك ولا يوافق عليه، ويرى أن الإنسان ليس مجرد مادة)). بعبارة أخرى أكثر إيضاحاً، إنه يوجد صراع بين عقيدتين، عقيدة تحترم إنسانية الإنسان، وتؤمن بقدرته على التجاوز على عالم المادة والطبيعة، رافضة لكل الحتميات المادية والتكنولوجية، كالحضارة الإسلامية والكونفوشوسية (لذلك نجد أن هنتنغتون قرن بينهما، لأن لهما رؤية متميزة للإنسان والإله والكون)، في مقابل ذلك، توجد عقيدة تشيء الإنسان، وتنفي قدرته على التجاوز، وتؤمن بالعقلانية التكنولوجية، والحتميات المادية.
ومن ثم، فإن استخدام هنتنغتون تعبير "صدام الحضارات " هو في واقع الحال تعبير لطيف ولفظ مخفف لمشكلة أكبر وأزمة أعمق تواجه البشرية، لأن حقيقة الصراع في واقع الأمر، وفق النموذج التفسيري للمسيري، هي صراع حضاري بين منظومتين مختلفتين، ورؤيتين متناقضتين، رؤية تدافع عن إنسانية الإنسان، وأخرى ضده، إذ تختزله إلى مجرد شيء وسلعة.