تسعى هذه (القراءةُ) برؤيةٍ سيميائيّةٍ تتجاوزُ العرضَ المحضَ إلى الكشفِ عن الجوانبِ المهمّةِ في كتابِ الناقدِ الدكتور صالح هويدي: (محاورةُ التراثِ والحوارُ مع الآخر) - الصادرِ عن معهدِ الشارقةِ للتراثِ 2022 - ومساءلتهِ، ومحاورتِه في أبرز ِالأفكارِ التي تسيّدتْ صفحاته، و(القراءة) تعرفُ عن قربٍ موقعَ الناقدَ من خارطةِ النقدِ العربيِّ الحديثِ، وأبرزَ منطلقاتهِ النظريّةِ والاجرائيّةِ التي ضمّنها نقودَه للشعرِ العربيّ، والنثرِ ممثّلةً في نقدهِ القصصيّ، والروائيّ، فضلًا عن كونُه شاعرًا، فكأنّه في كتابهِ أرادَ أن يستكملَ حلقةَ النقدِ التي بدأها قبلَ نصفِ قرنٍ بالوقوفِ عند التراثِ، وتشعيبِ القولِ فيهِ استكمالًا لنظرِه النقديّ الذي يساوي في الأهميّةِ بينَ القديمِ والجديد، وبين الشعرِ والنثر. يشكّل غلافُ الكتابِ شكلًا بصريّا موجِّها أول للتلقي والتقبّل يحيلُ على مجموعةٍ من العلاماتِ الدالّةِ؛ فهو (أيقونةٌ)، والأيقونةُ عبارة عن تمثيلٍ واقعيّ ينتقلُ إلى الذهنِ ليترسّخَ فيهِ بوصفهِ موضوعًا، وهو يحملُ الدلالةَ، والتواصلَ، والتمثيلَ( )، وهذا ما هو موجودٌ على غلاف (محاورةُ التراثٍ والحوارُ مع الآخر) الذي امتلك شكلًا بصريًّا محدّدًا أمكن الاستدلالُ عليهِ بوجودِ سطحِ يحملُ إشاراتٍ جامعةً لعددٍ من العلاماتِ اللسانيّةِ التي أسهمتْ في تشكيلِ محتوى الغلافِ، وتحفيزِ المتلقيَّ نحو فعلِ القراءةِ الخاصّةِ بمتنِ الكتاب. يحيلُ غلافُ الكتابِ بشكلهِ الواضحِ على عددٍ من العتباتِ، والمعلوماتِ التي دخلتْ في حيّزهِ ليكونَ لها أثرٌ في تشكيلهِ، وتقديمهِ بإطارهِ العامِ وهي: اسمُ المؤلّفِ (د. صالح هويدي) الذي اتخذَ حيّزَهُ الدلاليَّ أعلى الغلافِ بحروفٍ متوسطةِ الحجمِ، وقد شغلَ المكانَ دونَ أن تزاحمُهُ إشاراتٌ، أو إحالاتٌ تحيل على نوعِ الكتابِ أو جنسهِ، وصالحُ هويديٌّ ناقدٌ عراقيٌّ أستاذُ النظريّةِ النقديّةِ في عدد من الجامعاتِ العربيّةِ بدأ نشاطَه المعرفيَّ في جامعةِ الكوفةِ، مرورًا بالجامعةِ المستنصريّةِ في العراقِ، وجامعةِ السابعِ من إبرل في ليبيا، وانتهاءً بالجامعةِ الأمريكيّةِ في الشارقةِ، فضلًا عن عملهِ في الصحافةِ الثقافيّةِ، وعلوّ اسمهِ على الغلافِ سيمياءٌ خاصٌّ يشير ضمنا إلى استقلالهِ بنفسهِ، وحرصهِ على أن يكونَ واضحًا ومميّزًا، وهذا من حقّه، مع علمي أن المؤلّفَ متّسمٌ بروحِ التسامحِ والتواضعِ أين ما حلْ. العنوانُ الرئيسُ للكتابِ (محاورةُ التراثِ) وقد اتَّخذَ موقعًا تحتَ اسمِ المؤلّفِ في الأعلى بخطٍ سميكٍ شغلَ المساحةَ كلّها، بلونٍ أبيضَ مورّدٍ، وتحتُهُ العنوانُ الموازيُ (والحوارُ مع الآخرِ) ولكنْ بخطٍ أضعفَ، وعنوانُ الكتابِ - أيُّ كتابٍ - يشكّل علامًة لغويًّة تنفتحُ على دالٍّ يتضافرُ مع مدلولٍ، وهو بشكلٍ عامٍ كتلةٌ مطبوعةٌ على صفحةِ غلافِ الكتابِ الأولِ حاملةٌ لمصاحباتٍ أخرى مثلُ: اسمُ المؤلّفِ، أو دارُ النشرِ، أو غيرهما، المهمُّ في العنوانِ سؤالُ الكيفيّةِ، أي كيفَ يمكنُنا قراءتَه بوصفهِ نصًّا قابلًا للتحليلِ والتأويلِ؟( )، فهو - والحالُ هذهِ - بصمةُ المؤلّفِ الأولى المكتنزةُ بسؤال المدلولِ، المفتقرةُ إلى رحابةِ التفصيلِ؛ ذلك الذي نجدُه في المتن. يمكنُ تفكيكُ عنوانِ (محاورةُ التراثِ والحوارُ مع الآخر) في صورته النحويّة، والدلاليّة وصولًا إلى تحديد سيميائهِ الخاصِ الدال على ما فيه، فمحاورةُ خبرٌ مرفوعٌ لمبتدٍأ محذوفٍ تقديرُهُ(هذه)، وهي مضافٌ والتراثُ مضافٌ إليهِ مجرورٌ، والواوُ حرفُ عطفٍ عطفتِ الحوارَ على المحاورةِ، معَ ظرفُ مكانٍ، والآخر مجرورٌ بالكسرة، والمحاورةُ في اللغةِ؛ المجاوبةُ؛ مراجعةُ المنطقِ، والكلامُ في المخاطبةِ، وهي مصدرٌ( )، والمحاورةُ مفاعلةٌ تجري بينَ الناقدِ والتراثِ، أمّا الحوارُ فهو؛ الجوابُ؛ حديثٌ يجري بين شخصَيْنِ أو أكثرَ، ولكنّهُ في عنوانِ الكتابِ يكون مع الآخر؛ المثيلُ؛ أي الشبيهُ، أو نقيضُ ال(الأنا) ذلك الذي يجسّدُ ما هو غريبٌ غيرُ مألوفٍ، أو غيريٌّ بالنسبةِ إلى الثقافةِ التي تحملُها الأنا( )، تجاه الآخرِ بوصفه شريكًا في الحياة ومؤثّرًا فيها، لقد جمعَ عنوانُ الكتابِ المحاورةَ، والحوارَ قصدًا ليكونَ الأقربَ إلى العقلِ القريبِ والبعيدِ معًا. يتّجهُ العنوانُ نحوَ محاورةِ التراثِ بوصفهِ ذاتًا مجازيّةً ناطقةً متجدّدةً ظهرتْ بواكيرُها منذُ زمنٍ سبقَ عصرَ(الإسلامِ)، وكان للقرآنِ الكريمِ أثرُه في تجديدِ تلكَ الذاتِ، وتحديدِ أبرزِ ملامحِها الفنيّةِ، والعلميّةِ معًا، لذا فإنّ قراءةَ تلكَ الذاتِ، وإعادةِ إنتاجِ رؤاها على وفقِ فعّاليّاتِ منتظمةٍ إسهامهٌ تحاولُ أن تصلَ بين قراءتين، مسوغةٌ لنفسِها فتحَ نافذةِ الحوارِ مع الماضي ، فقراءةُ التراثِ تبدأ من لحظةِ الكشفِ عن شكلِه، ومضمونِه القديمِ، وما فيه من روح معاصرة، وما يثيرُ من سؤالاتٍ تتضمّنُ نقدَ الماضي، وكسرَ أفقِ التقليدِ، وقطعَ سلسلةِ التبعيّةِ المقيتةِ، وفتحَ نافذةِ الحوارِ مع الحاضرِ من دونِ انبهارٍ، أو تسفيهٍ لخطابِ (الآخر) الذي يُهيمنُ بمركزيّاتهِ الثقافيّةِ على قسمِ كبير من وجودنا المعاصر. كتابُ (محاورةُ التراثِ والحوارُ مع الآخرِ) في مسعاه المعرفيِّ وقفةٌ أمامَ المدونةِ التراثيّةِ، والنظرُ إليها بعينٍ منصفةٍ بعد أنْ ازدادتِ الدعواتُ التي تنظرُ إلى (التراث) من زاويةِ الريبةِ التي تشبّهُ الماضيَ - كلَّ الماضي - بجثّةٍ هامدةٍ !، حتى عُدّ الواعيَ به - من منطقِ المغالطةِ - بالعائدِ الضالِ إلى حظيرة أهله!، على أنّ الماضيَ لمْ يكنْ سواءً في معارفِه، وآدابِه، وثقافاتِه، ووسائلِ تشكيلهِ صورة الذات والآخر. إنّ العنايةَ بالتراثِ جمعًا، وتحقيقًا، وقراءةً ونقدًا تتساوقُ وضرورةُ العنايةِ بالماضي، والحاضرِ لا لتغليبِ أحدِهما على الآخرِ، بلْ للموازنةِ الكاشفةِ التي لا تتنكّرُ للمعطياتِ السليمةِ في أيٍّ منهما، وهي تغذّ الخطى لإدامةِ الصلةِ الجامعةِ بين رؤيتينِ مختلفتينِ في المسارِ، ومتقاربتينِ في الاحتفاءِ بالحياةِ على أملِ تجاوزِ ما هو سلبيٌّ إلى ما هو مشعٌّ وقارٌّ في الثقافة الإنسانيّة. ظهرَ عنوانُ الكتابِ على الغلافِ واضحًا ومحدّدًا:(محاورةُ التراثِ والحوارُ معَ الآخرِ) وهو يحملُ سمةَ الإشارة للنصِّ بالإحالةِ على التسميةِ، فقد وُضعَ قصدِا لما للتراثِ من أهميّةٍ في الحياةِ التي أدركها الناقدُ، وجعلَها عنوانًا مهيمنًا على المتنِ، و(التراثُ) بشقّيهِ الماديِّ والمعنويِّ متعيّنٌ لهُ سمةُ الثباتِ، سبقَ لقسمِ كبيرِ من النقادِ والمفكرينَ أن اقترحوا العودةَ إلى قراءتِه ونقدِه منذ زمنٍ بعيدٍ ((فليسَ للتراثِ في الوعي المعاصر قطعةٌ عزيزةٌ من التأريخِ فحسبْ، ولكنّهُ - وهذا هو الأهم - دعامةٌ من دعاماتِ وجودنِا، وأثرٌ فاعلٌ في مكوناتِ وعيِنا الراهنِ، واثرٌ قد لا يبدو للوهلةِ الأولى بيِّنًا واضحًا، ولكنّهُ يعملُ فينا في خفاءٍ، يؤثّرُ في تصوراتِنا شِئنا ذلكَ أمْ أبينا). وُضعتْ صورةٌ تشكيليّةٌ تراثيّةٌ مستطيلةُ الشكلِ تحتَ العنوانِ بطولٍ أطولَ من العَرضِ تحيلُ على وجودِ امرأةِ ورجلِ من عصرِ الحضارةِ العباسيّةِ بدليلِ ملابسِهما، والعمّةِ فوقَ الرأسينِ بينهما منضدةٌ؛ الرجلُ يكتبُ، والمرأةُ تراقبُ المكتوبَ، وتحتً المنضدةِ ثلاثةُ مخطوطاتٍ أولُها مفتوحٌ على صفحتينِ، وخلفَ الصورةِ ستارةٌ وزخارفُ، فهذه الأيقونةُ تحملُ رسالةً مؤدّاها جدليّةُ التراثِ والحياةِ في ظلّ سمو المرأةِ وهي تعلو في جلستِها على مقامِ الرجل تبجيلًا. في الجهةِ السفلى من الغلافِ تربّعَ على حيّزِه الأوسطَ مستطيلٌ أصغرُ يشيرُ إلى الدارِ التي أصدرتِ الكتابَ (معهدُ الشارقة للكتابِ)، وهي دارٌ تتبع دائرةَ الثقافةِ في حكومة الشارقةِ سبقَ للمؤلّفِ أنْ نشرَ فيها عددًا من كتبِهِ المختلفةِ، احتوى المستطيلُ على لفظِ؛ إصدارات، واسمِ المعهدِ بالعربيّةِ وبالإنكليزيّةِ، وإلى اليمينِ أيقونةُ المعهدِ. بشكلٍ عامٍ كان لونُ الغلافِ ورديًّا فاتحًا تتخلَلُه زخارفٌ تحيلُ على فنٍ عربيٍّ قديم. إذا كان مُصَمّمُ الغلافِ قد امتلكَ سلطةَ تنظيمِ الغلافِ وهندسته فإنّ المتلقيَ يمتلكُ سلطةَ تأويلهِ، وهو هنا لا يفارق طبيعةَ العنوانِ المنفتحِ على قراءةِ التراثِ وفهمهِ، وتحليلِ شكلهِ، إنّما يعيشُ تجربةَ الاندماجِ به؛ فتأويلُ الصورةِ يخضعُ أولًا لنسقِها المعلنِ المفضي إلى دلالاتٍ أمكنَ فكَّ تشفيرِها، وضبطِ ما يربطُها بالعنوان، وهو -هنا - التراثُ فحسب حين يكونُ ملكًا مشاعًا للجميع. المحتوى والإهداء: بعدَ صفحةِ العنوانِ والعنوانِ الداخليّ تواجهُ المتلقيَ صفحاتُ المحتوياتِ الثلاث، وقد فَصّلتْ مضمونَ الكتابِ تفصيلًا دقيقًا، فلها وظيفةٌ مركزيّةٌ تمثّلتْ في تمكينِ المتلقي من الوصولِ إلى أيِّ مبحثٍ في الكتاب من دون عناٍء من خلال الإحالةِ على مضمونِ الصفحةِ ورقمِها، بعدها مباشرة تواجهُ المتلقيَ عبارة (من هنا نلتقي) تحيل على عتبةٍ تقعُ مسؤوليّتها على عاتقِ السيد د. عبد العزيز المسلم؛ رئيسُ معهدِ الشارقةِ للتراث؛ ناشرُ الكتابِ، فهو صاحبُ العتبة التي بيّنَ من خلالِها فلسفةَ المعهدَ في نشرَ الموروثِ، والأملِ في النشر المستقبليّ لنخبةٍ من الكتبٍ الرصينة. أمّا الإهداءُ فعتبةٌ يتقصّدُ المؤلّفونَ في تشكيلِها لما لها من وظائفَ تتعلّقُ بالتلقي، وطرائقِ الاتصالِ، وهي تقديرٌ من المؤلَفِ، وعرفانٌ يحملُهُ إلى الآخرينَ سواءٌ أكانوا أشخاصًا، أم مجموعاتٍ واقعيّةً، أم اعتباريّةً( )،و قد نصَّ الناقدٌ (صالح هويدي) في إهداءِ الكتابِ (إلى ابنتي (مَلَك) التي استطاعتْ أن تقهَر التحديّاتِ، وتصنعُ لنفسِها المستقبلَ الذي أحبّتْ، ودعواتٍ بالتوفيق)( )، وإذا كان (جيرار جنيت) قد حدّدَ وظائفَ الإهداءِ في الوظيفةِ الدلاليّةِ، والوظيفةِ التداوليّةِ، فإنّ دلالةَ العنوان الأولى تبدو واضحةً في ما تحملُ من معنى للمُهدى إليهِا، والعلاقة التي نسجها نصُّ الإهداءِ، أملًا من الهادي من خلال نصّ الإهداء أن يكون المهدى إليها قد تسلّمتْ مضمونَ الرسالةَ، فإهداء (الناقد) حملَ شكلَ قرينةِ تحيلُ على سببِ التلازمِ الطبيعيّ بين الهادي والمُهدى إليها قاسمها المشترك الموضوعُ الذي ربطَ بين الاثنينَ ليكون الإهداءُ دلالةَ التواصلِ بين مرسلٍ ومتلقٍ، فهو من نمطِ الإهداءاتِ الخاصّةِ بلا شكٍ؛ تلك التي تكشفُ عن ثقةٍ بالمهدى إليها: ابنة الناقد وقد استطاعت أن تكون عندَ حُسنِ ظنِّ الوالدِ في صنعِ مستقبلِها الهندسيّ الباهر.
مقدمةُ الكتاب: مقدمةُ الكتابِ - أيِّ كتاب ٍ- عتبةٌ مائزةٌ تحملُ أكثرَ من إشارةٍ دالّةٍ على أهميّةِ الكتابِ، ومنهجِ تأليفِه، ومشكلةِ البحثِ فيه، وقد تنبّهَ المنهجُ السيميائيُّ إلى علاميّةِ المقدمةِ فرأى فيها فكرةً تصديريّةً، أو اقتباسًا يتموضعُ (ينقشُ) على رأسِ الكتابِ، أو في جزءٍ منه، وقد حدّد (جيرار جنيت) وظيفتينِ مباشرتينِ للمقدمةِ هما: التعليقُ على العنوانِ: ويكونُ مرّةً بشكلٍ قطعيٍ، وأخرى بشكلٍ توضيحيٍ، وهو لا يسوّغُ متنَ الكتابِ بلْ يسوّغُ عنوانه، وهو ما لمْ يمارسهُ الناقدُ (صالح هويدي) الذي انشغل في المقدمة بمتنِ الكتابِ، والتعليقِ عليهِ ليكونَ أكثرَ وضوحًا وجلاءً من خلالِ قراءةِ العلاقةِ الرابطةِ بين المقدّمةِ والمتنِ، فقد عكستْ مقدمةُ الكتابِ الطبيعةَ الثقافيّةَ التي ميّزتْهُ من غيرهِ من مؤلفاتِ الناقدِ، فقد جعل لها عنوانًا واضحًا ومحدّدًا: (مقدمة) لتكون في شكلِها ومضمونهِا غيرَ تقليديّةٍ صنعها بدفعٍ من حرصهِ على المضمونِ، نقفُ أولًا عند مسوّغِ تأليفهِ، وقد ربطهُ بسؤالٍ غير برئ مؤداهُ لِمَ لَمْ ينجحْ العربُ في تقديمِ تراثِهم على نحوٍ منسجمٍ للأجيالِ الناشئةِ؟، وقد تبعهُ بسؤال آخرَ؛ لَمَ لَمْ ننجحُ نحنُ العربُ في التفكير في تراثِنا بعيدًا عن العقدةِ التي تفرّقُنا؟ فكانتِ الإجابةُ مرهونةً بمظاهرِ الفرقةِ التي شملتِ الجميعَ، فضلًا عن الاختلافِ مع الآخرِ، والوقوفِ مكتوفي الأيدي أسيري الاختلافِ حولَ تراثِنا، ومن ثمَّ الاختلافُ حولَ الآخرَ أيضًا؛ ولاءً، وقبولًا، بسبب يردُّ إلى أن صنّاعَ القرارِ عندنا لا يأبهونَ بطروحاتِ التفكيرِ السليمِ، بلْ هُمْ لا يقرأونَ، وهذا ما دعا الفكر الظلامي إلى إيجادِ روابطَ زائفةٍ مع الإسلامِ أساسُها فكرَةُ التحزّبِ مع أنَّه أكبرُ من أن نتحزبَ فيه؛ لأنّه نتاجُ المطلقِ، ليكونَ الخرابُ شاملًا كما رأينا. منذُ سبعينيّاتِ القرنِ الماضي، والموقفُ من التراثِ لا يكادُ ينقطعُ على لسانِ المثقفينَ، والنقادِ العربِ، وهذهِ واحدةٌ من أهمِّ المراجعاتِ المهمّةِ التي اشتغلَ عليها الفكرُ العربيُّ المعاصرُ، وهو يحاولُ أن يجدَ لهُ منفذًا للدخولِ إلى بوابةِ العصرِ الجديدِ، فكانت النظرةُ إلى التراثِ محكومةً بمواقفَ مختلفةٍ استدعاها الحراكُ الراهنُ، وامتداداتُه السياسيّةُ والثقافيّةُ؛ تلك التي شكّلت الصورةَ الحقيقيّةَ للواقعِ العربيِ، وما يجاورُه من سياساتٍ مُعلنةٍ وخفيّةٍ. تحكمُ الموقفَ من التراثِ عندَ الجميعِ سلطةُ العلاقةِ الرابطةِ بينَ الماضي والحاضرِ التي عادةً ما يختلفُ فيها المتصدون لقراءةِ التراثِ، فيّتخذونَ مواقفهم منه تبعًا لدرجةِ الوعي بهِ تقديسًا، أو نقدًا، وهذا ما وجدتُه في قسمٍ من الكتبِ الجديدةِ التي اعادتِ التفكيرَ بسؤالِ التراثِ، وكتاب الناقد العراقي الدكتور صالح هويدي (محاورة التراث والحوار مع الآخر) الذي تتصدّى هذهِ (القراءةُ) لسبر أفكارهِ من خلال وقفةٍ أتمنى أن تليقَ بمضمونِه الدالِ على النوايا الخيّرةِ إزاءَ تراثِ الأمّةِ، والآخرِ الذي يشاركنا الحياةَ يقرأ المشهد قراءة أخرى سنفصّلُ القول فيها من خلال الصفحات الآتية: رأى الناقدُ صالحُ هويديّ في ظلّ الفوضى التي نعيشُها بسببِ سوءِ التفكيرِ أنّ قراءةَ التراثَ بوصفهِ وقائعَ الأمسِ، ومنتجَ أفكارهِ يجبُ أنْ تكونَ علميّةً تستندُ إلى موضوعيّةٍ نقديّةٍ منهجيّةٍ تسهمُ في بناءِ الحاضرِ بعيدًا عن أساليبَ التطرّفِ، وقريبًا من التعاملِ الإيجابي مع الآخرِ الذي بلغَ في الحضارةِ مبلغًا خطيرًا ومؤثّرًا، مع ضرورةِ حفظِ الدينِ بوصفه جوهرًا ساميًا في الحياةِ بعيدًا عن أساليبَ زجّهِ في السياسةِ مفسدةَ الحياةِ الكبرى، وقد أثبتَ الواقعُ أن احتكارَ السلطةِ باسمِ الدينِ تضييقٌ لطبيعةِ الوجودِ، وتخريبٌ متعمّدٌ لسموِ الدينِ نفسهِ. هذهِ دعوةُ الناقدِ التي لا ينقصُها الشعورُ بالمسؤوليّةِ التأريخيّةِ، وروحُ النقدِ فقد اتّكأتْ على موازنةٍ جامعةٍ بين ضرورةِ فحصِ نصوصِ التراثِ بوساطةِ القراءةِ الجادّةِ في ظلّ تعدّدِ مناحي الحياةِ، ومشاركةِ الآخرِ لنا في العيش، وحفظِ الدينِ بالتمسكِّ بجوهرهِ الانسانيِّ المضيء المفضي إلى فهمِ الحياةِ بعيدًا عن زجّهِ في أكاذيبَ السياسةَ الملفّقةَ لمسوّغاتٍ ما أنزل الله -سبحانه - بها من سلطان. أفصحَ الناقدُ في المقدمةِ نفسِها عن هدفهِ من تأليفِ الكتابِ، فهو راغبٌ في وضعِ حدٍّ للدورانِ في الحلقةِ التي لا نعرف أين طرفاها التي وجُدتْ برأيهِ لغرضِ صنعِ الخلافِ، والتنازعِ، والتقاتلِ بسببِ وقائعَ الأمسِ التي كتبتها سردياتٌ تعبّرُ عن آراءَ منشئيها، ثم دعا صراحةً إلى مسكِ معطى الزمنِ المعاصرِ، واستثمارهِ بهدفِ صنعِ المستقبلِ، وامتلاكِ ناصيةِ العلمِ كما فعلَ الأجدادُ وهم من تركَ لنا التراثَ الثرَّ بعدَ أن تفاعلوا مع حضاراتِ الإنسانِ المجاورةِ، وفي ختامِ المقدمةِ وجدتُ ما يفيدُ أنَّ الناقدَ رأى في كتابهِ محاولةً لإشاعةِ جوٍ من الحوارِ الساعي إلى إحداثِ فعلِ التنويرِ الذي يكتملُ عادةً بتعدّدِ الأصواتِ، وتنوّعِ الرؤى، ووجودِ الاجتهادِ الذي يقرأُ التراثَ بتنوّعِ فيوضاتِ العقلِ، وتنوّعِ ألوانِه التي أخذتْ طريقَها نحوَ العالمِ، فهو عازمٌ على خدمةِ التراثِ نفسِه، واستثمارِ الحاضرِ لغرضِ اللحاقِ بركبِ المجتمعاتِ التي همُّها خدمةُ الإنسان( )، على أنّنا يجبُ أنْ لا ننسى سؤالَ الناقدِ المركزيِّ في صدر الكتاب: لِمَ لمْ ينجحْ العربُ في تقديمِ تراثهِم على نحوٍ منسجمٍ لأجيالِهم الناشئة؟، وهو سؤال تنحصر إجابته في قراءة مدخل الكتاب كلّه.