لو أننا صورنا واقع الإنسان المعاصر في سياق ثقافة ما بعد الأخلاق بتصوير جامع لقلنا إنه إنسان غافل، ومادة غفلته. هو موكل إليه حقا، وانغماسه في ملهيات أخرى تصرفه عن معالي الأمور وأقومها، أو على التحقيق؛ تصرفه عن مادة حياته أو حياة قلبه، فهو على الظاهر قد تمكن من تسخير العالم لحاجاته، لكنه في الباطن اختار مسلك الغفلة وتغييب الذات عن القيم الروحية التي تعيد إليه الحياة. لذا تراه لا يتوقف عن طلب المشتهيات لنفسه، غير آبه بانقلاب نتائجها عليه في القريب أو البعيد، متخذا من فكرة الحق دليلًا ووسيلة لمشروعية أفعاله»، طار في العقول مفهوم جديد للإنسان هو الحيوان المطالب بالحقوق ولو أن ظاهر هذه الكلمة في مصلحة الإنسان، فإن باطنها هو طمس وحجب النور الروحي المبثوث فيه، وبيان ذلك أن الحق هنا قد أخذ معنى مائلا، لأنه يميل إلى المشتهيات أو الثقافة الاستهلاكية ميلا بائنا، ويقترف من الأفعال ما يجعله موصوفًا بالشرود والإخلاد إلى أنموذج الحياة الزاحفة بدلاً من الحياة العارجة.. تتباين معاني العبارة المركبة مكارم الأخلاق من حيث ما تحتويه من قيم خلقية محمودة، وقلما نجد من يقف على حقيقتها ومعناها على طريقة الحد المنطقي أو الرسم التعريفي، ونجد في المقابل من يعدد فوائدها ويكثر من الإشادة بها من أنها ضرورية وأساس العلاقات الاجتماعية بين الإنسانية التي لا يمكن حصرها في تبادل المنافع الاقتصادية من غير مكارم الأخلاق والقول الأكثر معقولية أن استخدام مكارم الأخلاق يراد به الأخلاق المحمودة التي يؤسس لها الشرع ويقتبسها العقل، ومن ثمة جرى وضع هذا المصطلح لكي يكون معبرًا عن الفضائل الأخلاقية المحمودة، بما أن لفظ الخُلق يدخل في معناه كل من الصفات السيئة والصفات الحسنة التي تصدر عن الحال أو الهيئة التي عليها الصورة المعنوية للإنسان. هذه المكارم في عادة والقارئ لما جاء في المدونات الأخلاقية يتلمّح هذا الإظهار لمكارم الأخلاق من حيث تعديد الأفعال وليس من حيث استقراء الماهيات، مع إجراء المفتتح في الغالب بالإشارة إلى الحديث النبوي الشريف إنما بعثت لأتمم مكارم (وفي رواية) صالح الأخلاق»، ثم الانتقال إلى جمع أفعال حميدة يكون الغرض من الإشارة إليها دفع النفس إلى التحلي بها واكتسابها كي تصبح وسجية، ومثال ذلك ما جاء في كتاب الطبراني مكارم الأخلاق الذي جعل المكارم في أبواب وقال: هذه أبواب في مكارم الأخلاق التي ينال بها المؤمن الشرف في حياته، ويرجو فيها النجاة بعد موته أو من هذه المكارم الواردة في صيغة أبواب: فضل تلاوة القرآن وكثرة ذكر الله والصمت إلا من خير، وحب المساكين ومجالستهم، وحسن الخلق، وفضل لين الجانب وسهول الأخلاق وقرب المأخذ والتواضع، وفضل الانبساط إلى الناس ولقائهم بطلاقة الوجه، وفضل الرفق والحلم والأناة، وفضل الصبر والسماحة، وفضل من يملك نفسه عند الغضب. ويسلك أبو حامد الغزالي مسلك تعديد المكارم أيضًا لما يكون حديثه في بيان مكارم الأخلاق أعمال أهل الجنة قول لطيف يتبعه فعل شريف مكافأة المحسن بأكثر من إحسانه، صاحب مكارم الأخلاق هو الذي لا يحوجك أن تسأله ولا يزال يعتذر ضد اللئيم الذي لا يزال يفتخر، والتغافل عن زلل الإخوان والمسارعة في قضاء حوائجهم وطرح الدنيا لمن يحتاج الصفات الحسنة التي تصدر من النفس الإنسانية، أيضًا أن المكارم ليست معاني جامعة مانعة، أو أبوابًا يمكن حصرها في قيم أخلاقية مرسومة، لامتناهية من حيث تجليها، وهنا لا بد من الوعي بأن نظام الأخلاق في الإسلام قد أعرض عن نظرية الفضائل الأخلاقية اليونانية المحصورة في أربع وهي: العفة والشجاعة والروية والعدل، نظام الأخلاق رسما مفتوحًا ممدودًا، والمسوغات التي شرعت لهذا الاعتبار على إليها. وبين من هذا القول أن المكارم هي وبين بل هي ورسم هي على التوالي: بعدد أفعال الإنسان، فلما كانت هذه الأفعال أكثر من أن تحصى كانت هي الأولى، أن الأخلاق الأخلاق مثلها لا تُحصى. • الثانية، أن الفعل الخلقي الواحد ليس رتبة واحدة، بل هو رتب متعددة، قد لا تقف عند حد مثلًا، الصبر، وصبر الصبر، القوة وقوة القوة وغيرها، بمعنى أن يتولد من الفعل الخلقي فعل آخر يختلف عنه في المرتبة. . الثالثة، أن الأخلاق هي طريق إدراك معنى اللامتناهي، وليس التعداد كما ساد بذلك الاعتقاد؛ ذلك أنه لما كانت أفعال الإنسان لا تتناهى، ورتبها هي الأخرى لا تتناهى صار الشعور بهذا المعنى في هذه الأفعال أقرب إلى الإنسان منه في أفعال مخصوصة كأفعال الحساب. وهذا الاختصاص بانفتاحية الأخلاق عكس حصرها في الفضائل الأربع، كما هي في الأخلاق اليونانية، كان قد لاحظه ابن عربي في تناوله لسؤال الكم في عدد الأخلاق في الفتوحات المكية، لما كان السؤال كم خزائن الأخلاق؟ الجواب على عدد أصناف الموجودات وأعيان أشخاصها، فهي غير متناهية من حيث ما هي أشخاص، ومتناهية من حيث ما هي، خزائن، وسميت خزائن لكون الأخلاق مخزونة فيها اختزانًا وجوديًا وإنما جعلت خزائن لما تتضمنه في حكم من اتصف بها من الصفات التي لا نهاية لوجودها. وجلي هنا التمييز بين المرتبة الوجودية للأخلاق، والمرتبة العيانية للأخلاق، ثم إن ابن عربي يأخذ في تقسيمه لهذه الخزائن إلى خزائن لها تعلق بالذات أو الأخلاق في صورتها الأصلية الكاملة أو الذوات من حيث هي ذوات، والثانية خزائن تترابط مع النسب الموجبة للأسماء من حيث هي نسب، والثالثة خزائن لها تعلق بالأفعال من حيث ما هي أفعال، والقول الكاشف لهذا هو أن للأخلاق وجودًا موضوعيًا مستقلا؛ وترابطا في صورة الصفات وما توجبه على الأعيان، والفعل بين تحليه بالأخلاق وبين بعده عنها وهذه المراتب تتكاثر وتتوالد بصورة لامتناهية في حياة الإنسان، وهذا هو السر في اعتبارها لامتناهية، وتعالقها مع الموجودات كلها، فالقول بالطابع اللامتناهي للأخلاق والطابع الاتساعي لها، يحررها من النظرة الفلسفية اليونانية التي تتركز فيها الفضائل على الإنسان، أو أن فضائلها تجعل الإنسان هو مركز الدائرة ومحور المحيط، وهذا مخالف لروح الثقافة الإسلامية، التي تجعل الإله هو مقياس الأشياء جميعًا وليس الإنسان، ومن ثمة وجب صرف القول إلى أن روح الخلافة كما تستبين، هي الاقتداء والتشبه بأفعال الإله على قدر وسع الإنسان وبما يكون مخصوصا بطبيعته الإنسانية النسبية في مقابل الوجود الإلهي المطلق في الذات وفي الصفات. الطريق نحو تقوية النفس الناطقة بالعلوم العقلية ثمة ما يجب الإقرار به، ونحن في طريق تقوية النفس الناطقة بالعلوم العقلية ومنهج التدرج نحو اكتساب محمود الصفات، وهو تقريب النظام الأخلاقي اليوناني إلى مجال التداول الإسلامي، متوسلين بآليات تحرير الموروث اليوناني من الصفات المثالية، وإلباسه الصفات العملية، ومثال ذلك أن تلك الثنائية اليونانية السائدة: النظر والعمل، أو العقل النظري والعقل العملي، قد صيرها العقل الإسلامي ثنائيةً جديدة هي: أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فالقُلوب محل للإيمان، والجوارح للأعمال؛ ذلك أن التكاليف الشرعية التي تعبد بها الإنسان في خاصة نفسه ترجع إلى نوعين: أحكام تتعلق بالأعمال الظاهرة، وهي أحكام العبادات والعادات والمتناولات، وأحكام تتعلق بالأعمال الباطنة، وهي الإيمان وما يتصرف في القلب، ويتلون به من الصفات، إما المحمودة: كالعفة والعدل والشجاعة والكرم والحياء والصبر، وإما المذمومة كالعجب والكبر والرياء والحسد والحقد. وهذا النوع أهم من الأول عند الشارع، وإن كان الكل مهما، لأن الباطن سلطان الظاهر المستولي عليه، وأعمال الباطن مبدأ في الأعمال الظاهرة، وأعمال الظاهر آثار عنها، فإن كان الأصل صالحًا كانت الآثار صالحة، وإن كان فاسدًا كانت فاسدة. ومقتضى هذا أن «التوحيد أصل، والعمل فرع، فإذا اتفق في الفرع شيء يفسده ويهلكه جبره الأصل كالعصاة، وإذا خرب الأصل لم يصلحه بجبره الفرع كالمنافق». فهنا تلازمية بين الإيمان التوحيد؛ أفعال القلوب والعمل السلوك؛ أفعال الجوارح)، فالكل هنا بات فعلًا تتقوم به الذاتية الإنسانية، وتتكامل فيما بينها الفعاليات الإدراكية، مؤدية إلى الإنسان النموذجي المؤمن العامل. في استثمار الموروث الأخلاقي اليوناني هذا القانون الكلي انعكس على مسالك الأخلاقيين في المعرفة الإسلامية، التي وصلت الآصرة الشديدة بين الاعتقادات والعبادات والمعاملات والمزاجر، وبين أبعادها الأخلاقية التي تورثها في السلوك، ثم رسمت مراتب الارتقاء بهذا السلوك من أحواله الاعتيادية إلى مقاماته الارتقائية التي تصله في الأخير بالسجود الاقترابي من الله سبحانه وتعالى، وبيان ذلك أن صفة القراءة التي اختص بها الإنسان، إن لم تُوصل هي إلى الربط والاتصال فهي قراءة قد انحصرت في العالم الحسي، من غير أن تترقى؛ لكي تستنبط المعاني الروحية الملازمة لهذا الوجود الحسي، لهذا كان الإنسان دوما مخلوقا قارئًا، يتجدد بالقراءة، ويتسع علمه بالقراءة، ويستقيم سلوكه بالقراءة ويصل إلى الله بالقراءة، وإذا تعطلت هذه الوظيفة الجوهرية، أي وظيفة القراءة، فإن المآل هو انحسار الإدراك والمعرفة، وتضييق الوجود الكوني والإنساني، والدخول في ظلام نسيان مشاهدة الملكوت الأعلى، وفقدان القوة على مخالفة الشهوات، وقلة التفكر في يوم الفصل والجزاء، ولهذه الترابطية الوثيقة بين القراءة ومعرفة الله، انتقد ابن عربي الفلاسفة عندما أخطأوا في نقطة الانطلاق لما كان بصدد تحليل مفهوم باعتبارها محبة للحكمة فلو طلبوا الحكمة من الله لا من طريق الفكر أصابوا في كل شيء». وإذ تبين لنا هذا الأمر، فإننا نصرف السعي إلى ابن عربي الذي هو من الأخلاقيين الذين استثمروا مفاهيم الفلسفة الأخلاقية اليونانية في وصف قوى الإنسان، وفي رسم طريق الارتياض بمكارم الأخلاق مع تحريرها من الإحالات اليونانية الإنسانية، والاعتراف بقيمتها، ومعاندة من يعترض على هذه التعاليم الأخلاقية؛ بدعوى أن قائلها هو الفيلسوف، وأن الفيلسوف لا دين له، يقول ابن عربي: إذ الفيلسوف ليس كل علمه باطلا فعسى تكون تلك المسألة فيما عنده من الحق ولا سيما أن وجدنا الرسول - عليه السلام - قد قال بها ولا سيما فيما وضعوه من الحكم والتبري من الشهوات ومكايد النفوس وما تنطوي عليه من سوء الضمائر فإن كنا لا نعرف الحقائق ينبغي لنا أن نثبت قول الفيلسوف في هذه المسألة المعينة وأنها حق. وإن هذه المقدمة المنهجية التي وضعها ابن عربي في كيفية تعاطيه مع النقل الفلسفي اليوناني، تجد أسمى تجل لها في تناوله للأخلاق وكيفية الارتياض بمن قعد ولم يتحقق بالفضائل الأخلاقية التي تجعل من نفسه الناطقة حاكمًا على نفسه الشهوانية ونفسه الغضبية في استبصاره لصورة الإنسان الأصلية المنسية. إن آلية التعاطي مع الموروث الفلسفي اليوناني هنا كانت آلية تقريبية تشغيلية، بما يحقق القصد ضمن النسيج الضام للمشروع الأخلاقي، وهنا تظهر القدرة التقريبية والموهبة التركيبية التي رسم بها ابن معالم الفقه الروحي الأكبري، بخاصة الأنساق الأخلاقية الروحية منها؛ حيث نجد في متنه إلى الرواقية وفيلو والأفلاطونية الجديدة ومدارس قديمة أخرى، وقد عكف على تأويلها ميتافيزيقيا، وأدمجها في بانوراما حكمة ابن عربي الإلهية. وقد كان عقله بلورة تعكس المذاهب العرفانية والعلوم الكونية وعلم النفس والطبيعة في إهاب ميتافيزيقي شفيف يكشف عن المفصل الذي يدور حوله كل صور حكمة الأولياء والحكماء مثل الجذر الذي يغذي كل شيء، وكل مقامات الحقيقة المغمورة في الربوبية. ولن يتحقق بهذه الخصيصة المنهجية الثاقبة، إلا من كان يمتلك رؤية منهجية أو منظورًا معرفيا جليًا لديه، فيأخذ من البنيات الأخلاقية ما يخدم القصدية الأنطولوجية والأخلاقية الكامنة في مشروعه، وهذا على التحقيق ما كان ابن عربي. يطبقه الأنساق الفلسفية والتشريعات الأخلاقية التي أقام بينها وبينه حوارًا جدليًا مثمرًا، وهو بهذا الإجراء المنهجي يسكن في أرض العقلانية المعاصرة التي من سماتها المنهجية (المفاهيم الرحالة les concepts nomades)، التي تسافر من نسق علمي لكي تقيم في نسق علمي آخر، أو يجري الأخذ بقيمة خلقية من سياق تاريخي ومعرفي إلى سياق تاريخي ومعرفي يفرضان تحديات ثقافية جديدة. الحلقة الثانية