من ركام الألم، ومن رحم المعاناة، تشمخ سنابل فلسطين وقاماتها العملاقة، لتنير درب الأحرار في كل بقاع الأرض، حقاً: تقف الحروف حيرى، عاجزة على أن تنتظم بمديح يليق بمقامهم، هم رجال عز نظيرهم، هم نبض البطولة وانشودة التضحية والفداء، حملوا الوطن في عقولهم وقلوبهم وحدقات عيونهم، ترجل الفارس وذهب الى عليين، وبقيت سيرته العطرة تفوح في أرجاء الدنيا، فمهما عبّرنا عن شخصيته النقية لن نوفيه حقه، لكن الكلمات تزاحمت على بوّابة مجد فلسطين العظيم، تاهت الحروف واختنقت الاصوات الماً وحزناً، ووجعاً، ذرفت دموع العيون وشردت الأذهان علها تستذكر كل الشهداء الأطهار الذين لبّوا النداء، تلعثم اللسان، وذبلت المآقى، لكن ضوء الشمس أشرق وتوهّج وجعلنا نقترب من الشهيد ميلاد منذر الراعي، في مخيم العروب شمال مدينة الخليل، قلعة الصمود والتحدي، وفي هذه القلعة الشامخة استقبلت الدنيا الصرخة الاولى لميلاد، حيث كان ميلاده ميلاد خير وفرحة، فوالده الذي استبشر خيراً، كان دائما يغرس فيه كل القيم وروح الثورة، حمل ميلاد هموم الوطن في نفسه الوديعة، وغدا فتى مناضلاً يذود عن أبناء شعبه بكل الوسائل، وكان شاباً محبوباً، متواضعاً، كان ميلاد يرى جرائم الاحتلال الصهيوني الارهابي التي تمارس ضد شعبنا في كل مكان، فحمل كل ذلك في نفسه الوديعة، فقرر الدفاع عن شعبنا الفلسطيني، فاختار بصوته الجميل أن يشدو الأغاني الوطنية، ليحرّك الجماهير للتصدي للاحتلال ومستوطنيه، لقد ساهمت كل الأحداث المريرة في صياعة شخصيته النضالية، والتي كانت محطة مهمة من محطات حياته المشرقة، فكان مناضلاً كبيرا بحجم التحديات، لا يمل ولا يكل إلا ويبث روح النضال في أوساط زملائه. سار ميلاد طالب الصف العاشر بمدرسة العروب الثانوية للبنين، والأوسط بين أشقائه، على خطى والده الفنان الموسيقي منذر الراعي، فكان شغوفاً بالغناء، خاصة أغاني الوطن والعودة، والأطفال، ورغم صغر سنه، كان يحلم بتحرير فلسطين، وأن يعود اللاجئون لبيوتهم. فضيق المكان وكثافة الناس والبيوت في المخيم، انعكس على كلمات ميلاد في غنائه للراب الذي يتحدث فيه عن حياته اليومية مع الاحتلال، التي أنهتها رصاصة قناص صهيوني حاقد اخترقت ظهره، ارتقى على أثرها بعد ساعات متأثراً بجروحه الخطيرة. كان ميلاد رحمه الله دمث الخلق، عزيز النفس، متواضعاً، ثائراً حتى غدا شخصية نضالية كبيرة لها بصمات كبيرة في الحركة الوطنية، كانت حياة هذا الفارس الفلسطيني العملاق حافلة بالانتصار للفكرة والحلم، والعودة الى فلسطين ضد المحتل الغاصب، حيث تجسدت كل القيم والمثل في أعماق قلبه، وكانت بمثابة ثورة وقوة وعنفوان، جعلته ينتصر لدموع الأطفال الذين صرخوا من حمم الطائرات الأمريكية الصنع التي تدمر البيوت على رؤوس ساكنيها، ليحولها الى ثورة ضد القتلة من عصابات الاحتلال الذين يحرقون البشر والشجر، حيث كان يبكي في داخله، والألم يمزقه، لكن الليل لن يطول وأن الحلم سيتحقّق بإذن الله، والقدس ستعود لتعانق كل المدن وتتربّع على عرش الأصالة والجمال وتحتضن أبناءها. ميلاد يا ابننا الغالي: أنت حيّ فينا، وسيظل صوتك الجميل نبراساً نهتدي به، رحلت يا ميلاد للتحقيق بالشهداء القادة والعمالقة ياسر عرفات وخليل الوزير، وصلاح خلف وزياد ابوعين وفارس عودة والشقاقي والياسين وابوعلي مصطفى وكل الشهداء الميامين. ميلاد يا حبيبنا: سافرت ولكن السفر الطويل، سفر الثورة الشاق والصعب، الثورة التي هي حياتنا، فأبناء شعبك يكبرون على الجراح العميق، يقفون أمام العواصف والأنواء، شامخين، متسلحين بالايمان وبحتمية العودة، لأن الغاصبين سيسقطون في القاع المظلم، لأنك يا ميلاد وكل الشهداء عبّدتم لنا الطريق، رحم الله الشهيد ميلاد الذي كان مناضلاً استثنائيا كبيرا، وقامة وطنية شامخة أثرى بعطائه وتضحياته الحركة الوطنية الطلابية التي كانت وما زالت عنواناً مشرقاً لفلسطين ولكل الأحرار، سيبقي ميلاد الراعي وكل شهداء فلسطين قناديل مشرقة وخالدة، على جبين الوطن وسيظل اسم ميلاد حاضراً دائما في وعي وضمير كل الأحرار والشرفاء الذين يذكرهم التاريخ، وسيظل ميلاد من الشهداء العظام الذين زرعوا سنابل الحصاد، وغادروا الذين رسموا أسماءهم في سجل الخالدين سلام عليك ميلاد يوم ولدت ويوم ناضلت ضد الاحتلال حتى الرمق الأخير ويوم غادرت شهيداً عظيماً شامخاً سلام عليك وقد أصبحت أيقونة للبطولة وأنشودة الوفاء