في مثل هذا اليوم، وقبل 60 عاما، تأسّست منظمة الوحدة الإفريقية التي تحوّلت لاحقا إلى الاتحاد الإفريقي. وجاء تأسيسها في فترة اتّسمت بانتشار ظاهرة المد التحرّري وتراجع الظاهرة الاستعمارية في العالم، وفي القارة التي رزحت لأكثر من ثلاثة قرون تحت نير المستدمر الأوروبي، وما زالت، رغم كل الدمار الذي ألحقه بها في الماضي والحاضر، تتطلّع إلى مستقبل يليق بمقدراتها السكانية والاقتصادية، رغم كل التّحدّيات التي تقف في طريقها. كانت إفريقيا، قبل نزول المستعمر الغربي بها، أرض حضارة وتطوّر، خاصة في منطقة الساحل وشمال إفريقيا، ففي الشمال، مرّت عديد الدول منذ إنهاء الاستعمار الروماني، ومجيء الفتوحات الإسلامية، وكانت منارات العلم تتمركز في إفريقيا، وسادت إمبراطوريات عدة، وعرفت القارة أوج ازدهارها في الفترة بين القرنين الثاني عشر والسابع عشر، فنجد إمبراطورية مالي أو كما سميت السودان الغربي، التي تأسّست بعد انفصالها عن إمبراطوية الكونغو في القرن 13، التي امتدت في أقصى اتساع لها من ساحل المحيط الأطلسي بالغرب، إلى ما وراء تخوم منحنى نهر النيجر بالشرق، ومن حقول الذهب في غينيا بالجنوب إلى محطّ القوافل التجارية عبر الصحراء بالشمال، إلى جانب جارتها مملكة غانا، التي تعتبر أول أمبراطورية في القارة. إلى جانب مملكة السودان في منطقة القرن الإفريقي بين السودان وأثيوبيا، وغيرها من الممالك. وكانت تعيش على ما تنتج من منتجات زراعية ومواد خام ومعادن نفسية، والضرائب التي كانت تفرض على القوافل التجارية خاصة مملكة مالي التي كانت معبرا تجاريا بين الشمال والجنوب. من قمّة الازدهار إلى مآسي الاستعمار بدأت انتكاسة القارّة مع قدوم الرجل الأبيض بين القرن الخامس عشر والتاسع عشر، مع الاستكشافات الأوروبية وبداية الاسترقاق، ما تسبّب في هروب آلاف الأفارقة، ونتج عن ذلك تدمير لكل مناحي الحياة التي كانت سائدة آنذاك، من زراعة وتجارة وحرف، وصودرت حرية المرأة التي كانت تتمتّع بنفوذ في القبائل والممالك ذات النسب الأموي (نسبة إلى الأم). وأصبحنا اليوم بسبب التدخل الأوروبي نتحدّث عن حقوق وحرية المرأة في إفريقيا وإدماجها في مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية (أنظمة الكوطة) بعدما كانت ذات نفوذ بطبيعتها. ونتيجة لذلك، تراجعت مظاهر الحضارة، ولنذكر على سبيل المثال هنا محاولات طمس الهوية الإفريقية، بداية باللغة حيث حلّت لغة المستعمر الأوروبي محل اللغات المحلية التي أضحت لهجات، حتى إنّ الشاعر ليوبول سيدار سينغور، وهو أول رئيس للسنغال، ذهب إلى أنّ اللغة الفرنسية هي لغة وحدة وطنية، رغم أنّ حدود السنغال أصلا وضعت لتبقي البلاد تحت رحمة المستعمر، يشعل فيها فتيل القبلية متى ما حاولت الخروج من هيمنته، ولن ننسى هنا جريمة المستعمر الفرنسي لطمس الهوية الجزائرية وجريمة الإبادة الجماعية على مدار قرن ونيف. وفيما تعلق باللباس التقليدي، الذي يصنع من قماش ال "واكس" أو ما يعرف بقماش الشمع الذي أضحى بصمة الزي الإفريقي، كان في الأصل من إنتاج شركات النسيج الهولندية، حيث استعملت جنودا من غرب إفريقيا لإخماد ثورات في أندونيسيا، ولما عاد هؤلاء المجنّدون حملوا معهم صناديق من القماش المستعمل في أندونيسيا، وأصبح القماش الأكثر طلبا هناك ليقيم المستعمر مصانع في هولندا لتصنيعه ثم إغراق غرب إفريقيا به، لينتشر إلى باقي دول إفريقيا ما وراء الصحراء. المد التّحرّري والوحدة الإفريقية في الفترة ما بين الحربين العالميتين، بدأ الفكر التّحرّري يتبلور في مختلف المستعمرات الأوروبية في إفريقيا وآسيا، وما زاد من مشروعية المطالب، نشوء نخب واعية بضرورة التحرر استنادا إلى مبادئ منظمتي عصبة الأمم والأمم المتحدة. وكان لاستقلال الجزائر يوم 5 جويلية 1962، الأثر البالغ في تأسيس منظمة قارية تدافع عن الاستقلال. فتهيّأت الأمور للتقارب بين مختلف التجمعات الإفريقية سواء الناطقة بالعربية أو الانجليزية أو الفرنسية. وعقد زعماء الدول المستقلة مؤتمرا جامعا، في الفترة بين 15 و22 ماي 1963 لوضع اللمسات التمهيدية لمؤتمر القمة، وتوّجت بتأسيس منظمة الوحدة الإفريقية التي حملت على عاتقها مهمات القضاء على الاستعمار، والتمييز العنصري ونزع السلاح، إلى جانب مهمّات أخرى. وقامت المنظّمة على مبادئ أهمها احترام سيادة الدول، والحدود الموروثة عن الاستعمار والتسوية السلمية للنزاعات بحلول إفريقية. وعند تأسيس المنظّمة، كانت 20 دولة إفريقية ما زالت تحت نير الاستعمار، ونالت استقلالها تباعا في الفترة بين 1963 و1976، عدا دولة واحدة، ما تزال تكافح لأجل الخلاص من الاحتلال الغاشم. قضايا وتحدّيات في الفترة التي تلت استقلال الدول الإفريقية، واجهت المنظمة تحدّيات غلب عليها النزاعات الحدودية والصراعات الوجودية الهوياتية، بما في ذلك الدينية والطائفية على غرار النزاع في نيجيريا وبين رواندا وبورندي والسودان وبين إريتيريا وإثيوبيا. يضاف إلى ذلك قضية الصحراء الغربية باعتبارها أقدم قضية استعمار في القارة الإفريقية لم يتم تسويتها إلى هذا اليوم، وكل تلك النزاعات تعود لمخلفات المستدمر الأوروبي. ومن التّحدّيات الأخرى نجد عودة التنافس الدولي على القارة، إذ عادت القوى الغربية بقوة خلال السنوات العشر الأخيرة، من خلال ما سمي الربيع العربي الذي كان تمهيدا لزعزعة استقرار شمال ووسط القارة الإفريقية. وأضحت القارة نقطة استقطاب بين معسكرين تواجها خلال الحرب الباردة، وعادا مرة أخرى ليستنزفا القارة التي أنهكتها الحروب على مدار قرون من الاستعباد والاستعمار ونهب الثروات، ثم بالحروب الداخلية والحروب الأهلية. عولمة المخاطر تلقي بثقلها على القارّة وعلى الصعيد الاقتصادي، تسجل إفريقيا أدنى مستويات نمو على مستوى العالم، ويعزى ذلك إلى تأثير الاقتصاد المعولم على الأداء الإفريقي. فالأزمة الصحية العالمية تسبّبت في تراجع الأداء الاقتصادي للعديد من دول العالم، وتسبّبت أيضا في ارتفاع نسبة التضخم، ما حدا بالمجلس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي إلى رفع سعر الفائدة، لامتصاص نسبة التضخم التي بلغت أعلى مستوياتها بنسبة 9,1 بالمائة. وبفعل عولمة الاقتصاد، تمت أيضا عولمة المخاطر، وبالنتيجة، تأثّر الأداء الاقتصادي لإفريقيا أكثر من أية منطقة أخرى، بفعل انتهاج سياسات نقدية متشدّدة، وما نتج عنها من ضغوط أدّت بدورها إلى ارتفاع نسبة التضخم، ما يعني تقويض احتمالات زيادة النمو الاقتصادي. ونتيجة لما سبق، ترجم تراجع الأداء الاقتصادي للقارة الإفريقية في تراجع نصيب الفرد من الدخل الاجمالي الخام، إذ تراجع من 4.5 بالمائة العام 2021 إلى 1.7 بالمائة العام 2022، وهو ما أثّر على مساعي الحد من الفقر، وجعل إفريقيا تتذيل قائمة المناطق من حيث الأداء الاقتصادي، ومن المتوقع - حسب تقرير بنك التنمية الإفريقي - أن يؤدي تراجع نسبة النمو إلى تأخير التنمية الاجتماعية والاقتصادية. بين النّمو والتّنمية وبما أنّ العلاقة بين النمو والتنمية طردية، فإن تباطؤ النمو الذي يعتبر ضعيفا أصلا، سيؤثر على باقي مناحي الحياة، في التعليم والتربية. هذان المؤشران، ورغم تحقيق قفزة كبيرة، حيث ارتفعت من 52 في المائة عام 1990 إلى 80 في المائة عام 2015، إلا أنها ما زالت بعيدة عن المرجو، خاصة لما لها من تأثير على الأمن، حيث أن ضعف نسبة المتعلمين سيتسبب في سهولة التجنيد سواء في صفوف ميليشيات محلية متقاتلة أو جماعات إرهابية مسلحة، وهو ما يؤدي بدوره إلى العنف الطويل الأمد وانعدام الأمن الإنساني. وقد ترتب على استمرار النزاع أن ثلاثة من البلدان الأربعة التي تواجه حاليا تهديدا خطيرا بالمجاعة تقع في إفريقيا. من جهة أخرى، يطرح النمو السكاني الكبير في القارة ضغطا على الحكومات، إذ تشير تقديرات أممية إلى أن إفريقيا هي أسرع المناطق نموا في العالم مع تزايد أعداد فئة الشباب، التي ستبلغ حوالي 60 في المائة من مجموع السكان بحلول عام 2050 وهؤلاء الشباب بحاجة إلى التعليم، وفرص العمل والسكن والرعاية الصحية. إفريقيا خزّان الثّروات تتمتع القارة الإفريقية بثروات طبيعية ومعدنية هائلة، لكن المشكل أن مستعمر الأمس أبقى سيطرته على مقدراتها، فمنها من تحتكر الكاكاو الذي يتقاضى العاملون في حقوله أقل من دولار في اليوم، ليباع بعد تحويله إلى شوكولاطة بمئات الأضعاف، إلى القطن والذرة التي يصنع منها الوقود من أجل رفاه الرجل الأبيض، في وقت يعاني منتجوها المجاعة وسوء التغذية، ولن نتحدّث عن المواد الطاقوية التي تنهب بلا مقابل تقريبا وبلا رقابة، في وقت ما تزال أغلب القرى في كل الدول الإفريقية، خاصة إفريقيا ما وراء الصحراء، تعتمد على الخشب في الإنارة والطهي والتدفئة وغيرها. لا تحتاج إفريقيا أموالا تُدفع لها من أجل تنميتها لتجد نفسها مجبرة على إعادتها أضعافا مضاعفة، وتمنعها من التقدم واللحاق بركب الأمم المصنعة، بل تحتاج إلى ضمائر حيّة من أبنائها يعملون لصالحها من أجل إخراجها من براثن التبعية وسطوة الأجانب. من خلال تطوير التصنيع واستغلال أمثل للمواد الأولية، بتحويلها إلى مواد مصنّعة أو نصف مصنعة تحقّق قيمة إضافية لاستثمارها ومنه تحقيق النمو. ووفقا لتقرير أداء الاقتصاد الكلي في إفريقيا وتوقعاته، الصادر عن البنك الإفريقي للتنمية شهر فيفري الماضي، تحتاج إفريقيا إلى تحويل مائة مليار دولار من الديون التي تثقل كاهلها لتحرز تقدّما هائلا في مجال التنمية. وقال مدير مركز التنمية المستدامة بجامعة كولومبيا، البروفيسور "جيفري ساكس"، إنّ إفريقيا لديها القدرة على تحقيق نمو سنوي بنسبة 7-10 بالمائة، ولاحظ أنّ إفريقيا يمكن أن تستفيد من سكانها لتنمية سوق واحدة قوية، وأكّد أنّ "بناء سوق إفريقية واحدة سيمكّن القارة من أن تحتل مكانة بين أكبر ثلاثة أسواق عالمية. وتتمتع القارة بأكبر إمكانات نمو، ممّا يمثّل تحديًا للقادة الأفارقة لبناء بنية تحتية إقليمية حيوية، وسد فجوات البنية التحتية على مدى العقود التالية". إفريقيا أرض استثمار خصبة لا شك أنّ التنمية في إفريقيا ما تزال متأخّرة جدا مقارنة بباقي قارات العالم، وهي تمثّل فضاء استثمار مناسب للمستثمرين الأجانب، خاصة وأن ظروف الاقتصاد الكلي العالمي أصبحت غير مؤكدة بشكل متزايد بسبب الصدمات المتعددة المتداخلة، وهي أنسب مكان للاستثمار حسب التقرير نفسه، الذي أكّد أن الاقتصادات الإفريقية مستعدة للتغلب على مختلف الصدمات المحلية والعالمية، والعودة إلى طريق الانتعاش الاقتصادي والاستقرار والنمو، رغم الآثار المستمرة لوباء كوفيد-19، والأضرار الناجمة عن تغير المناخ المتسارع، وتأثير الصراعات الجيوسياسية المتصاعدة والتوتر الذي أدّى إلى تباطؤ نمو إفريقيا إلى متوسط 3.8 بالمائة في عام 2022. برامج إفريقية للنّهوض بالقارّة من أجل مواجهة التحديات التي تعترض طريق النمو والتنمية في إفريقيا، سطّر الاتحاد الإفريقي برنامجا أطلق عليه أجندة 2063. ويهدف برنامج إفريقيا 2063 الذي أطلق يوم 25 ماي 2013، بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس منظمة الوحدة الإفريقية، باعتبارها إطارا توجيهيا لتوحيد جهود إفريقيا، وثرواتها الطبيعية والبشرية، لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة في الفترة بين 2013 – 2063، بهدف بناء قارّة مزدهرة موحدة. وتنبني الأجندة على مجموعة من الأهداف تتمثّل في إشراك المواطنين في الشأن العام وصناعة القرار، وتمكينهم من أسباب المبادرة والقيادة، وتسعى لجعل إفريقيا قوة ديناميكية في الساحة الدولية، وإعطاء الأولوية لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة، والتكامل القارّي والإقليمي، وترسيخ الحكم الديمقراطي، والسلام والأمن، وتقليل عدد النزاعات، وتجديد التنمية الاقتصادية والاجتماعية لتكون في خدمة المواطن الإفريقي، وتمكين الشباب، إلى جانب إيجاد فرص الاستثمار في مجالات حيوية، مثل الأعمال التجارية الزراعية، وتطوير البنية التحتية، والصحة والتعليم، وإيجاد مسالك جديدة لترويج السلع الإفريقية، ومواكبة التحوّلات العالمية، على غرار ثورة التكنولوجيا الرقمية لضمان تكيّف إفريقيا بشكل فاعل في مجتمع شبكي.