يعتبر "أورار نلخلاث" من الطبوع الفنية الغنائية التي اشتهرت بها منطقة جرجرة المعروفة بخصوصياتها الفريدة من نوعها والتي ميزتها عن باقي مناطق وولايات الوطن، حيث ارتبط هذا النوع الغنائي بالمرأة التي تعزف حنجرتها سيمفونيات موسيقية رائعة تسافر بالمستمع إليها عبر أروقة الزمن العابر، حيث يعود تاريخ هذا الفن إلى زمن الأسلاف وحقب تاريخية مضت، لكن لم يعرف بالتحديد التاريخ الحقيقي لميلاد هذا النوع الموسيقي. ترانيم موسيقية، تُعزف نوتاتها عبر حناجر النسوة في مختلف قرى ولاية تيزي وزو، والتي تسمع وتصل إلى مسامعنا عبر صدى الجبال الشامخة التي تقبع على قممها هذه القرى الجميلة، التي تتميز بمعالم بناء تقليدية وسط الطبيعة الخلابة التي تتداول عليها الفصول، ليزيدها جمالا صوت النسوة وهن يرددن أجمل الأغاني التي تفنن في كتابة أشعارها وتلحينها بالصوت فقط دون أي آلات موسيقية، وهذا ما جعل من هذا النوع الموسيقي فريدا من نوعه، كونه خرج من حناجر نسوة لم يتلقين يوما المبادئ الأولى في الموسيقى ولم يتعرفن على كبار الفنانين والموسيقيين العالميين وحتى المحليين، إلا أنهن أوجدن نوعا فنيا غنائيا خاص بهن، أبحرن من خلاله إلى العالمية حتى دون معرفتهن أنهن يغنين الفن، وهذا ما ألهم الكثير من الفنانين الذين أخذوا هذه النوتات الموسيقية كلحن لأغانيهم. ترانيم موسيقية تترجم المشاعر الدفينة للمرأة القبائلية من أعالي الجبال، ووسط مداشر وقرى تيزي وزو، وبين أحضان الحقول ومشارف الينابيع والمنابع الطبيعية، يتردد صوت النسوة وهن يصدحن بترانيم وألحان مستوحاة من المشاعر الدفينة بالنسبة للمرأة في منطقة جرجرة، التي تعيش ظروفا وحياة مغايرة لنساء مختلف ربوع الوطن، لما لهذه المنطقة من خصوصيات ومميزات تحد من حرية المرأة وتمنعها من التعبير عن ما يختلج في نفسها، خاصة وأن الحياة لم تكن يوما سهلة بالنسبة لها في ظلّ حكم وسلطة الرجل، باعتباره مجتمعا ذكوريا، وجدت فيه المرأة نفسها، وهو ما جعلها تبحث عن منافذ وطرق من أجل التعبير عن مكنوناتها والتخفيف من معاناتها والخروج من صمتها بطريقة تعبيرية ومشفرة، فلم تجد سوى الموسيقى كطريقة تعبيرية في حدود حريتها المقيدة. «أشويق، أمداح، أورارنلخلاث، أزنزي ينلحني، أحيحا" كلها طبوع موسيقية شيقة وجميلة تتغنى بها حناجر النساء في منطقة جرجرة اللاتي يطلقن العنان لمخيلتهن وأصواتهن الشجية لنسج ألحان من وحي الخيال، مرفقة بكلمات وأشعار معبرة عن وضعيتها المعاشة، هذه الطبوع الغنائية التي تختلف من حالة نفسية إلى أخرى، فبين الفرح والحزن تصدح الأصوات وتولد الأغاني التي تجسد معالم الحياة في المنطقة. لوحات فنية تصنعها المرأة «أورار نلخلاث" هذا الطابع الغنائي الذي يشكل علامة فارقة في حياة النسوة بالمنطقة لعدة قرون وسنوات، يعتبر الملاذ الوحيد للتعبير عن المكنونات والاحاسيس بألحان عذبة وأشعار فقط، و دون استعمال الآلات الموسيقية، وهذا ما ميّز هذا الطابع الغنائي الذي أحدث قفزة في عالم الموسيقى، وجعله محل الدراسات لما له من مميزات فريدة، كيف لا وهو يتغنى بحناجر نساء لا يفقهن شيئا في الموسيقى، ولكنهن أعطين ميلاد لنوع غنائي أثر في عالم الموسيقى ولم يتأثر بالتطورات الموسيقية العصرية، حيث تناقلته الأجيال عبر التناقل الشفهي الذي جعله يصمد منذ قرون وصنفه كموروث ثقافي دخل في هوية المنطقة. الحديث عن "اورار نلخلاث" دفعنا إلى التوغّل في قرى ولاية تيزي وزو، من أجل التعرّف أكثر على هذا النوع الموسيقي، لنحط رحالنا في قرية "المضلى ببوزقان"، التي حظي فيها هذا النوع الموسيقى باهتمام النسوة بعد قرون من ميلاده، حيث لم يتخلين عن تقاليد القرية التي دخل في أرشيف حياة سكانها هذا الفن العتيق، ليشاركهم أفراحهم ومختلف نشاطاتهم والتظاهرات الثقافية التي ينظمونها بين أحضان قريتهم، والتي ما إن تصل إلى مشارفها إلا ويأخذك الحنين بعيدا إلى الماضي والذي يترجم من خلال الأصوات الشجية للنسوة اللائي يتفنن بعزف النوتات الموسيقية بالصوت المرفق بآلة البندير الايقاعية، والتي تزيد من جمال هذه السيمفونيات الموسيقية التي أعادت الحياة إلى أزقة هذه القرى ونفست عن أحاسيس النسوة اللائي يتزين بأجمل الملابس التقليدية "الفوطة" و«الجبة القبائلية"، ناهيك عن الحلي التقليدية، ما يعطي صورة ولوحة جمالية معبرة عن منطقة القبائل وسط الفرح الممزوج بزغاريد ورقصات الفتيات. جمعني حديث مع السيدة "حسينة مزياش" نائب رئيس جمعية "ثغيلت المصلى" ورئيسة الفرقة النسوية لهذه القرية، والتي صرّحت أن نساء القرية يشاركن في مختلف التظاهرات الثقافية، من خلال الفرقة الموسيقية التي تتغنى بهذا الطابع الفني، وأخذن المشعل عن سابقاتهن، حيث يعود تاريخ ظهور هذا النوع إلى سنة 1992، حفاظا منهن على عادات وتقاليد منطقة القبائل من الزوال، خاصة في مجال الشعر، والغناء باستعمال الآلات الموسيقية "الدربوكة والدف"، الأمر الذي يعزّز استمرارية هذا الإرث الموسيقي القديم خاصة في ظل عصرنة الغناء ودخول طبوع موسيقية حديثة، وجديدة خاصة في الأعراس وهذا ما أفقد رونق وخصوصيات المنطقة. محدثتنا أضافت في تصريحاتها، أنهن يريدن العودة إلى العادات والتقاليد، وأن المرأة في منطقة القبائل أوجدت لنفسها طريقة للتعبير عن معاناتها وكيفية إخراج ما يؤلمها من خلال ترديد هذه الترانيم الخاصة بها بعيدا عن الرجل، حيث تغني المرأة وتعبر عن أحاسيسها المختلفة من أحزان وأفراح، وهي متواجدة في الحقول، أو عندما تمارس نشاطاتها اليومية، وأثناء تربية أبنائها وخلال الأعراس، حيث تنظم النسوة أنفسها من خلال مجموعات تبدأ اثنتين بالغناء وترديد أجمل الأشعار، على أن تعيد الأخريات ترديد تلك الترانيم الجميلة في أجواء من الزهو والمرح بشكل متناسق وسط حضور الفتيات الصغيرات لحمل المشعل بعدهن، وهذا ما يضمن توريثه وتناقله عبر الأجيال، لتتجسد بذلك صبغة وهوية المنطقة التي تسعى النساء للمحافظة عليها من الاندثار. سفيرات الأغنية القبائلية إلى العالمية اقتصر "اورار نلخلاث" في بداية ظهوره على القرى والمداشر، حيث لم يتعد حدودها في البداية، نظرا لعادات منطقة جرجرة، التي تحرم على المرأة الغناء واخراج صوتها إلى العلن بداعي الحشمة، لتتغنى به خفية عن الرجل للتخفيف عن نفسها من قهر الزمن والظروف المزرية التي تعايشها يوميا، في حدود تلك القرى التقليدية التي تسيطر عليها سلطة الرجل، ولكن مع مرور السنوات، عرف هذا الطابع الفني انتشارا وشهرة واسعة بعد ظهور أول فرقة ومجموعة نسوية، والتي أطربت المستمعين على أمواج الاذاعة خلال الحقبة الاستعمارية وبالتحديد سنة 1940، حيث غنين باللغة الأمازيغية ما جذب اهتمام المستمعين إليها، خاصة وأنهم لأول مرة يسمعون هذا الطابع الغنائي الذي أطل عليهم من جبال منطقة القبائل، حاملا معه عبق ورائحة القرى التقليدية بعاداتها وتقاليدها، كما أحدث قفزة نوعية في عالم الفن، كيف لا وقد كسرن تلك التقاليد التي تحد من حياة المرأة الاي اقتصر دورها آنذاك على الاشغال اليومية، الزواج وتربية الأبناء، ولا يمكنها تجاوز هذه الحدود التي رسمت وتقوقعت داخلها. ظهور هذا الطابع الغنائي اعتبر شيئا جديدا في المجتمع الجزائري المحافظ والمتشدّد في أفكاره في تلك الفترة، وقد كانت بطلاته ثلاثة نساء تسلحن وامتلكن الشجاعة وقوة الشخصية، من أجل إخراج هذا الطابع الغنائي إلى العلن، على غرار "اللا يمينة" المولودة سنة 1906 واسمها الحقيقي فروجة اعراب من بجاية، "ونيسة" المولودة سنة 1901، "اللا زينة" من بني ورثيلان، نسوة جمعتهن الظروف المزرية بعدما شددن الرحال إلى العاصمة تاركات أحضان القرى التي ترعرعن فيها، بحثا عن العمل وتغيير حياتهن للأفضل، ليبدأ مشوارهن الفني انطلاقا من أمواج الإذاعة، حيث غنين بكل عفوية وسجلن أغاني تراثية ما يزال صداها إلى يومنا هذا، وكن قدوة لأخريات سلكن نفس المسار من أمثال "النا شريفة" التي زاحمت كبار الفنانين وعلى المنصات الغنائية، كما كانت منبع الفن الذي نهل منه كبار الفنانين على غرار الفنان العالمي "ايدير". تراث مهدّد بالزوال هذه الفرقة النسوية "ثرباعث نلخلاث" التي انضمت إليها صاحبة الصوت القوي والعذب "النا شريفة" ونساء أخريات "جيدة ثمقرات، حنيفة وجميلة"، توسّعت وكبرت حتى وصل عددها إلى 15 فنانة من مختلف قرى منطقة جرجرة، ولاقت اهتمام الفنان الشامل الشيخ نور الدين الذي أشرف عليها شخصيا، لتطلق هذه النسوة القرويات العنان لأحاسيسهن وأصواتهن، حيث غنين للفرح، الأمل، الغربة، الفقر والمعاناة.. ناهيك عن تجاربهن الحياتية والشخصية، الإنسانية والأرض، لتكون مواضيع تلامس المجتمع وجواز سفر لقلوب المستمعين وعشاق هذا الطابع الفني الذي أطرب محبوه لعقود من الزمن، وأخذ حيزا كبيرا في عالم الفن والغناء الجزائري، ولكن شعلة هذه الفرقة الموسيقية انطفأت واختفت من أمواج الإذاعة والقناة الثانية بعد سنوات من العطاء، كما انطفأت شموع العديد من الفرق النسوية، خاصة بعد رحيل عميدات هذا الفن الواحدة تلو الأخرى، وهذا ما هدّد باندثار وزوال هذه النوتات الموسيقية والمعزوفات الشجية، التي تغنت بأصوات فنانات أمتعن العالم بأروع النغمات، ليدخلن موسوعة الطبوع الفلكلورية الجزائرية. خروج هذه الفرق النسوية إلى العلن خاصة في الزمن الغابر لم يكن بالأمر السهل، نظرا لخصوصيات المجتمع الجزائري ومنطقة جرجرة خاصة، وهذا ما أكدته الفنانة "ثامشطوت"، حيث صرّحت أن الغناء في الماضي لم يكن بالهين لعدة اعتبارات، على غرار نظرة المجتمع للمرأة، وهذا ما دفع بالعديد من الفنانات للتخلي عن حبهن للموسيقى والغناء، ليقتصر دورهن على تربية الأبناء خاصة بعد الزواج، في حين بقيت أخريات على العهد وشققن الطريق بشق الأنفس رغم المشاكل والصعوبات التي واجهنها في حياتهن الفنية، فليس من السهل أن تسافر المرأة من منطقة جرجرة إلى العاصمة تاركة وراءها عائلتها، عاداتها وتقاليدها، من أجل ولوج عالم الفن الذي كان صعبا على الرجل، فما بالك بالنسوة، إلا أنهن تحدين الظروف وواصلن مشوارهن الفني الذي أوصل "اورار نلخلاث" إلى العالمية. يعتبر "أورار نلخلاث" أحد اعرق الطبوع الموسيقية، التي تمثل تراث وهوية المنطقة وقد انتشر بفضل النساء اللائي أوجدن لهذا الفن أسس وقواعد حملته إلى العالمية، وبالرغم من أنه اختفى عن الواجهة لعدة سنوات، إلا أنه عاد للظهور مجددا بفضل الفرق الموسيقية التي تتنافس في مسابقة استحدثتها مديرية الثقافة، وهذا لإعادة هذا النوع الفني إلى الواجهة وتوريثه للجيل الحالي، وضمان بقائه في ظل عصرنة الموسيقى المهدّدة بزوال هذا المورث الثقافي.