يعتبر المفكر الفرنسي الراحل بيير بورديو (1930-2002) ، الأستاذ في الكوليج دو فرانس سابقا ، من المفكرين البارزين في الساحة الفكرية الفرنسية والعالمية المعاصرة. من مؤلفاته نذكر: 1- سوسيولوجيا الجزائر (1961) 2- الجزائريون (1962)، 3- العمل والعمال في الجزائر (1963)، 4- نزع الجذور، أزمة الفلاحة التقليدية في الجزائر (1964)، 5- الطلاب وتعليمهم (1964)، الورثة، الطلاب والثقافة (1964)، 6- حبَ الفن، المتاحف وجمهورها (1966)، 7- إعادة الإنتاج: في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم (1970)، 8- مختصر نظرية الممارسة (1972)، 9- السيطرة الذكورية (2002) وغيرها من الكتب الكثيرة التي تشكل في مجموعها معمارا نظريا وتطبيقيا مهمَا تركه بورديو خلفه للساحة الفكرية الإنسانية. كما نرى من عناوين مؤلفات بورديو، فإن فضاء الجزائر يمثل ركيزة أساسية لعمله الفكري. وبالفعل فقد تمكَن بورديو عالم الإثنوغرافيا و الاجتماع، الذي أجرى أبحاثه الإثنوغرافية الأنتروبولوجية المتميزة في جزء من المنطقة الأمازيغية وهي "القبائل الكبرى" بالجزائر أثناء الحقبة الاستعمارية الفرنسية وبعدها من إدخال تعديلات وتغييرات حاسمة على مفاهيم الحقل السوسيولوجي والإثنوغرافي وجهازيهما النظريين. من هذا الفضاء استخلص بيير بورديو عدَة مفاهيم ونظريات متميزة منها "الهابتوس" و«العنف الرمزي" و«الرأسمال الرمزي"، و«الحقول الاجتماعية" و«الانعكاسية"، ومن ثمّ سحب هذه المفاهيم إلى منطقة النقاش الفكري في الغرب، وصوَب بواسطتها النظريات الفلسفية للبنيوية في الفكر الفرنسي والغربي. بالنسبة ل«بيير بورديو" فإن النظريات السوسيولوجية المؤسسة على التمركز الغربي في حاجة ماسة إلى التفكيك النقدي، وهكذا نجده يعلن موقفه النقدي بشأن الجهاز النظري للبنيوية المتمركز غربيا، والذي طبقه علماء الإثنوغرافيا وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا الغربيين تعسفيا على مجتمعات العالم الثالث المختلفة عن المجتمعات الأوروبية / الغربية من حيث التاريخ والثقافة والمعتقدات. في هذا الصدد قال بورديو ما يلي: "إن خطأ البنيوية هو أنها كانت تنظر إلى الحوادث من خلال الملاحظين بدلا من النظر إليها من خلال عيون السكان الأهالي". نقد التمركز الأوروبي ويعني بورديو أنه لا ينبغي فرض النظرية التي انبثقت من بيئة ثقافية معينة ومغايرة على بيئة أخرى لها وضعها وشروطها المختلفة ، ونفهم من محاجة بورديو أن النظريات البنيوية في طبعتها المتمركزة غربيا ترتكب خطأ جسيما يتمثل في فرض قواعد ومفاهيم مسبقة من طرف دارسين ومنظرين أجانب، لدراسة مجتمعات لا تنطبق عليها تلك القواعد والمفاهيم. في دراساته المكرسة للمجتمع القبائلي (الأمازيغي) بالجزائر تمكن "بورديو" من تقديم مفاهيم ونظريات لها تأثير متميز على الدراسات الإثنوغرافية والأنثروبولوجية وعلى علم الاجتماع في عصرنا. من بين هذه المفاهيم التي يلحَ على ضرورة استخدامها في دراسة الظواهر الثقافية والاجتماعية، مفهوم فاعلية الممارسة practice The الذي يعني به " أن الفاعل الإنساني يتخذ القرارات ويحركه جسده بارتجال منظم وذلك مثلما هو الحال في موسيقى الجاز". قلب النظرية الماركسية و يحيلنا مفهوم الممارسة عند المفكر بورديو إلى سبر مدى تناقض هذا المفهوم ذاته مع النظرية. وفي هذا الخصوص يرى أن الفاعل الإنساني يتخذ القرارات التي يكتسب الإنسان بواسطتها صفة الفاعل التاريخي الذي يغير التاريخ ويغيره التاريخ أيضا. يفهم بورديو "الممارسة " على أنها النظرية، وهي تعمل في الميدان، وتصحح أو تعدل نفسها أثناء ذلك. بهذا الموقف الفكري يبتعد بورديو عن الإقحام التعسفي للفرضيات والنظريات التي يتأسس عليها جزء من الفكر الفرنسي/الغربي في مجال علم الاجتماع والإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا. وهنا نفهم أنّ بورديو يقف ضد "المعيارية " الجاهزة مسبقا. في هذا السياق نستطيع القول إنَ تجربة "بورديو" الجزائرية قد منحته أفقا فكريا نظريا جديدا استعمله لنقد بعض المسلمات النظرية لعصر التنوير الأوروبي التي تزعم أن فكر السكان الأهالي في الفضاء المستعمر فكر غير عقلاني. وبالفعل فإن نقد بورديو للأحكام التعسفية المتمركزة غربيا، وخاصة في ظل الاحتلال، يعد نقلة نوعية داخل خطابي الإثنوغرافيا والسوسيولوجيا الغربيين. لا شك أن الكثير من المفاهيم والأفكار الجديدة المذكورة آنفا قد استقاها "بيير بورديو" من دراساته الميدانية للمجتمع الجزائري، ولكن هذا لا يعني أنه غير مشبع بتقاليد الإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع النابعة من الثقافات الأوروبية الغربية، بل هو مستوعب لها ومتمرس عليها، بل طالع من صلبها. أستطرد هنا قائلا إن تجربة بورديو الثقافية الميدانية في الجزائر، قد حررته من القوالب النظرية المعيارية وزودته بمنظورات جديدة غير معتادة في فضاء تقاليد التيارات الفكرية الفرنسية الأوروبية. وفي هذا الصدد توضح الدارسة "بريجيت فولر" في كتابها "بيير بورديو والنظرية الثقافية"، أن " إدراك أعمال بورديو حول الفنَ والاستقبال الثقافي ممكن فقط إذا قمنا بالتحليل المقارن الذي تتكئ عليه كل أعماله. إن طفولته في المنطقة الفلاحية بمقاطعة "سبييرن" في فرنسا، وكذلك الزمن الذي قضاه كمتخصص في الأنثروبولوجيا في منطقة القبائل بالجزائر، قد شكلت تحليله لعمليات الانتقال من الأشكال ما قبل الرأسمالية إلى الأشكال الرأسمالية وأنماط تمايزات سيطرة الحداثة." التأثير المعاكس وتضيف فولر قائلة: "إن بورديو في دراساته الجزائرية يبيّن الشروط القبلية التاريخية / The historial apriori conditions الضرورية للحقول الثقافية المتخصصة والمستقلة". وتعني فولر أن أعمال بورديو المكرسة للجزائر قد فتحت مجالا ومنطلقا فكريين جديدين بعيدين عن المادية الميكانيكية وعن المادية التاريخية المغرقة في التفسير المادي أحاديّ البعد لحركة التاريخ في المجتمع . وهكذا تصنف هذه الدارسة كتابات بورديو على أساس أنها تقف خارج " التقليد الاستشراقي لمكسيم رودنسون"، ومن هنا يمكن القول إن الإنجازات التي حققها بورديو قد ساهمت على نحو غير مباشر في نقد مواقف التمركز الاستشراقي الأوروبي / الغربي في مجالات علم الاجتماع، والأنتروبولوجيا والإثنوغرافيا. إلى جانب ما تقدم تلاحظ بريجيت فولر أن بورديو قد عالج في مؤلفاته قضية المرأة في المجتمع الجزائري على نحو مختلف عن المعالجات التي كرستها الأكاديميات الأوروبية الغربية. وفي هذا الخصوص نجد بورديو يحاجج أنه "رغم أن موقع النساء في داخل قبيلة الشاوية (منطقة الأوراس) كان موقع التابعة على نحو متطرف، غير أنهن يمتلكن تأثيراً مشتقاً من تضامنهن الرائع′′. وحين يناقش بورديو مسألة الحجاب نراه يصرَح: " إن الذي فرض الحجاب، والعزل على النساء داخل المنزل، لا يعود إلى الأعراف التقليدية، وإنما يعود إلى الممارسات الحضرية الجديدة والزحزحة الثقافية ". وفي هذا نجد بورديو يختلف مع تأويل فرانز فانون الذي نفى وجود الحجاب كدال Signifierعازل للمرأة الجزائرية عن الرجل بل فهو يحاجج أن الحجاب لعب دورا مقاوما لممارسات الاغتصاب الكولونيالي من جهة، وألية كفاحية تخفي المرأة الجزائرية أدوات الكفاح المسلح التي تنقل إلى المجاهدين. إن الاختلاف بين نظرة فانون ونظرة بورديو إلى الحجاب أيام حركة التحرر الوطني لايعني أن بورديو لا يلقي باللوم جزئيا على علاقات الاستعمار التي همشت المرأة في هذا المجتمع الكولونيالي. في دراستها المذكورة آنفا تقتفي "بريجيت فولر" تأثير المجتمع الجزائري على تشكيل فكر بيير بورديو، وتلفت الانتباه إلى أن مفاهيم كثيرة منها مفهوم "الرأسمال الرمزي" و«الشرف الاجتماعي" قد لعبت دورا محوريا في بناء عمارته الفكرية داخل الأفق العام للفكر الفرنسي المعاصر. وهكذا ندرك أيضا أنّ مؤلفات بورديو وإلى جانبها عدد كبير من الكتابات الفرنسية الأخرى قد تأثرت عميقا بالمجتمع الجزائري المُسْتعْمَر، ونشير مثلا إلى كتابات "جاك بيرك"، و«فيدال نتاكيت" و«روجيه غارودي"، و«جان بول سارتر"، و«جان فرنسوا ليوطار"، و«هيلين سيكسو"، و«لوي ألتوسير"، و«جاك دريدا" وبول ريكور ، وميرلو بونتي وغيرهم كثير. لاشك في أن كل هذه الأعمال توفر وتفتح في مجملها آفاقا وإمكانيات نظرية جديدة للنقاش الفكري/الفلسفي في عصرنا، وعلى هذا الأساس يمكننا أن نتحدث عن " التأثير المعاكس " الذي مارسه المجتمع الجزائري على الثقافة الفرنسية ضمن شرطي الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، وأنه من دون دراسة وإبراز هذا التأثير فإن الفكر الفرنسي المعاصر لن يفهم إلا من زوايا متمركزة أوروبيا وغربيا وفرنسيا. الرأسمال الرمزي أنظر الآن بعجالة في مفهوم "الرأسمال الرمزي" الذي ابتكره وكرسه "بيير بورديو" في كتاباته عن الحياة الاجتماعية والثقافية الجزائرية، وأصبح فيما بعد جزءا أساسيا في القاموس النقدي والفكري والثقافي لديه، ولدى عدد كبير من الدارسين والنقاد الغربيين ،وكذلك محمد أركون الذي يستعير من بورديو و فوكو وغيرهم كثيرا من عناصر جهازهم النظري الذي "يجيشه" لتفكيك البُنى المضمرة والمعلنة في الثقافة والتأويلات التي أُعطيت لها في بلداننا بشكل خاص . في تحليلها لمفهوم الرأسمال الرمزي عند "بورديو" تؤكد الدارسة بريجيت فولر أن " كلا من المجتمعات ما قبل الرأسمالية والرأسمالية قد نظمت على أساس الرأسمال الرمزي". وتلخص فولر عناصر بنية الرأسمال الرمزي التي استنتجها بورديو من المجتمع الجزائري كالتالي: "فالجزائريون يمتلكون إحساسا صارما بالشرف، والشهرة والكرامة، وهذه العناصر منظمة بواسطة التقسيم الجنسي للعمل. إن الشرف، وليس تراكم المال أو الرأسمال، هو الذي يدفع بهم ويحركهم". إن هذا الاستنتاج يؤكد عليه بورديو هكذا : " إنّ إحدى خصائص المجتمع الجزائري تبدو في أن البنية الثقافية الفوقية وعنصر الإحساس بالشرف والكرامة جزء منها هي التي تحرك التاريخ داخل هذا المجتمع". يعني هذا أنّ بيير بورديو يريد بشكل غير مباشر أن يعارض النظرية الماركسية التقليدية، التي تعطي الصدارة في عملية تحريك التاريخ للبنية التحتية،أي للرأسمال الاقتصادي. على ضوء هذا التحليل يدرج بورديو مفهوم الرأسمال الرمزي المتمثل في البنية الثقافية المذكورة آنفا ضمن إطار القوة التاريخية التي تبني الذات في التاريخ. إنه بهذا يطرح مجددا إشكالية علاقة تضافر البنيات التحتية والرأسمال الرمزي (الذي هو واحد من العناصر الأساسية للبنية الفوقية) للنقاش في ساحة الفكر المعاصر بعيدا عن الميكانيكية الماركسية التقليدية. على أية حال فإن هذا المفهوم (أي مفهوم الرأسمال الرمزي) الذي بلوره "بورديو" يحتاج إلى تحليل مفصل وخاصة في علاقته بالزمن والممارسة وأشكال المعمار، وهي قيمة مركزية ذات أهمية قصوى لفهم بنية المجتمع الجزائري، علما أن مفهوم "الرأسمال الرمزي" كرسه بورديو في كتاباته قد اشتقه من تحليله للحياة الاجتماعية والثقافية الجزائرية. وفي تقديري فإن علاقة فكر بورديو بالجزائر قد أفضت إلى إدراج عامل الشرف ضمن نطاق الأخلاقيات وليس ضمن إطار التزمت الذي يلحق به تعسفيا البُعد الجنسي في أغلب الدراسات الأجنبية أو العربية . الشرف الاجتماعي في دراسته الشهيرة التي تحمل عنوان "المنزل القبائلي أو العالم معكوساً" يلاحظ "بورديو" أن النقص الذي كان يعاني منه المجتمع الجزائري بشأن التحكم في الطبيعة، قد تم تعويضه بالتنظيم الاجتماعي"، كما أبرز أن المجتمع القبائلي الجزائري يتميز "بالتنظيم الديمقراطي" وبخاصية "الشرف الاجتماعي" ويسمى هذا الأخير نمطا من أنماط الرأسمال الرمزي كما ذكرنا سابقا. حسب تحليل "بريجيت فولر" فإنّ "الشرف الاجتماعي" في المجتمع الجزائري يأخذ مكان "تراكم الرأسمال الاقتصادي" الذي هو خاصية نجدها " في نمط الإنتاج الرأسمالي، وعلاقات الإنتاج الرأسمالية في المجتمعات الحديثة والمعاصرة". وهكذا نفهم أنّ بورديو يلجأ إلى منظور نظري مركَب من "البنية التحتية " و«البنية الفوقية" لتفسير تاريخية ومحركات المجتمع الجزائري. أعتبر هذا منعطفا يسعى إلى قلب النظرية الماركسية التقليدية التي تعطي الأولوية للبنية التحتية لتفسير تاريخ أيّ مجتمع بغض النظر عن خصائصه المختلفة وفرادته التي تتطلب وجهة نظر نظرية متطابقة معه. وبهذا الصدد ينبغي التوضيح أن مصطلح " الشرف الاجتماعي" عند "بيير بورديو" لا يعني المواقف والممارسات الأخلاقية فقط، وإنما يعني كذلك المواقف الثقافية وعلاقات العمل ، وعلاقات الإنتاج في المجتمع الجزائري الذي يختلف كليا عن بنية ومنطق المجتمعات الرأسمالية الغربية وأسسها وفي المقدمة المجتمع الفرنسي. بالنظر إلى هذا الاختلاف فإننا نخلص إلى التأكيد على أن بيير بورديو لا يركز في تحليلاته على أولوية البنية الاقتصادية وتوابعها المادية فقط، وإنما يركز بقوة أيضا على البنية الفوقية منها الوازع الاجتماعي والروابط الثقافية باعتبارها بنية النسيج العام للمجتمع الجزائري ، وبذلك ينتصر بورديو للأطروحة التي تقول بالكتلة التاريخية عند المفكر أنطونيو غرامشي التي تؤكد على التضافر المادي والثقافي في صنع التاريخ وتشكيل الذوات والهويات. إن التأكيد على السجل الرمزي عند بورديو لا يعني بطبيعة الحال السقوط في النزعة المثالية، لأنه لا يقصي في تحليلاته ، لنموذج الواقع الجزائري ، قوة العوامل المادية في حركة التاريخ وبناء الذوات أيضا.