عشتُ مطوّلاً وأنا أنظر إلى تبسة مدينتي الأولى / الثانية في الوقتِ نفسه، بعين تحتلُ مكانًا خاصًا جداً: الحميمية المصطبغة بالغربة. هو موقع مُثير للاِنتباه يصلُ إلى درجة حل إشكالية فلسفية عميقة عَبَّرَ عنها هايديغير بضرورة تربية العقل على القدرة النادرة على المحافظة على طاقة "الاِنبهار" لأنّ العالم والتعوّد والتراكم المعرفي للحياة الحديثة ينتج كله ضياعًا للاِنبهار الّذي كان يظهر مراراً في النصوص القديمة...اِنبهار يمكننا أن نُعاينه في كُتُب الرحّالة القُدامى، التي يمكننا أن نُقارن ما فيها من اِنبهار بِمَا في كُتُب الرحالة المحدثين من كسلٍ في العين والوجدان، لكي نرى كمية "اللاّمبالاة المرضية" التي تصيبُ العين من كُثرة معرفتها لكلّ شيء. إيقاع الذّاكرة: مقدّمة موسيقية لن أُكرّر المثل السّائر الّذي أكرهه: "الجهل نعمة". لا...ليس الجهل بنعمة، ولكن العِلم بالأشياء بطريقة جميلة هو النعمة الكُبُرى. كانت لي مع تبسة تجارب عديدة سأضعها على عِدة إيقاعات تتحكّمُ فيها ثلاثة محامل. المحملُ الحميمي المعيش؛ وهو محملٌ حميميٌّ يتسرّبُ من الحكايات والذّكريات التي هدهدت طفولتي، ومحمل تجريبي هو الّذي سيتحكّم في معرفتي المُباشرة بالمدينة وأهلها، ثمّ المحمل المعرفي الّذي يرتكزُ على المدينة التي سأتعرّفُ على تاريخها ودلالاتها الغائرة في طبقات من التواريخ المُتراكمة ببذخٍ مُدهش. إيقاع حميمي: لحّام في الصّحراء تعودُ أصول عائلتي إلى مدينة "جيجل" المُطِلة ببهاءٍ خجول على البحر الأبيض المتوسط، الّذي كنتُ منذ نعومة أظافري السينمائية قدُ فهمتُ بأنّه بحرُ الكرةِ الأرضية جمعاء، وليس فقط أحد البحار المُتوفرة على الكرةِ الغريبة المُسماة الكرة الأرضية. وكان والدي يعملُ في ميدان المناجم، كان لحّامًا دفع يده اليُسرى في فرنسا (بمدينة "طانْ" في قلب الألزاس) ضريبة لتعَّلُم مهنة ستُرافقهُ طوال العمر، وسترمي به غداة الاِستقلال إلى الحدود التونسية: مدينة بئر العاتر في أقصى شرق الجزائر؛ أينَ كانت الثروات الباطنية (وسلطانها الفوسفات) تتوّعدُ المُستعمر - الّذي صار مُتنمّراً بعدما كان متربّبًا - بغدٍ أفضل يتحدى بعسر تلك الحتمية الاِستعمارية القاسية: أنا أحتلك لأنّك متخلف ومحتاج إلى اِستعبادي لك لكي تتقدم. - سحقًا للتقدم الآتي من فرنسا / كانت جدتي تقول. - فرنسا فيها الجميل والسيء؛ فلنأخذ طيبها ولنرم خبيثها / كان عمي مسعود يقول باِبتسامته الأسطورية التي تقول دومًا بأنّ هُنالك دومًا نكتة مُبطنة تتخفى خلفها، سوف تظهر آجلاً أو عاجلاً. وكُنا نقضي الصيف في "جيجل" حيثُ البحر، ثمّ نعود خريفًا إلى "تبسة" التي كانت تُسميها أمي "الصحراء"...وقد حاربت طيلة عشر سنوات لكي أفهم بأنّ "تبسة" ليست "الصحراء" رغم كلّ ما فيها من اِمتدادات صفراء ومن مناطق شبه رملية ومن أقاليم تُشبه الصحراء. الحقيقة أنّ الخُضرة التي كانت في "جيجل" كانت تُؤهل أي مكان في العالم أن يظهر بمظهر الصحراء بدون كبير عنت. في المدرسة كان المُدِّرس الجيجلي أيضاً يُحدّثنا عن تبسة: "تبسة أو تيفست مدينة من مُدن الشرق الجزائري تقعُ بين سلسلة جبال الأطلس وبين الحدود التونسية، وهي مدينة عتيقة تملكُ تاريخًا ثريًا تشهدُ عليه الآثار التي لا تزال قائمة صامدة في وجه التاريخ في قلب المدينة العتيقة التي لا يزال يحيطُ بها السور البيزنطي". في الحصة المُوالية كنتُ أفكّرُ في السور البيزنطي حينما باغتني المُعلم: ماذا يعمل أبوك؟ قلتُ له: سودور. اِبتسمَ وقال لي: تقصد (لحام)...هل أبوك لحام؟ قلتُ مُستنكراً: لا أبي ليس لحامًا...هو لا يبيع اللحم. قال لي: تقصد أنّه ليس جزاراً. صمتُّ لأنّني شعرتُ بأنّه يستهزئُ بي...ما علاقة أبي بالجزر؟ قلتُ بصوت خافت: أبي سودور soudeur... هكذا كنتُ أسمعهم يقولون دومًا. وكنتُ أتحمّس في كلّ خريف للعودة إلى تبسة رغم أنّ والدتي كانت تبكي لأنّها ستتركُ جيجل حيثُ أهلها جميعًا صوب تبسة التي لا تعرف فيها أحداً. أمّا أنا فكنتُ أفرح كثيراً لأنّني ذاهب إلى تبسة؛ صحراء أمّي التي كنتُ أراها عامرة جداً بالحياة، وبأشجار الأحداث والحكايات وباللهجة الموسيقية لأهلها. إيقاع التّاريخ الحي..تبسة عاصمة أمريكا وكندا معًا حينما اِكتشفتُ أنّ تبسة ليست هي العاتر (كما كُنا نُسمي "بئر العاتر" مُتناسين لفظة "البئر". التي هي البئر الرهيبة التي اِنتحرت فيها الحاكمة العظيمة "الكاهنة" إيذانًا بدخول البلد في المرحلة الإسلامية التي ستُغير تاريخًا قديماً بتاريخ حديث سيُخَفِّفُ من عنت الغزو المُستمر لتلك المنطقة)...حينما اِكتشفتُ ذلك غضبتُ كثيراً وسألتُ أبي: لماذا لا تأخذنا إلى تبسة؟ أجاب عمّي مسعود الّذي كان يزورنا مراراً في تبسة (أقصد بئر العاتر) حتّى بعدما تركها مودّعًا أربع سنوات من عمله كشرطي هناك: - غداً نذهبُ إلى تبسة يا عزيزي...هل تعرف لمن هي هذه السيارة التي تركبها؟ هي سيارة الرئيس فرحات عباس. - هل زار فرحات عباس تبسة؟ هههه...لقد زار كلّ مكان...هو رجلٌ معروف وروحه تنتقلُ إلى كلّ مكان مُبارك حينما ينام. كان أبي يُضاحك عمي وأنا أتفرّجُ على مناظر "صحراء أمي" التي لا تُشبه جيجل أبداً، الغُبار، الفراغات الكثيرة، الجبال المُتباعدة، المنعرجات القليلة، اِمتدادات توحي بشيءٍ عظيم لا يعلم الواحد مصدره. قضيتُ يومًا طويلاً عريضًا في تبسة، كان ذلك في عام 1980...وكنتُ أجتهدُ كي أتذّكر أسماء الأماكن التي ذكروها مِمَّا زرناه ومِمَّا رأينا لافتاته ومِمَّا لا علاقة له برحلتنا...ولكن السّماء كانت توحي بقصص كثيرة: (بوخضرة، طريق تونس، بكارية، العنق، الحمامات، أوكُّس، ونزة، الشريعة، القعقاع، الما لبيض، نزورو حانوت السوفي، ماكسيميليان التبسي، أحمد راشدي، أنور مالك، نروحو عند لمزابي، دار مالك بن نبي، جمعية العُلماء، دار العربي التبسي، روبير ميرل، لمفوّر، الحبس، التعذيب، الهادي خذيري، اللبلابي، الفول). كان شكل النساء مُختلفًا جداً، الملاءات السوداء كانت أكثر من الحايك الأبيض الّذي أنا مُتعوّدٌ عليه في جيجل، النساء في السوق وفي المدينة القديمة يملأن المكان قائمات بمهمة شراء أغراض البيت التي أنا مُتعوّد على أن يقوم بها الرجال عندنا في جيجل. سألتُ والدي عن ذلك، قال لي: تبسة مدينة كبيرة. ضحك عمي وقال: دعك من هذه الأكاذيب، جيجل أكثر تحضّراً من تبسة. رفض والدي المقارنة، وبرّر كلامه: - معي في الشركة دانيال الكندي وتوم الأمريكي...وتعرف أنّهما زارانا في جيجل مراراً، يصران كلاهما على أنّه في أيّام السوق في تبسة يشعران بأنّهما في العاصمة. - هل تبسة عاصمتهما؟ تساءلتُ ببلاهتي الطّفولية. - نعم...تبسة عاصمة أمريكا وكندا أيضاً..رمى عمّي ضاحكًا. ظللتُ أُحاول تذكر كلام سي عمر المُعلِم الّذي كان مُغرمًا بتبسة: "اِسم تبسة كما يقول مُبارك الميلي "بربر (توضيح) بربري الأصل، هو لفظة (ثارّت) وقد يعود إلى تسمية قديمة للأسد أو لأنثاه بِمَا أنّ الكلمة تبدو مُؤنثة، وربّما يكون أصل الكلمة ليبيًا قديمًا جداً...من أيّام كانت ليبيا عاصمة العالم الثّقافيّة...ولكنّه تاريخٌ مطموس لم يُبقِ منه الاِستعمار شيئًا. الاِستعمار يكره التاريخ، وكثيراً ما يطمس آثار الأهالي من أبناء البلد، الشعب الّذي يفقد ذاكرته يغرم بالمستعمرين...عليكم أن تنظروا في كُتُب الألمان التي تقول حقيقتنا، وهي تقول إنّ تبسة الحبيبة تُشبهُ مدينة الأسود الفرعونية، ولهذا سُميت باِسمها طابة أو طيبة أو تيبس المصرية. ولَمَا دخلها "يونانيو" الإغريق شبَّهُوها بها...ثمّ جاء الرومان فسموها "تيفست"، وهو الاِسم الّذي تمّ تعريبه ليتحوّل إلى (تبسة). وهي المدينة التي أُغْرِمَ بها جميع الغُزاة والفاتحين وحتّى الزوّار العابرين، إذ قَلَّمَا وجدتُ مدينة في الجزائر عرفت اِهتمام الجميع بلا اِستثناء، ولا توجد مرحلة مرت بالتاريخ الجزائري إلاّ وهي مدينة تلعب دوراً هامًا بفضل الطريق التجاري القديم، الّذي يربط بين الطاسيلي والبحر جهة تونس...وربّما يكون جدودنا (النمامشة) أصحاب ملمح نفسي خاص مارس جاذبية كبيرة على الجميع: القوّة والاِنفتاح والبحث عن الحقيقة التي تُعبر الأديان والاِحتفاء بالعظماء دون النظر في أصولهم والاِستعداد للتعامل مع الجميع: وهو سلوكٌ حضاريّ يُساعد على بناء الدول، على نقيضٍ من الاِنغلاق المعهود لدى البدو مِمَا يجعلهم دومًا على هامش التاريخ". الإيقاع الجليل: قبلة سياسية ثقافية في مرويات كبار العائلة ظلّت صورة تبسة تنبضُ بحياة مُتميّزة جداً، وهي صورة سأتعرّف عليها جيّداً بدءاً من التسعينيات، حينما أشرع في المُشاركة في المُلتقيات الأدبية التي كانت نشطة جداً في تلك المرحلة (ملتقى البعث الأدبي كان يجمع بين 1991 و1994 خيرة الكُتّاب الذين كانوا نشطين ساعتها، وعلى شهود المرحلة أن يُذَّكِروا بمستوى المناقشات التي كانت تدور ساعتها، في مقارنة مع النميمة الثّقافية التي يُمارسها على هامش لقاءاتهم أكبر المثقفين وأعظم الأدباء على أيّامنا البائسة هذه)... ثمّ يحدث لك مراراً أن تخرج لتتجوّل في المدينة رفقة أبنائها لتتعرّف على جو خاص جداً: مثقفين في منتصف العمر يُحافظون على ملمح مزدوج لثقافة تُحافظ تمامًا على التُراث المعنوي للمنطقة، وتنفتح تمامًا على كلّ حديث مُستجد...كان على الواحد أن يذهب إلى تبسة لكي يلتقي بمثقفين وإطارات مِمَّن يتواجدون في الإدارة وفي الوسط التعليمي (العادي والعالي على حدٍ سواء) يتكلّمون في التّاريخ الإسلامي بعربية هي ربّما أفصح عربية يسمعها الواحد في الجزائر، وينتقلون إلى الحديث عن تفاصيل الحياة الباريسية بلغة فرنسية تحترم كلّ تفاصيل النحو والصرف التي قد يُخطئ في شأنها الباريسي متوسط الثقافة، وهم أنفسهم الذين يتحدثون عن القديس أوغسطين والقديس دوناتوس الأعظم والقديسة مونيكا وكاراكالا والبازيليك والقديسة كريسبين والملك جوستينيان والقديس ماكسيميليان والحضارة العاترية وكازا نيغراي (المعروفة بمدينة "نغرين" الساحرة)، والتاريخ الروماني الثري جداً للمنطقة بدون أدنى غضاضة مِمَّا نراه اليوم من تشنج في التعامل مع التاريخ كأنّنا نعيش نازية الموضوعات، ومحاكم التفتيش الثّقافية بحيث يكون ذِكرك لأوغسطين قذفًا في عقيدتك الإسلامية، أو يكون اِستعمالك للغة العربية وذكرك للعربي التبسي هو اِختيار سياسي عروبي مضاد للعلمانية التي لا تجد اِثنين في الجزائر يتّفقان لها على معنى صحيح واحد... كانت تلك هي "التبسة" التي ورثتها عيناي وأذناي وعقلي مع فاتحة التسعينيات، وهي نفسها "التبسة" التي ظلّت تترسّب في ذاكرتي الأولى عن طريق صوت السي اعمر، فيما أنا أبني لبِنات عامي التاسع الّذي هو آخر أعوامي هنالك؛ قبل أن أخرج من تبسة مُنتقلاً في محل سكني العائلي صوب الكورنيش الجيجلي. - يتبع -