يرى الباحث والنّاقد والشّاعر أزراج عمر أنّ دول العالم الثالث لم تستقبل منظور الدراسات الثقافية تأطيرا وتدريسا، وممارسة ميدانية بنفس الكيفية والدرجة التي استقبلها الغرب، كما يعتبر ستيوارت هول المنظر الأكثر عمقا في حقل الدراسات الثقافية، والذي بدأت كتاباته وبيداغوجياته تمارس تأثيرا حاسما أوروبيا وأمريكيا وأستراليا. وأشار أزراج في حواره مع "الشعب"، إلى أنّ الساحة النقدية الجزائرية خالية من النقاد المتخصصين في الدراسات ما بعد الكولونيالية، مؤكّدا أن هذه الدراسات تستند إلى جهاز نظري مشتق من الفلسفة والأنثربولوجيا والاثنوغرافيا وغيرها من الأجهزة النظرية الأخرى، وكل معالم وأسس هذا المتن النظري لم ينضج بعد في الحياة الثقافية الجزائرية المغلقة على نفسها. ^ الشعب: تدحرجت الدّراسات الثقافية خارج القلاع الفكرية الأوروبية نحو مجتمعات العالم الثالث، ما هو واقع هذه الدّراسات خارج الأسوار الأوروبية؟ ^^ الباحث والنّاقد عمر أزراج: سؤالك له عدّة تفريعات تحتاج كل واحدة منها إلى تمحيص وتدقيق. ينبغي بداية التمييز بين الدراسات الثقافية وبين الدراسات ما بعد الكولونيالية من حيث التخصص الأكاديمي على الأقل، علما أنّ ثمة تداخل أو تبادل التأثير بين هذين التخصصين وبين تخصص النقد الثقافي أيضا. كما نعرف فإن الغرب هو المؤسّس للدراسات الثقافية، وتحديدا في جامعة برمنغهام التي كان بها مركز سمي بمركز الدراسات الثقافية، تداول على إدارته عدة نقاد ومفكرين، أبرزهم ريتشارد هوغارت وستيوارت هول وكلاهما توفيا منذ مدة زمنية. لقد كانت لي علاقة وطيدة بالمفكر ستيوارت هول، الذي أعتبره المنظر الأكثر عمقا في حقل الدراسات الثقافية، والذي بدأت كتاباته وبيداغوجياته تمارس تأثيرا حاسما أوروبيا وأمريكيا وأستراليا وهلم جرّا. وفي الواقع فإن دول العالم الثالث لم تستقبل "تخصّص الدراسات الثقافية" أو لنقل منظور الدراسات الثقافية تأطيرا وتدريسا، وممارسة ميدانية بنفس الكيفية والدرجة. إنّه بإمكاننا أن نتحدث عن دراسات ثقافية بريطانية، ودراسات ثقافية أمريكية، ودراسات ثقافية إيطالية، وأخرى فرنسية، ولكننا لا نستطيع أن نقوم بنفس التصنيف على مستوى بلداننا من المحيط إلى الخليج. وربما أقول بأنّ بلداننا لا تعرف من الدراسات الثقافية إلا الاسم رغم أنّني سمعت أنّ هناك من ينطق بها دون أن تكون هناك مراكز لها أو إطارات متكوَنة على أيدي المتخصّصين في هذا الحقل النقدي المهم. ففي تقديري فإنّه لا يمكن أن نتحدث عن ماهية الدراسات الثقافية بدون فهم وتقصي الخلفيات التاريخية والسياسية والاجتماعية المتواشجة التي أنتجتها. سوف أختزل حديثي حول الدراسات الثقافية البريطانية باعتباري أحد المتخرّجين في هذا التخصص بشهادتي دبلوم الدراسات العليا والماجستير بجامعة لندن الشرقية East London Unevirsity في عام 1994 م، أي منذ 29 سنة. لقد درست هذا التخصص على أيدي أساتذة تخرّج أغلبهم من مركز برمنغهام للدراسات الثقافية، ويعدون من الجيل الثاني المؤسس والمطور في بريطانيا. حاولت في عام 2007 م نقل تجربة الدراسات الثقافية إلى الجزائر، حيث اتّصلت حينذاك بصديقي الدكتور الطاهر حجار مدير الجامعة الجزائرية المركزية، والذي أصبح بعد سنوات وزيرا للتعليم العالي، ولقد أبدى حجار حماسا إيجابيا وأحالني للتنسيق مع أحد الأساتذة الذي قابلته وحدّثته عن هدفي، ولكنه لم يبد أي اهتمام بل عرقل المشروع قبل ولادته، وبذلك ضاعت فرصة غرس "تخصّص الدراسات الثقافية" في الجزائر بشكل أولي، وعلى مستوى جامعة الجزائر على الأقل. بعد شهور من هذا الحدث السلبي، دعاني الصديق الدكتور عبد الحميد بورايو لإلقاء درس على طلابه بالجامعة المركزية بالعاصمة للتعريف بالدراسات الثقافية، وقد فعلت وكان اللقاء معه ومع طلاّبه مثمرا ومحفّزا، ولكن الدرس الواحد لم يكن كافيا لنشر هذا التخصص نشرا واسعا على أسس نظرية وإمبريقية جادة، لقد كان الأمر في حاجة إلى حلقات دراسية مكثفة ولكن هذا لم يتحقق مع الأسف. هذا ما يحدث للكفاءات الوطنية عندما تعود من أوروبا / الغرب لكي تقدم شيئا ما للوطن. ولكن رياح ظروف أخرى سمحت لي بالتعرّف على الدكتورة زهية طراحة، الأستاذة بجامعة تيزي وزو، وبعد مناقشات دسمة معها حول النقد الثقافي، قامت هي بمبادرة بالغة الأهمية وبذلك تجسّد هذا التخصص، ربما لأول مرة في تاريخ منظومة التعليم الجامعي الجزائري، عن طريق إنشاء ماجستير في النقد الثقافي بجامعة تيزي وزو. ^ لنعد الآن إلى تاريخية تشكّل الدراسات الثقافية في بريطانيا، في هذا السياق ينبغي التوضيح أن ظهور هذا التخصص في بريطانيا، حسب تأريخ رائده ستيوارت هول كان في خمسينيات القرن العشرين وأوائل ستينيات ذلك القرن نفسه. ويرى ستيورات هول أنه من المهم فهم أن مفهوم الثقافة قد قدّم، ليس كجواب على سؤال نظري كبير، ولكن كجواب على مشكل سياسي كبير وعلى سؤال: ماذا حدث للطبقة العاملة تحت شروط الرّخاء الاقتصادي؟ ^^ بهذا نعرف أنّ ولادة الدراسات الثقافية مرتبطة بعدة عناصر أساسية، منها موقع الطبقة العمالية اقتصاديا وثقافيا وسياسيا، ضمن الشرط الرأسمالي في مجتمع طبقي ونتائج الحرب العالمية الثانية. يؤكّد ستيوارت هول أنه "كان على المثقفين البريطانيين والسياسيين على حد سواء مواجهة أسئلة حول طبيعة الثقافة الجماهيرية والمجتمع الجماهيري، وحول التغيرات التي كانت تحدث في مجتمع غني، ورأسمالي، ومتطور، ومصنَّع"، ثم يضيف نقطة جدا حساسة ومفصلية قائلا: "كل تلك الأسئلة كان يجب أن ترى على أساس أمريكي لأوّل مرة". ربما يتعين عليَّ أن أسرع الخطى وأختصر، وأقول بأن الدراسات الثقافية كانت عرضا ونتيجة للعلاقة السجالية والتناقضية بين ثقافة الطبقة العمالية وبين ثقافة الطبقة الوسطى والعليا والأرستقراطية داخل المجتمع البريطاني، في ضوء تأثير الثقافة الجماهيرية الوافدة من أمريكا. من هنا ندرك أن الدراسات الثقافية مرتبطة سياسيا أيضا ببرنامج ونضالات ورؤى اليسار البريطاني الجديد. في هذا السياق، ينبغي التذكير بالدور الذي لعبته "مجلة اليسار الجديد"، التي كان ستيوارت هول أحد أركانها المفكّرة. وزيادة على ذلك هناك تأثيرات ومرجعيات كثيرة أخرى وراء ولادة ونمو ظاهرة الدراسات الثقافية في مناخ التجربة البريطانية منها، على سبيل المثال، مجيء المهاجرين إلى المركز الإمبراطوري البريطاني، حيث حمل هؤلاء ثقافاتهم المختلفة عن الثقافة الانجليزية بشقيها العمالي والرأسمالي، الذي تمثله الطبقات العليا وما فوق العليا لبريطانيا الأصلية. إنّه بوصول هذه الثقافات الوافدة من الهامش المستعمر سابقا طرحت مسائل الهوية الثقافية، والتعددية الثقافية، والإثنيات وعلاقة كل ذلك بالسياسات. أشير هنا بسرعة أيضا، إلى مكوّن ممهّد مهم آخر ساهم في تشكيل هويّة الدراسات الثقافية، ويتمثل في النقد الأدبي الذي مارسه الناقد الإنجليزي اللامع ف. ر، ليفيس، هذه مجرد إشارات جد مختصرة وخفيفة . ^ والآن نطرح هذا السؤال: هل يمكن لنا تدشين الدراسات الثقافية ببلداننا التي ليس بها نفس اليسار الجديد ونفس الطبقة العمالية ذات الثقافة الخاصة بها، ونفس الطبقات العليا ذات الثقافات المختلفة عن ثقافة الطبقة العمالية، وكذلك في ظل غياب أي صراع طبقي حقيقي ينطلق من تباين المشاريع الأيديولوجية وتصادمها ضمن إطار التعددية الحزبية، ووجود إعلام مفتوح على تباين الأفكار والتوجهات والآراء التي تعبّر عن كل ذلك؟ وإذا أردنا أن نؤسّس دراسات ثقافية ذات خصوصية تدل علينا فكيف وبأي إطارات؟ ^^ يبدو لي أن الذي يحصل في الجزائر، مثلا، هو مجرد تقليد سطحي غير مدروس لنموذج الدراسات الثقافية كما هو في بريطانيا / الغرب، وأكثر من ذلك فلا بد من المصارحة على أساس أنّ معظم الذين يتحدثون هذه الأيام عن الدراسات الثقافية أو عن النقد الثقافي أو عن الدراسات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، لا يملكون الخبرة والجهاز النظري، ما عدا ما يطالعونه في كتب مترجمة ترجمة عرجاء، أو في مقالات يكتبها أناس يردّدون مفاهيم ومصطلحات لا يفهمون تاريخيتها والخلفيات الفلسفية التي صاغتها وهلم جرا. ^ هل يمكن الحديث عن النّقد ما بعد الكولونيالي في ساحتنا النقدية العربية عموما والجزائرية خصوصا؟ ^^ أعتقد أنّ الإجابة على هذا السؤال لا تختلف عن جوابي عن سؤالك عن الدراسات الثقافية. أولا، ليس لدينا أساتذة درسوا تخصص الدراسات ما بعد الكولونيالي دراسة منهجية ومتخصصة، كما لا توجد لدينا مراكز لهذه الدراسات سواء على مستوى الجامعات أو على مستوى الوزارات المكلفة بدراسة ظاهرة الكولونيالية، وعلاقات القوة في مرحلة الاستقلال الوطني. وزيادة على ذلك فإن الساحة النقدية الجزائرية خالية من النقاد المتخصصين في هذا الحقل المعرفي والنقدي، بل هناك محاولات مبعثرة ذات طابع فردي محدود. والحال، فإن الدراسات الكولونيالية / ما بعد الكولونيالية تستند إلى جهاز نظري مشتق من الفلسفة والاقتصاد السياسي والأنثروبولوجيا والاثنوغرافيا، وغيرها من الأجهزة النظرية الأخرى، وكل معالم وأسس هذا المتن النظري، لم ينضج بعد في الحياة الثقافية الجزائرية المغلقة على نفسها. إنّه لا يمكن "تشغيل" المنظور النقدي لدى فرانز فانون بدون هضم الفلسفة الهيجلية والهيدغرية والوجودية، إضافة إلى التحليل النفسي والطب العقلي. وهنا نتساءل: كيف يمكن تحريك فكر فانون في الجزائر لنقد بؤر موروث الاستعمار الفرنسي، أو تجليات هذا الموروث وإعادة إنتاجها في الجزائر من طرف الجزائريين مثلا، بدون الإحاطة بفلسفة جان بول سارتر وبخاصة في كتابه "نقد العقل الجدلي"، حيث خصص حديثا عميقا حول مشكلات العنف والهوية في المجتمع المستعمر، وفي المجتمع الرأسمالي الاستعماري المتمثل في فرنسا؟ وكيف يمكن فهم نظرية فرانز فانون في العنف بدون الإلمام بنظرية العنف عند المفكر الفرنسي جورج سوريل الذي عاش في مستغانم، وكذا السجال الخلافي الذي شنّته الفيلسوفة حنه أرندت ضد نظرية فانون وسارتر معا في العنف؟ علما أن هذا السجال لم يشارك فيه في الجزائر حتى من أنجز أطروحة الدكتوراه حول أعمال أرندت نفسها. كيف يمكن ذلك ولا توجد دراسات جدية لكتابات مفكرين فرنسيين وقفوا إلى جانب الجزائر خلال حرب التحرير أو كتابات فلاسفة ومفكرين فرنسيين عاشوا أو خبروا التجربة الكولونيالية في الجزائر أمثال ليوطار ولوي ألتوسير، وسيمون دو بوفوار، وسارتر الذي ترك وراءه عددا كبيرا من دراسات ومقالات تصب في مسار حركة التحرر الجزائري..إلخ. لا شك في أنّ هناك كتابات وشهادات تاريخية حول فترة الكولونيالية عندنا وعند جيراننا وفي المشرق العربي، كما توجد مراجعات لمضامين الكتابات الأدبية الاستعمارية، ولكن هذه لا تشكّل جميعا ما نصطلح عليه بتحليل الخطاب الكولونيالي كما فعل المفكر إدوارد سعيد، الذي أعتبره ذات مرجعية نظرية فكرية تكوينية متعددة المشارب ولكنها تتميز بأنها أوروبية / غربية محضة. فإدوارد سعيد يمرّر موافقه من خلال منظورات نظرية ومعرفية مستقاة من التراث الفكري الغربي بشكل عام، ولذلك أعتبره مفكّرا غربيا من حيث التكوين النظري، ومفكرا عربيا فلسطينيا من حيث المواقف فقط. ^ هل وجود النّقد ما بعد الكولونيالي يوجب بالضّرورة وجود أدب يحمل نفس الصفة؟ ^^ سؤال مهم فعلا، وسوف أتوقّف عنده بعجالة وآمل أن أناقشه باستفاضة لاحقا. في الحقيقة، لا توجد علاقة حتمية بين الاثنين ظاهريا ولكن في العمق، فيمكن القول بأن وجود النقد ما بعد الكولونيالي يفترض وجود ثقافة كولونيالية والأدب عنصر فقط من هذه الثقافة. فالنقد ما بعد الكولونيالي لا ينحصر عمله في تفكيك النصوص الأدبية فقط، وإنما يناقش ويحلّل نقديا ما يسميه الناقد البريطاني ريموند وليامز (وهو أحد روَاد الدراسات الثقافية) ببنية الشعور، وما يصطلح عليه أنطونيو غرامشي بالكتلة التاريخية، وما يطلق عليه لوي ألتوسير بتضافر البنية التحتية والبنية الفوقية، أو يسميه غولدمان برؤيا العالم المضمرة في تضاريس الفكر والفن، ومختلف أشكال التعبير الثقافي والأدبي. فالنقد ما بعد الكولونيالي يدرس هذا الكل بما في ذلك الأدب، ربما يكون الأدب والفنون بما في ذلك المعمار الأشكال التي يعبر من خلالها المستعمرون (بكسر الميم) عن ذواتهم الاستعمارية. ففي الأدب والفنون نعثر على تمثلات المستعمر للمستعمر حتى عندما تكون الرواية أو القصيدة مجرد تخييل بطريقتين: الأولى هي أنه حينما يكتب الروائي الاستعماري سردية خالية من الإشارة على الشرط الاستعماري، فذلك يعني أنه يتهرّب عن التعبير عن موقفه وتجربته المعاشة في ظل الاستعمار، والثانية حينما تظهر لنا عندما يعوّض مواقفه وتجربته الاستعمارية في إنتاجه الأدبي بعوالم تقفز على الكلية التاريخية، كنتاج لحياة الناس باللجوء إلى انتقائية تنكر أو تلغي الأجزاء المكوّنة لهذه الكلية .