إذا لم يكن أساس النهضة قائما على النقد الذاتي القاسي فإننا لن نتقدم خطوة إلى الأمام... إن التأسيس لفكر نقدي عملي وفعال يحتاج إلى همة عالية وصبر كبير. وليس من السهل فعل ذلك في خضم تيارات متناقضة إلى درجة الاقتتال. الوعي النقدي يسعى إلى الارتقاء بحياة الإنسان من جميع النواحي. هكذا أرى أي عمل نقدي. وأداة هذا العمل هوالمساءلة الجادة والحوار الفعال مع فكر الغير. إن هذا العمل في ذاته يحتاج أيضا إلى ثقافة تميزها أخلاق التسامح والمحبة والاحتضان. فلا يمكن أن أؤسس على وقع الكراهية أوالبغضاء أوالإلغاء. هذا الحديث كله يرمي إلى أن السجال النقدي مع الآخر لم يتغير. فلقد تمت إدانة الشاعر أدونيس في أكثر من موقف، و لقد رأينا كيف يتم التعاطي معه لا مع نصه للأسف الشديد، ولكن مع شخصه، وكأن هناك خوف مسبق من التعامل مع النص. أولا لأن نصه مربك، وثانيا لأنه يتطلب جهازا معرفيا خاصا. فلقد اتهم من قبل سلفية الجزائر من خلال كلام لكي لا نقول قصيدة من المستحيل أن تكون بقلم أدونيس، وصارت هناك دعوة عامة لحرق كتبه، سلوكات عصور الظلام، أليس كذلك؟ ثم ما تناقلته الصحف من موقف جمعية العلماء وهذا حدث في سنة 8002 لما كان ضيفا على المكتبة الوطنية، كل هذا ينم عن هشاشة حقيقية في مواجهة الفكر. وكأن أمر الأجيال التي نخاف عليها من السموم الغربية محفوظ بيد السلفية المتخلفة ذهنيا وحضاريا وفنيا أيضا. تأتي الإدانة من قلم نقدي وبأوصاف طائفية، هذا سبيل الفكر الحر أن يكون دائما عرضة للسهام التي تتجه صوب الشخص في وجوده وسلوكه وأخلاقه، أما ما قال وما كتب فهذا لا يعني شيئا وليس له وزن في النقد. فكيف نؤسس لقيم نقدية من وراء أوصاف طائفية؟ كيف يمكن الحديث عن فكر بناء من وراء إدانة شخصية؟ كيف يوصف بأنه نصيري ورافضي من خلال الحديث عن موقفه من التراث والحداثة؟ هل نقرأ حداثة أدونيس من وراء طائفته؟ هل كل ما قاله من قصائد وما كتبه من مقالات ناتج عن عقيدته والفاسدة أيضا؟ ما معنى هذه الإدانة إذا كان يراد بها استهداف حياة رجل له كامل الوجود ومطلق الحرية؟ أليس النعت الطائفي بدافع لبعض من يجهل التاريخ لتجويز قتله والنيل منه؟ ها نحن كأننا ارتكبنا جرما من وراء الكلمات. حينما نقرأ الثابت والمتحول أو كتاب زمن الشعر أو الصوفية والسوريالية فإننا نتعامل مع نص تحضر فيه لمحة الشاعر الرافض للتفكير الأفقي الأحادي الثابت الذي ميز فترة من تراثنا العربي والإسلامي، وتحضر فيه إشارة المتسائل المحاور الذي لا تقنعه أقنعة اللغة الكلاسيكية التي تختفي وراءها الأسماء اللامعة. نكتشف مع أدونيس خريطة جديدة للفكر العربي والإسلامي ولعله كان أكثر تأثيرا من المرحوم الجابري الذي انتهى إلى الإدانة المطلقة لحقل كبير في تاريخ الفلسفة الإسلامية ونقصد به العرفان. هناك فرق طبعا بين النصين: الجابري تحكمه ذهنية سلفية معدلة، وأدونيس يملك تلك الروح الثورية في قراءته للفكر الخطي ومحبته للهامش المحظور، ولعله كان أقرب إلى ما كان ينشره الأستاذ المرحوم عبد الرحمن بدوي من نصوص الهامش كالملحدين والعلمانيين والصوفية الباطنية. لأدونيس ميل لهذا الهامش الذي رآه يتماشى وفكرة الحرية الإنسانية التي لا تلغي الآخر كإنسان له تجربته "ويمكننا أن نعيد صياغة التاريخ بإدانة كل الحكام والسلاطين والقضاة الذين قاموا بإعدام الفكر الحي: الحلاج والسهروردي الذي تم قتله بأمر من صلاح الدين الأيوبي" سنكتب تاريخا جديدا ملؤه الحرية للفكر مهما كان توجهه لا اعتبار في ذلك لمسألتي النقل أو العقل، نحن الذين لم نخرج من ثنائية قاتلة: اليمين واليسار، الإيمان والكفر، النور والظلام، فأين بلغت بنا عقولنا النيرة جدا في دراسة هذا الموضوع؟ لقد وجد الاستشراق مادة دسمة في تاريخنا المشوه وعليه بنوا مفاهيمهم وتصوراتهم: أننكر نحن العقلاء جدا مسألة تدوين الحديث أوكتابة القرآن الكريم والفتوحات الإسلامية التي انتشر فيها الإسلام بالسيف وما صاحب ذلك من سبي للنساء وجلب للغنائم وقتل للأبرياء (الحديث لا يفهم في عمومه، بل في بعض التجارب المريرة وبخاصة في المغرب العربي)؟ فضلا عن ممارسات الفقهاء فقهاء السلطان والحروب الكلامية التي خاضوها والفتن المتأججة والقتل على الهوية وصلب المفكرين الأحرار؟ هل تاريخنا من النقاء بحيث نأتي في الأخير لكي ندين الاستشراق؟ في المقابل كيف قرأنا هذا التاريخ؟ لعلنا أخذنا معظم فصوله من خطباء المساجد للأسف الشديد. لعل تقبلنا للمتون الجميلة دون مراعاة الهامش هو الذي خلق فينا حالة من الكسل والبلاهة وأعتذر عن التشخيص. فخطابنا عن تراثنا لا فائدة منه، إما أن يكون مساءلة حقيقية وأن تشمل هذه المساءلة كل شيء بما في ذلك القرآن الكريم، أو أن نستمر في غفلتنا لنكرس مزيدا من البلاهة على العقول. لو كان ماضينا -حقا - من الجمال والحق والخير، كما تصفه المتون القديمة، لما صارت هذه الأمة ممزقة أشلاء تتآكلها الفتن والحروب؟ إن الخوض في حديث النقل والعقل في التراث أمر سابق لأوانه، لقد بدأنا من النقطة الخطأ. نكتب عن التراث والحداثة فيما مجتمعاتنا متخلفة، نناقش أولا أسباب التخلف ثم نتحدث عن العقل. هل سبق وأن طرحنا موضوعات مثل إصلاح التعليم بما في ذلك التعليم الجامعي وحالة الجهل المعاصر السائدة؟ هل عندنا رسائل وكتب في التربية الفنية أو الجمالية؟ هل قمنا بتنمية الحس الجمالي من خلال الكتابة عن البيئة والمتاحف والاهتمام بالطبيعة؟ هل اهتممنا يوما بقيمة التاريخ وشكل المدن ودور الجمعيات الثقافية؟ هل قمنا بتأسيس تصور حضاري لما يمكن أن تكون عليه النخبة حيال القضايا الأساسية؟ لم يحدث هذا مطلقا، الأستاذ الجامعي والناقد لا يهتم سوى بالنصوص، لم يخرج بعد من النص وتستوعبه النظريات وتحاصره الأفكار. لعل النهضة الأوروبية بدأت مع النصوص المؤسسة ككتب التربية لروسو وكانط وشيلر وهيجل... نقد أدونيس مسألة تحتاج إلى تهيئة، وكل ما قيل في المقال عموميات، والعموميات لا تبني الأساس النقدي لنهضة المجتمعات، يجب أن نجعل من المنابر الثقافية أسبابا للنهضة ونحول الكتابة الصحفية إلى كتابة بانية عالية المقام، أما أن نستدرج من خلال ثنائية مّا أو شخص معين فهذا يعد من باب ردود الأفعال القائمة على أساس الانفعال السريع. النقد ويدخل في ذلك الثقافة - استراتيجية تقوم على أساس تصور كلي يتعاون عليه المؤهلون كل بحسب توجهه: السياسي والمؤرخ وعالم الاجتماع والأديب. أليس من واجب النقد العودة إلى التراث لالتماس موقع الخطوات والكشف عن العثرات لكي نبني عليها خطوات جديدة لا يتكرر فيها الحديث العمومي والبيانات السطحية والاختزال المقيت؟ واجب النقد مع التراث هو إعادة قراءة تاريخ الأفكار وربطها بالأحداث والملابسات والتدقيق في شكل ومضمون الخطابات على اختلافها وتحليل المعطيات مع اعتبار شيء واحد: الإنسان. فما كان في مصلحته ويخدم وجوده وينمي مشاعره نكون امتدادا له، وما كان تكسيرا للإرادة الإنسانية مثل الصلب والقتل والإلغاء باسم الدين أو باسم السلطة السياسية فهذا يجب أن يتوقف ونضع عليه أيدينا لنعيد إنتاجه من باب تعريته وبيان عوراته. ثم هذا التراث نفسه، هل نملك نحن الوثائق الحقيقية التي يملكها المستشرقون؟ نحن لم نسع إلى الاكتمال ثقافيا وحضاريا وبدأنا نخوض حروبا وهمية مع الاستشراق الغربي تارة باسم الدين وتارة ثانية باسم الوطنية وتارة ثالثة باسم الهوية، متهمين إياه بالتضليل والخطأ؟ هل اجتهدنا حقا مثلما اجتهدوا؟ كم يمض الواحد منا في قراءة هذا التراث؟ ليله ونهاره؟ أم يكتفي بالملخصات؟ إذا لم يكن أساس النهضة قائما على النقد الذاتي القاسي فإننا لن نتقدم خطوة إلى الأمام. والشاهد أن الاستشراق يؤسس تصوراته من تاريخنا المتناقض أن هناك نصوص تاريخية خطيرة للغاية لم نقف عليها وقد كتبها مؤرخون كبار تشير إلى طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتعكس وضعية الإنسان المريعة منذ بدء التاريخ الإسلامي "حيث تعلمنا في المدارس أن العصر العباسي أزهى العصور، وكان هارون الرشيد يحج سنة ويجاهد سنة، وفلان وعلان، ثم كبر إيماننا إلى درجة الجنون، ثم أصبح هذا الجنون معتقدا وضاعت الحقيقة في هذا الخضم من المشاعر المتناقضة"، إنها سياسة منذ القديم: كيف نجعل الناس تؤمن بالخرافة، إذن علينا بالبلاغة والخطب في المساجد، وكثير من الكلام المعسول البليغ قد حطم القيم الإنسانية، حتى قال بعض الذين يكتبون في الثورات الدينية: "إن الفكر الأسطوري الديني هو فكر ضد النقد، فكر غير مفهومي. إنه يشتغل بواسطة المصادفة والتحول المتبادل transmutation ويجمع بين الأشياء الأكثر تنافرا، ويماهي الكل مع الجزء، ويعمل بواسطة السببية السحرية - التزامنية، ويراتب الأزمنة والفضاءات رغم اختلافاتها الكمية. كل هذه السمات تترجم عن نفسها بالاستعمال المكثف للبلاغة والمجاز في لغة التخاطب اليومي"، داريوش شايغان، ما الثورة الدينية؟ الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة، ترجمة محمد الرحموني، دار الساقي، بيروت، الطبعة الثانية، 1102، ص 572. هل قرأنا تاريخ الإلحاد في الإسلام وبنينا عليه أساسا للفهم والتأويل؟ هل راجعنا تاريخ المحاكمات التي تمت باسم الدين ضد الحلاج والسهروردي؟ لماذا لم تشكل محكمة دفاع تاريخية عن كل المصلوبين والمنبوذين والملاحدة الذين تمت تصفيتهم بفتوى أفتاها فقيه السلطان الذي لا عبرة له بالجوهر؟ لماذا لا نعيد رسم تاريخ جديد للظل؟ هناك أحداث كبيرة أسست لسلطة فقهية كانت تملي مقرراتها فيما يتعلق بالنقل والعقل. يجب أن ننطلق من الإنسان لا من الدين، وهذا ما فعله المتصوفة الذين عانوا من سلطة الفقهاء والسلاطين، ابن عربي لم يجد أي حرج أن يجمع في بيت من الشعر الديانات التوحيدية الثلاث وله في ذلك تصور جديد عن إله المعتقدات. وهو الذي كفره ابن تيمية وشنع عليه بناء على نصوص وهمية من اختلاق ابن تيمية نفسه. فيما السلطة الفقهية تشرع للسبي والقتل. هل نطالب المستشرق أن يقول عكس ما وجده في تاريخنا العربي: أو تاريخ العار العربي. الشاهد الآخر: نحن نتيجة هذا العار. كل ما نعانيه هو استمرار لأحلك فترات التاريخ، سيادة العقل الفقهي المتزمت الذي تولد عنه الإرهاب. يجب أن نكون جديرين بطرح السؤال، إذا كان الغرب من باب ما أثبته الاستشراق يتهمنا بالإرهاب، فهذا بناء على ما وجدوه في تاريخنا، لذا علينا أن نري الغرب ما هي حدود الإسلام السمحة في التعاطي مع الأديان الأخرى، ويجب أن ندين بعض الأحداث التي جرت في التاريخ الإسلامي لأن أهدافها لا زالت تمارس الآن باسم الخلافة الإسلامية بسوريا أو العراق أو الصومال أو نيجيريا ومن قبل بالجزائر. هل الذي يجري، معزول عن التاريخ الرسمي الذي سادت فيه قوى الاستبداد الفقهي المنغلق على نفسه؟ هنا يمكننا أن نجيب، علينا أن نتخلص من هذا العار بعزله ونقده وإدانته من دون خوف وأن نعلم أبناءنا كيف يمكننا أن نبني مستقبلا على هدى التسامح والحوار واحتضان الآخر والمناظرة العلمية الرشيدة. نبدأ بهذه الخطوات منذ المدرسة الأولى وسنرى إلى شكل المستقبل كيف يكون؟