تشهد الجزائر في السنوات الأخيرة حركة ثقافية وأدبية كبيرة بفضل احتضانها لعديد التظاهرات الوطنية والدولية، على غرار الجزائر عاصمة الثقافة العربية، تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية والمهرجان الإفريقي، حيث قامت مؤسسات الدولة المختلفة كوزارة الثقافة ودور النشر الجزائرية بنشر عدد هائل من المؤلفات في مختلف الميادين والتخصصات، وهو ما ساعد بدوره على بروز واقع جديد ومتسارع في الحركة الثقافية والأدبية الجزائرية وهو "النقد الأدبي"، الذي يساهم في تفعيل الساحة وتقويتها وتطويرها، حسب ما أكده كل من "الشريف بوروبة " من جامعة باتنة، و"عبد الرحمن مزيان" من جامعة بشارل "الشعب". نفى الدكتور "بوروبة الشريف" رئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة باتنة، مقولة عدم وجود نقاد في الجزائر، مشيرا أن جامعات الجزائر تتوفر على نخبة من الأساتذة والنقاد في مختلف التخصصات، حيث أن لكل فن نقاد ووسائله. وقال، إن نقد الرواية يختلف على نقد القصيدة، مؤكدا أن النقد الأكاديمي هو الذي يلتزم بالأطر العلمية والموضوعية، والعقلانية خلافا للنقد الإعلامي الذي تدخل فيه "اعتبارات كثيرة كالإشهار والشخصية وحتى تصفية الحسابات وهنا تؤثر الذاتية على أداء الناقد". وأكد الدكتور "بوروبة" أن الخبرة والمتابعة تساعدان مع مرور الوقت على تكوين رأي وفكر لدى بعض المتتبعين لفنون معينة، ليتحولوا إلى نقاد رغم أن تخصصهم مختلف عن الفن الذي ينقدونه، غير أن نقدهم يكون غالبا عميقا وجديرا بالتقدير. "الإعلام حجر الزاوية في النقد الأدبي وتفعيل الحركة الثقافية" يعتقد الأستاذ "بوروبة الشريف" أن الإعلام بمختلف وسائطه يلعب دورا كبيرا في تطوير الحركة الثقافية، وتفعيل الحياة النقدية بالجزائر خاصة، وأن أغلب وسائل الإعلام حسبه لا تهتم بالشأن الثقافي والأدبي، في ظل غياب مجلات متخصصة تعنى بالشأن الأدبي والثقافي، معتبرا أن تخصيص صفحة أدبية بالجرائد يوميا، كفيل بتكوين هذا الوعي وإثرائه من خلال التراشق الإيجابي الإيديولوجي والأدبي لتحريك الساحة النقدية، قائلا في هذا الصدد "دون الإعلام لا أحد يسمع بوجود مؤلف ما في السوق وبدونه أيضا ينطفئ النقد"، منوّها بدور بعض الأقلام الصحفية الناقدة، حيث "يبدأ تحريك الساحة النقدية بفضل الإعلام عند البداية في التفكير في مشروع أدبي ما، ويتواصل ذلك أثناء تأليف الكتاب ويستمر خلال طبعة ويبلغ ذروته عند عرضه للجمهور وبيعه في السوق، كما نشاهده اليوم مع الكتاب الكبار كأحلام مستغانمي...التي أصبحت بفضل الإعلام والنقد ظاهرة أدبية وإعلامية لا أحد يستطيع إطفاءها". وأضاف ذات المتحدث ل"الشعب" بخصوص فكرة أن أغلب النقاد الأدبيين بالجزائر هم كتاب أو أساتذة جامعين يدرسون تخصصات الآداب، أن الفضاء الوحيد لممارسة النقد بكل أشكاله هو الجامعة التي ساعدت على تطور هذا الفن، خاصة في السنوات الأخيرة، مؤكدا أنه في الثمانينات انخفض عدد الكتب المنشورة بشكل كبير، ما انعكس سلبا على الواقع النقدي الأدبي بالجزائر، عكس السنوات الأخيرة التي شهدت نقلة نوعية سواء ما تعلق بدور النشر أو بعدد المؤلفات سنويا وبالتالي وجود نقد أدبي في الساحة الثقافية خاصة ما تعلق بالروايات. حركة دور النشر بعيدة عن الحركة النقدية بالجزائر يلاحظ الأستاذ بوروبة، أن دور النشر بالجزائر قطعت أشواطا كبيرة في عدد المؤلفات المنشورة سنويا، عكس الحركة النقدية الأدبية التي بقيت نوعا ما راكدة، وعكس ما هو حاصل في الجامعة، يقول هناك نشاط كثيف للنقد الأكاديمي بمختلف أشكاله مقابل تراجع كبير للمؤلفات والكتب الجامعية، "كون كل ما يكتب لا ينشر منه إلا القليل لأسباب باتت معروفة تتعلق مباشرة بحجم علاقات كل شخص، وهو الواقع الذي يحتاج إلى تغيير جدري من خلال إعطاء الفرصة للجميع للظهور والإبداع وإتاحة الإمكانيات المادية كالنشر والإشهار للجميع وبمسافة واحدة وفي ذلك فليتنافس المتنافسون". ورفض ذات رئيس قسم اللغة العربية فكرة أن يتكفل الكاتب ب"الإشهار" لمؤلفه وتحضير ندوة له، "بل هذه من واجبات دور النشر ووسائل الإعلام التي تفتح النقاش حول المؤلف الجديد". وتأسف الأستاذ "بوروبة" من جامعة باتنة على واقع النقد الأدبي في الجزائر، حيث أن أغلب الجزائريين "ينفرون" من القراءة بسبب عدم تلبيتهم لحاجاتهم المعيشية، ما انعكس سلبا حتى على التأليف والنقد، فكل الدول الأوروبية وبعض الدول العربية يكون بداية عامها الأدبي مميزا بوجود اقلام جدية وبأعداد كبيرة، عكس الجزائر التي يشهد إفتتاح موسمها الأدبي وجود "مولود" جديد في التأليف ، "فكل متاحف الجزائريين غائبة وأغلب مكتباتها تحولت إلى هياكل بلا روح بسبب عدم وجود القراء ويقتصر نشاطها على المناسبات الرسمية، إضافة إلى غياب السينما بالجزائر كون كل الدور مغلقة في وجه الجمهور، وهو ما تحول مع مرور الوقت إلى ثقافة سلبية". تقبل النقد أساس النجاح الأدبي والرقي الثقافي حدّد الدكتور بوروبة معايير نقدية لكل رواية، كالرؤية الموجدة في العمل الأدبي، اللغة المستعملة، الشخصيات التي يدور حولها العمل، مقدمة ونهاية الرواية عنوانها، إضافة إلى مستويات الأسلوب، الوعي الموجود، منظومة القيم، مضمون العمل، ويجب توفر هذه المعاير جميعا لدى أي ناقد ليكون نقده أكاديميا مقنعا وعميقا للعمل الأدبي، قائلا في هذا الشأن، "لا يمكن نقد الرواية مثلا بالاستعانة ببعض هذه المعايير أو بأحدها، فالعملية النقدية لا تكتمل وبالتالي لا يتحقق الغرض من النقد وهو التقويم، ومساعدة القارئ على الاندماج في الرواية أو الكتاب، وهنا تكمن العلاقة بين توفر هذه المعايير ونجاح الروايات وباقي المؤلفات، حيث لا يتصور نجاح عمل أدبي لغته هجينة أو تنعدم فيه العناصر السابقة الذكر، ولكن مضمون الرواية أو ما يسمى عند النقاد ب"الحادثة". وأعطى ذات المثقف المثال بالثورة التحريرية، مبرزا أنه لا أحد ينكر عظمتها، ولكن هناك مؤلفات تناولتها ولم تنجح ، ونفس الشيء بالنسبة لمؤلفات الربيع العربي مثلا فالتناول الدرامي للحادثة هو من يعزز فرص نجاحها، فالأحداث الكبيرة تحتاج إلى كاتب كبير للسيطرة على الحادثة فلا يدع الكاتب الموضوع يتفوق على الأدوات الفنية، حيث إنه "ليس من السهل الاقتراب من بعض الأحداث الهامة". أكد بوروبة ل"الشعب" عن اهتمام نقاد بمؤلفات دون سواها أو بكتاب دون غيرهم، مشيرا إلى أن مكانة الكاتب تلعب دورا في جلب أكبر قدر من النقاد، داعيا إلى ضرورة الاهتمام بالمؤلفات الجديدة، وقال "قد يحدث أن يحقق كاتب جديد في أول مؤلف له، ما عجز عن تحقيقه العديد من الكتاب طوال مسيرتهم الأدبية". وبخصوص رفض بعض النقاد ممارسة مهمتهم النقدية، كونهم تعرضوا لأقلام الصحافة، فيؤكد محدثنا أنه إذا كان النقد بناء وموضوعي، على الناقد عدم الاستسلام بل الدفاع بشراسة عن أفكاره إذا كان يؤمن بها، مشيرا إلى أن الكاتب الذي لا يتحمل النقد لا يستحق أن يكون كاتبا ونفس الشيء بالنسبة للناقد. وختم ضيفنا حديثه بشكر جريدة "الشعب" على اهتمامها بواقع الأدب والثقافة بالجزائر، مؤكدا على الدور المحوري للإعلام في النهضة المرجوة. وجود نقاد غير متخصصين ساعد على غياب نقد جيد على خلاف الأستاذ بوروبة من جامعة باتنة، يرى الأستاذ "عبد الرحمن مزيان" من جامعة بشار، أن واقع النقد الأدبي في الجزائر "لا يحسد عليه"، كون أغلب نقاد الجزائر ينقسمون إلى قسمين، قسم مع الرواية أو الكتب وآخر ضدها، وقال، أغلب من يكونون ضد الروايات نقدهم بناء على رأي إيديولوجي أو أخلاقي أو ديني، ونفس الرأي بالنسبة لمن يفضلون الرواية. وأعاب الأستاذ مزيان النقاد الذين يعتمدون في نقدهم على جنسية الكاتب أو انتمائه الديني أو العرقي، مشيرا إلى أن أفضل النقاد من يتعاملون مع النص من زواية الأفكار واللغة والصور الجمالية والإبداع الذي يتضمنه. ويحمل الأستاذ مزيان مسؤولية ما آل إليه واقع النقد الأدبي في الجزائر لمن أسماهم ب"المتطفلين" على المهنة، قائلا بأن الناقد الحقيقي لا بد أن يكون قارئا أولا، حتى لا يقوم بإلقاء أحكام مسبقة على مؤلفات لكتاب لا يعرفهم أو لم يقرأ لهم أبدا، وهو ما ينجم عنه حسبه غياب نظريات النقد التي من المفروض أن تكون الفاصل، وبالرغم من ذلك يقول هذا لا يعني أن الجزائر خالية من النقاد، ولكن هناك عدد "قليل" يتعاملون من النص بطريقة فنية، بعد وضعه في إطاره التاريخي للخروج بالنتيجة التي لا تكون معروفة لدى الناقد.وعن سؤالنا حول واقع النقد في الجزائر بعد 50 سنة من الاستقلال؟ قال إن التطور لا يعكس عمر هذا الاستقلال، وهو متأخر نوعا، حيث من المفروض أن تكون 50 سنة كافية لوجود عدد كبير من النقاد الجيدون كما وكيفا، مؤكدا أنه في الوقت الذي تجاوزت أغلب الدول مرحلة النقد، ووصل إلى مرحلة "نقد النقد" ما نزال نحن في الجزائر نناقش إشكالية النص، كون النقد ما يزال حبيس الجامعات الجزائرية، ولم يخرج إلى الفضاء الخارجي لأن أغلب نقاد الجزائر ينقدون بلغة واحدة ولن تتغير الأمور مادامت اللغة المستعملة في النقد واحدة وهي العربية، ونحن نريد تنوعا في اللغة يعكس التنوع في الروئ. وإلى جانب ذلك يرجع الأستاذ "مزيان عبد الرحمن"، مشاكل النقد في الجزائر إلى غياب نقاد متخصصين، حيث نجد مثلا نفس نقاد المسرح والموسيقى والكتب هم نفسهم من ينقدون الرواية والقصة وهكذا، في الوقت الذي لو كرس جهوده في مجال نقدي واحد لذهب النقد الأدبي في الجزائر بعيدا. وطرح الدكتور مزيان مشكلة "النقد الإخواني" الذي يعتمد على المجاملة والمحاباة، مشيرا إلى أنه أمر خطير يجب تداركه بسرعة إذا ما أردنا "واقعا نقديا جديدا" بالجزائر . وأصاف ذات المثقف ل"الشعب" أن المسؤولية تقع على عاتق النقاد بالدرجة الأولى، على اعتبار أنهم أحرار، ومؤسسات الدولة لا علاقة لها بهم، كما يتحمل المبدعون جانبا من المسؤولية، "كونهم يقبلون النقد الذي يكون على مقاسهم، ويغضبون من باقي النقاد إذا ما تحروا الموضوعية، ناسين أن النقد ينير لهم الطريق لتجاوز الفلتات التي يقعون فيها ليستدركونها في المؤلفات الجديدة فالروح النقدية هي ما ينقص الساحة الأدبية الجزائرية". ويتفق مزيان من جامعة بشار مع بوروبة من باتنة في أن للإعلام دورا كبيرا في تعرية الواقع والتعريف بالكتاب والنقاد معا، مؤكدان أن الموجود حاليا في وسائل الإعلام قليل الاهتمام بالأدب والثقافة والفن بصفة عامة، على عكس باقي القطاعات الأخرى. وأثنى الدكتور مزيان على دور جريدة "الشعب" في خدمة القامات الأدبية والفنية والإعلامية والنقدية الموجودة في الجزائر، "كونها كانت تخصص مساحات هامة للأدب، ونلاحظ حاليا غياب مثل هذه التقاليد".