تسعى هذه (القراءةُ) برؤيةٍ سيميائيّةٍ تتجاوزُ العرضَ المحضَ إلى الكشفِ عن الجوانبِ المهمّةِ في كتابِ الناقدِ الدكتور صالح هويدي: (محاورةُ التراثِ والحوارُ مع الآخر) -الصادرِ عن معهدِ الشارقةِ للتراثِ 2022- ومساءلتهِ، ومحاورتِه في أبرز ِالأفكارِ التي تسيّدتْ صفحاته، و(القراءة) تعرفُ عن قربٍ موقعَ الناقدَ من خارطةِ النقدِ العربيِّ الحديثِ، وأبرزَ منطلقاتهِ النظريّةِ والاجرائيّةِ التي ضمّنها نقودَه للشعرِ العربيّ، والنثرِ ممثّلةً في نقدهِ القصصيّ، والروائيّ، فضلًا عن كونُه شاعرًا، فكأنّه في كتابهِ أرادَ أن يستكملَ حلقةَ النقدِ التي بدأها قبلَ نصفِ قرنٍ بالوقوفِ عند التراثِ، وتشعيبِ القولِ فيهِ استكمالًا لنظرِه النقديّ الذي يساوي في الأهميّةِ بينَ القديمِ والجديد، وبين الشعرِ والنثر. رأى الناقدُ د. صالح هويدي أنّ ثمّةَ مماثلةً بينَ مفهومِ التراثِ والهُويةِ عندَ العربِ، فإذا كان مفهومُ التراثِ عندهم يتأثّرُ بواقعِ هزيمتِهم الحضاريّةِ والأثرِ الهامشيّ لهم في عصرِ الثورةِ المعلوماتيّةِ، فإن ثمّةَ تركيزًا عندَهم على موضوعةِ التراثِ يعبّرونَ من خلالِه عن شخصيّتِهم المأزومةِ، ونظامِ الاشتغالِ للدفاعِ عن ذاتِهم أمامَ الهيمنةِ العالميّةِ للآخرِ، من هنا صارتْ المماثلةُ بين التراثِ والهُويةِ معقودةً فوقَ جباههِم، فالهُويةُ في النهايةِ لها خصائصُ متفردةُ لأمّةٍ ما، أو مجموعةٍ من القيمِ والأفكارِ بحسبِ الناقدِ؛ تلك التي يُعاد انتاجُها على مرّ السنين. ورأى الناقدُ من وجهةِ نظرٍ نقديّةٍ للهُويةِ أنّ المنهجَ العلميَّ الناظرَ إلى الهُويّةِ يراها مكوّناتٍ متحصّلةً من احتكاكِ الشعوبِ وتلاقحِها، أو هي مكوناتٌ حيّةٌ دائمةُ الحركةِ والتغييرِ لا يمكنُ لها الاستقرارُ، والثباتُ، والتكلّسُ، وهذا ينعكسُ على فهمِ التراثِ أيضًا، وهوما قالَ به فلاسفةٌ قدماءُ لم يستحوا من احقاقِ الحقِ، من هنا دعا الناقدُ هويديُّ صراحةٍ الفكرَ العربيَّ المعاصرَ إلى تجاوزِ إشكاليّةِ وجودِ الآخرَ، وتجاوزِ الأثرِ الاستهلاكيّ للوجودِ العربي، والمشاركةِ الفعّالةِ في انتاجِ منظومةِ العلمِ، والفكرِ، والفلسفةِ بتأسيسِ خطابٍ تنويريٍّ قائمٍ على العقلِ، والتسامحِ، وروحِ الحوارِ، والتعدديّةِ مسبوقٍ بخلقِ أرضيّةٍ صالحةٍ لاستنباتِ القيمِ السابقةِ، وسؤالِ المستقبلِ في ظلِّ الحيرةِ بين سؤالِ الماضي والحاضرِ. ورأى الناقدُ أيضًا أنّ العربَ ابتعدوا عن سؤالِ العلم ِوالأبستمولوجيا، واستعذبوا التمرّغَ في فضاءِ المعرفةِ المجرّدةِ التي جرّتهم إلى مزيدٍ من الانحيازياتِ، والانشقاقاتِ، والاستدعاءاتِ، وهذا ما انعكسَ على ثقافتِهم التي ارتضتْ بالدورِ الأبويِّ في الحياةِ، فضلًا عن التلقينِ، والطاعةِ العمياءِ، وعليه فإنّهُ رأى أن التفكيرَ الجادَ في سؤالِ النهضةِ، والحداثةِ للعربِ يكونُ بالخروجِ من دائرةِ ردِّ الفعلِ، والدخولِ إلى فضاءِ الفعلِ الجادِ بإعادةِ النظرِ في منظومةِ بنيةِ النظامِ الاقتصاديّ، والاجتماعيّ، والفكريّ وتغييرِها تغييرًا جذريًّا في ضوءِ سلطةِ العلمِ على وفقِ استراتيجيّةِ نهضةٍ تمارسُ فعلَ النقدِ لمرجعيّاتِ الأنا بمقدارِ فعلِ النقدِ لمرجعيّاتِ الآخرِ عن طريقِ تأسيسِ حياةٍ مدنيّةٍ تكفلُ الحريّةَ، وتكرّسُ عقلَ الإنسانِ بوصفهِ قيمةً عليا، وأنّ النجاحَ في صياغةِ سؤالِ المستقبلِ يكونُ عن طريقِ صياغةِ العقلِ النقديّ، وفهمِ الآخرَ، والسعي إلى انتاجِ معرفةٍ حقيقيّةٍ بخطابِ الثقافةِ الذي نعتمدُه، فضلًا عن معرفةِ خطابِ الآخرَ والمباشرةِ بإنتاجِ خطابٍ برؤى خصبةٍ واتجاهاتٍ مضيئةٍ في ظلِّ السؤالِ القديمِ الجديدِ: لمَ لمْ يتمكنُ العربُ من تحقيقِ مشروعِهم الحضاريّ وإنجازِ تقدمِهم بمعزلِ عن الآخرَ الذي لا نريدُ التعايشَ معه؟. خلصَ الناقدُ في كلامِه السابقِ إلى أن الاعتصامَ بمرجعيّةِ الأنا والتماهي معَها غربةٌ مكانيّةٌ تشبه تمامًا الاعتصامَ بمرجعيّةِ الآخَرِ، والتماهي معَها، فهو يبحثُ عن اعتصامٍ آخرَ يتحرّرُ فيه العقلُ العربيُّ وفكرُه من استلابِ الآخرِ، ومن استلابَ الماضي كيْ يخرجَ من حالةِ الأسرِ الذي يعيشهُ إلى حالةٍ يتأسّسُ فيها وعيٌ حقيقيٌ بالاعتصامين معًا بقراءةِ الحاضرِ بروحِ الاستقلالِ الناقدةِ التي تضمنُ للتراثِ منجزَه الإنسانيّ، وقيمتَه الكبرى بوساطةِ محوِ الأميّةِ، وأميّةِ المثقفينَ، ووضعِ استراتيجيّةِ بناٍء اقتصاديّ، وإشاعةِ روحِ العدلِ، ونبذِ الخرافةِ، واعتمادِ التفسيرِ المستنيرِ للنصوصِ الدينيّةِ، والانتقالِ بالمنظومةِ الثقافيّةِ إلى مستوى الفاعليّة. إنّ المقاربةَ بين التراثَ والهُويةِ تأكيدٌ لأهميّةِ كلِّ واحدٍ منهما، فالتراثُ بوجههِ الناصعِ البياضِ يؤدي أثرًا تنويريًّا في تشكيلِ الهُويةِ بوصفها خصوصيّةً لا تلغي وجودَ الآخرِ في ضمن حضارةٍ تتكاملُ في ظلِّ مسوّغاتِ الوجودِ التي لا تتنكر للأنا التي تنفتحُ على الثقافاتِ المختلفةِ. إنّ جوهرَ الكتابَ بما امتلكَ من رؤى، ومنطلقاتٍ، وسؤالاتٍ، وإحالاتٍ، وجواباتٍ تحيل على متبنّياتِ الناقدِ وهي: 1- إنّ الناقدَ يصطفُّ مع السعيِ الأبستمولوجيِّ الذي يراهنُ على اعتمادِ مناهجَ علميّةٍ، ومقارباتٍ موضوعيّةٍ كي يتعرّفَ على التراثِ، ويبني من خلالِ التعرّفِ قاعدةً ماديّةً طرفاها النقدُ والاستشرافُ المستقبليُّ، فهو بهذا الاصطفافِ اختارَ رؤيةً واضحةً همّها مقاربةَ التراثِ من دونِ تقديسٍ لهُ، والإفادةَ من منجزهِ المهمّ، فضلًا عن الانفتاحِ على منجزِ الآخرِ الذي له صلةٌ بالحياةِ. 2- حاولَ الناقدُ تفكيكَ النظرِ المعاصرِ إلى التراثِ، والهُويّةِ، ومن ثمِّ نقدَ ذلكَ النظرَ بما فيهِ من سوءٍ في التفكيرِ، وانحيازٍ لا صلةَ لهُ بالعلمِ والمعرفةِ، فالتفكيكُ هنا محاولةٌ لصياغةِ متبنياتٍ جديدةٍ ذاتِ أطرٍ واقعيّةٍ تكتفي بالعلمِ، والمعرفةِ، وحسنِ التقدير. 3- كان الناقدُ على إيمانٍ تامٍّ بأنّ النهضةَ المعاصرةَ لا تتمُّ إلا من خلالِ استيعابِ الحداثةِ، وفهمِ منطلقاتِها، وتحليلِ أطرِها، وتحديدِ المسوّغاتِ لها، من دون أن تتنكّرَ إلى المضيءِ من التراثِ. 4- كان الناقدُ قد استبصرَ العلاقةَ معَ الآخرِ الذي أرادتْ بعضُ الاتجاهاتِ تكفيرَه، وتهميشَ رؤاه، وعدَّه جزءًا من مشروعِ المؤامرةِ التي تحيقُ بالمسلمينَ، مع أنَه مؤثّرٌ في حياتِنا، ولهُ أثرٌ حضاريٌّ لا يمكنُ إنكاره. متنُ الكتاب: يُرادُ بمتْنِ الكتاب: صلبه الذي يتضمّن المحتوى الذي يشتمل على الأفكارِ، والسؤالاتِ، والأطروحاتِ، والإجاباتِ، فضلًا عن الهوامش، أو الإحالاتِ، وهو في لغةِ الاصطلاحِ: "خلافُ الشرح ِوالحواشي"، أي: "هيكلُ البحثِ الأساسِ أو تصميمُ جسدهِ المكوّنُ من عددٍ من الأبوابِ، أو الفصولِ، أو المباحثِ، أو الفقراتِ"، ومتن "محاورةُ التراثِ والحوارُ مع الآخرَ" الفصولُ الخمسةُ التي تحيلُ على عددٍ من المباحثِ، فضلًا عن إشارةِ البدءِ، والمقدمةِ، والمدخلِ، وقد وقفتِ القراءةُ عندَ عتباتِ كلِّ واحدةٍ منها، بقيَ الحديثُ عن الفصولِ؛ وهي أجزاءُ المتنِ التي حاولَ الناقدُ أن يطرحَ فيها وجهةَ نظرهِ، وما يريدُ بشكلٍ مفصّل. في الفصلِ الأولِ "الإسلامُ عقيدةُ التسامحِ والحوار" حاول الناقدُ أن ينطلقَ من حقيقةِ أنّ المعنى الحقيقيَ للإسلامِ تناءى وراءَ طبقاتٍ من الخلافِ، والتعصّبِ، والاجتهاداتِ الخارجةِ عن الأصولِ، وهو ما دَفَعَهُ لأنْ يدعو الجامعاتِ، ومؤسّساتِ التعليمِ كي يكونَ لها أثرٌ معرفيٌّ في استجلاءِ جوهرِ الدينِ في ظلِّ هجماتٍ علنيّةٍ، وسريّةٍ هدفها استبدالَ الإسلامِ بمجموعةٍ من الأفكارِ التي تمسخُ الجوهرَ الإنسانيَّ للإسلامِ نفسهِ الذي كان في حقيقةِ أمرهِ ثورةَ تجديدٍ كبرى في حياةِ العربِ، والمجتمعاتِ التي دخلتْ فيه، وقد ناقشَ الناقدُ من أجل ذلك جملةً من الموضوعاتِ التي فرّعها عن الفصلِ وهي تدورُ حولَ الإسلامِ عقيدةَ التسامحِ والحوارِ، والقيمِ الإنسانيّةِ الجديدةِ، ودينِ الحوارِ والتسامحِ، والفرقِ الإسلاميّةِ ونشوءِ المذاهبِ الفقهيّةِ، ودورِ الفقهِ والاجتهادِ في الإسلامِ، واحترامِ الرأي الآخرِ، وقد اعتمدَ الناقدُ في طروحاتِه مجموعةً من المصادرِ والمراجعِ التي تؤكّدُ مسعاه النبيلَ في إنارةِ سبلِ الارتقاءِ بالحياةِ، فضلًا عن نضحهِ الفكريِّ الذي أسهمَ في تقريبِ وجهاتِ النظرِ القديمةِ التي لمّا تزلْ تؤكّدُ الدورَ التنويريَّ للإسلامِ وتقريبهَ من وجهاتِ النظرِ المعاصرةِ التي تقيمُ وزنًا لجوهرِ الفكرِ القديمِ، وهي تحاولُ صياغةَ منطلقاتٍ جديدةٍ لها ما يسوّغُ وجودَها في الحياة. وفي الفصلِ الثاني "الفلسفةُ الإسلاميّةُ"، استطاعَ الناقدُ أن يقفَ عندَ تطوّرِ الفكرِ الفلسفيِّ الإسلاميِّ، وأنْ يعقدَ مبحثًا عن خصوصيّةِ الفلسفةِ الإسلاميّةِ المتمثلةِ في النظرِ إلى ما وراءِ ظواهرِ العلمِ الحسيِّ، والعللِ الأولى ليستقرَّ عندَ جذوةِ النشأةِ الأولى للفلسفةِ تلكْ، وموقفِ المستشرقينَ منها، ثم ذهبَ بعيدًا عن ذلكَ حينَ عِدّ أثرَ الفلاسفةِ المسلمينَ في الثقافةِ الغربيّةِ حقيقةً ماثلةً اعترفَ بها الغربُ قبلَ الشرقِ، هكذا قدّمَ الناقدُ رؤيةً لصيقةً بالتراثِ العربيّ منصفةً لما فيهِ من عمقٍ ودلالة. وانفتحَ الفصلُ الثالثُ من الكتابِ "موقعُ الفنِّ في الحضارةِ الإسلاميّةِ" على حقائقَ ودَّ الناقدُ أن يناقشَها برؤيةٍ عقلانيّةٍ منها؛ تحريمُ الموسيقى، والغناءِ، والرسمِ، والنحتِ عندَ قسمٍ من المسلمينَ، وقد وجدَ أنْ لا نصَّ يحيلُ على التحريمِ؛ لأنّ التحليلَ والتحريمَ في الإسلامِ ليس من شأنِ الإنسانِ بلْ هو حقٌ ربانيٌّ، من هذا المنطلقِ ساقَ جملةً من المرويّاتِ التي تكشفُ عن سماحةِ الإسلامِ تجاهَ قضايا الفنونِ، وقُدِّرَ للناقدِ أن يقفَ مليًّا عندَ فنِ التصويرِ عندَ المسلمينَ بعيدًا عن رؤيةِ الشركِ باللهِ، والتشبهِ بقدرتهِ في الإبداعِ الفنيّ، وهو ما أنتجَ فنون (الأرابسك) التي كان لها الأثرُ الأكبرُ في تعميقِ روحِ الفنِّ في بلادِ المسلمينَ عند أكثرَ من فنّانٍ معروفٍ، ناهيكَ عن حضورِ فَنَّي الخطِّ، والزخرفةِ اللذين كان لهما شأنٌ في البلادِ، فضلًا عن فنِّ العمارةِ، وما قدّمَ من إنجازٍ ظلَّ شاهدًا على مدى القرونِ يحكي جمالَ الرؤى الفنيّةَ عن العربِ والمسلمين. وكانَ الناقدُ في الفصلِ نفسهِ قدْ وقفَ أمامَ فنّ آخرَ هو؛ الموسيقى العربيّة التي أولاها العربُ أهميّةً استثنائيّةً حتى صارتْ ظاهرةً حضاريّةً لها ما سوّغُ وجودُها، فكان أثرهُا في الثقافةِ الغربيّةِ واضحًا من خلالِ تعلّمِ قسمٍ من الأوربيينَ على يدِ العربِ، وأثرِ الفارابيّ في ثقافتِهم الموسيقيّةِ، ولا أدلَّ على تسامحِ الفقهِ الإسلاميِّ من الموسيقى إلا قولُ الأمامُ الغزاليُّ "من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج"، وهكذا اطلعنا الناقد على فصلٍ نهضَ بالتراثِ الحضاريِّ العربيِّ بمعيارٍ غيرِ منحازٍ يرومُ تقديمَ الحقيقةَ ليسَ غير. انتهى/ للمقال مراجع الحلقة الثالثة