تُعد قصيدة الهايكو من أشهر أشكال الشعر القصير في العالم، وتتميز بقدرتها على إيصال الصورة والمشاعر بأقل عدد من الكلمات. وتنحدر هذه القصيدة من الثقافة اليابانية، وتم تطويرها وتشكيلها على مر العصور، وانتشرت في أنحاء العالم، ونُظمت بمختلف اللغات. وقد أدى ذلك إلى تغير في الشكل، والمضمون، حتى اعتبر البعض التخلي عن الشروط الشكلية والفنية للهايكو بحجة التجريب "إفراغا للهايكو من الهايكو". «شعر تأملي، موضوعه الأساسي الإنسان في الإطار الطبيعي، أي أنه نوع من التأمل السريع في علاقة الإنسان بالوجود، وخلاصة التفكير باختصار وبدون ادعاء العمق".. هكذا ينظر الشاعر والأكاديمي فيصل الأحمر إلى "الهايكو". وهذا الأخير في جوهره شكل شعري ببساطته المفرطة، وقصيدة الهايكو عند الأحمر "بسيطة خالية من التكلف اللغوي والبهرجة البلاغية تعبر عن تأمل قصير في حياة الإنسان في كنف الحركات الشفافة لمكونات الطبيعة، مع حضور عنصري الدهشة والتعجب اللذين قد يتحولان إلى التهكم أو الموقف الساخر من تناقضات الحياة...". إنها قصيدة "لحظة الصفاء الروحي". شعرٌ متجذر في التاريخ ويشير الأكاديمي والشاعر د.عبد الحاكم بلحيا (جامعة سيدي بلعباس) إلى أن "الهايكو" ينحدر من نوع آخر من الشعر القديم يسمى "الرنغا" الذي انتشر في البداية في الأوساط المثقفة، وهو يشبه المباراة أو اللعبة الشعرية، يقوم فيها شخص بإلقاء البيت الأول "هوكو"، ويتشكل من سبعة عشر مقطعا صوتيا، على أن يقوم الباقون تباعا بتكملته، وتتألف كلمة "هايكو" من كلمتين: "هاي" و«كو"، وتعني حرفيا باليابانية: "الكلمة المضحكة" أو"الممتعة"، أو "عبارة مسلية" أو "طريفة". وهو ما يمكن أن نترجمه بالدعابة، أو بالطرفة. الهايكو في المشهد الشعري الجزائري وخصّت الشاعرة والأكاديمية د.خالدية جاب الله (جامعة قسنطينة) تجليات الهايكو في الشعر الجزائري بالدراسة والتحليل. قبل ذلك، اعتبرت الباحثة أن عمر الهايكو في الشعر العربي قصير جدا، لا يتعدى الخمسين سنة الأخيرة إلا بقليل، حين ظهر ديوان "يا عنب الخليل" للشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة (1946-2021)، سنة 1968، وفيه قصيدة عنوانها (هايكو - تانکا) تتجه بوعي واضح نحو كتابة قصيدة هايكو "ثلاثية أبيات" كما عبّر عنها، وقصيدة تانكا "خماسية أبيات" كما وصفها أيضا. ثم ظهرت أسماء عربية أخرى أبدعت في هذا المجال، على غرار محمد الأسعد، وعبد الكريم كاصد، ومحمد عضيمة، وبشرى البستاني، وعاشور الطويبي، وسامح درويش، ومحمود الرجبي، وعذاب الركابي. وتؤكد جاب الله حداثة عهد الشعر الجزائري بفن الهايكو، الذي تأخر حضوره في الجزائر إلى غاية ظهور ديوان الدكتور عاشور فني "هنالك بين غيابين يحدث أن نلتقي" (2007). وضمت "أنطولوجيا قصائد الهايكو العربية" لعباس محمد عمارة، نماذج لخمسة شعراء جزائريين (عفراء قمير طالبي، رضوان شيخي، حبيبة محمدي، معاشو قرور، عاشور فني). كما أشارت جاب الله إلى ديوان "قل.. فدل" للشاعر د.فيصل الأحمر، الذي اعتبرته "من الشعراء الجزائريين الذين يلتقون مع الهايكو بمقدار ما يختلفون عنه"، حيث صدّر ديوانه بمقدمة نقدية عنوانها "ارتقاء إلى الهايكو"، لخص فيها تصوره الذاتي لهذا النوع من الشعر، وحدد ما أخذه عنه وما طرحه منه. من الناحية الشكلية، يعترف فيصل الأحمر بأنه "قليل الاهتمام بالقواعد الشكلية" التي يعتقد أنها "لم تخرج يوما من اليابان". وقد ترجم "قلة الاهتمام" هذه في ممارسته لكتابة الهايكو ضمن ديوانه، حيث جاءت أغلب قصائده في شكلها وعنوانها عبارة عن "سباعيات" (سباعية المثنى، سباعية فلسفية، سباعية الخلاصات، سباعية المشاهد السبعة، سباعية الوصايا، سباعية الموت، سباعية التماهي..). ولا تعني السباعية عنده أن القصيدة تتشكل من سبعة أبيات أو سبعة أسطر، بل تعني أن كل قصيدة تتشكل من سبعة مقاطع، من الممكن أن يستقل كل مقطع بنفسه قصيدة قائمة بذاتها. ويعد الشاعر أ.د.الأخضر بركة من أغزر شعراء الهايكو الجزائريين والعرب، وأكثرهم التصاقا بعوالم الهايكو الطبيعية والمشهدية، ومن أشدهم وفاء لقواعد الهايكو، ويتضمن ديوانه "حجر يسقط الآن في الماء" أكثر من 360 نص، تتشابه في قيامها على معظم خصائص الهايكو الموروثة عن أصولها الأولى. ومن الأمثلة عن هايكو الأخضر بركة: «من النافذة، بعد الخمسين.. الخريف يجرّ عربة العمر نحو العدم" وتحلل جاب الله هذا الهايكو قائلة إن فيه مكانا (النافذة)، وزمانا (بعد الخمسين)، وكلمة فصلية (الخريف)، وفعلا حاضرا (يجر)، ومشهدا بصريا (عربة مجرورة)، ونهاية مدهشة لحياة عدمية تترجمها صورة بليغة لعربة تجر إلى العدم في خريف العمر. ماذا تبقّى من الهايكو؟ يعدّ الهايكو الشعر الياباني الأشهر، وانتشر ونُظم بمختلف لغات العالم، ومنها العربية. ولكن، ألم يؤثر هذا التثاقف في شكله ومضمونه الأصليين؟ كما سبق، هناك من يرى أنه ليس من الضروري الالتزام بالقوالب التقليدية للهايكو، فهذا الأخير فن واسع يتسع للتجربة والإبداع. بل ويوجد من يقول بإمكانية استخدام الهايكو في الأغراض غير الشعرية، من الكتابة الإبداعية، والتأمل، والتعبير الشخصي، إلى الإعلانات أو المواد الترويجية لإيصال رسالة موجزة ومؤثرة. بالمقابل، يعتبر الدكتور عبد القادر خليف (جامعة تبسة) أن مسألة التقطيع الصوتي لشعر الهايكو، واعتماده على سبعة عشر مقطعا موزعة على ثلاثة أسطر (5_7_5 على التوالي)، تطرح إشكالية في شعر الهايكو العربي الذي لا يستطيع الالتزام بهذا الشرط، نتيجة اختلاف المقاطع الصوتية في اللغتين اليابانية والعربية. وبقي أغلب شعراء الهايكو العرب محافظين على نظام الأسطر استحالة المحافظة على عدد المقاطع الصوتية السبعة عشر. ويضيف خليف بأن انتقالنا إلى البنية الجمالية للهايكو، من ناحية المضمون الفني، سيمكننا من أن تباينا كبيرا بين شعراء الهايكو العرب، إذ أن التطور الذي طرأ على الهايكو، جعل بعض الشعراء ينطلقون من نصه الحداثي كما طوره شعراء الغرب، على حين فضل آخرون العودة إلى أصله الياباني بتصورات "ماتسو باشو" الذي استخلصها من الرنغا، وهناك من زاوج بين النسختين. ومع أن قصيدة الهايكو هي احتفاء بالطبيعة، إلا أن المضمون لم يسلم هو الآخر من التجريب، يلاحظ الباحث، حيث راح كثير من الشعراء من مختلف الأجناس، يعبرون عن حالات النفس البشرية، وما تكابده من عناء ومشاعر، "وهذا ليس من خصائص الهايكو، إذ يرتبط بفن شعري ياباني هو "السينريو"، لكن غلب التجريب داخل الهايكو، ويبدو أن شهرة الهايكو طغت على ما سواه من الأشعار اليابانية حتى توهم بعض الشعراء أن كتابة قصيدة من ثلاثة أسطر هي هايكو". ويخلص خليف إلى أن انتقال الهايكو الياباني إلى عوالم مختلفة، وتلقفه من ثقافات متنوعة، أدى إلى صعوبة الاحتفاظ بنسخته الأصلية، معتبرا أن "التخلي عن الشروط الشكلية، والشروط الفنية للهايكو بحجة التجريب هو إفراغ للهايكو من الهايكو، ولن يتبقى عندها سوى الاسم".