رصيد الحماية المدنية الجزائرية وإرثها الانساني، لم يَكُ وليد اللحظة ولا محض صدفة ولا صنيعٌ خارجي، بل هو نِتاج تراكمات عقود من التجارب والاستحقاقات التي أنتجت لنا مؤسّسة وطنية، أثبتت حضورها القوي على الصعيد المحلي الإقليمي والدولي، فبرزت بتقديم أعمال إنسانية جليلة على قدر عالٍ من الاحترافية والتميّز، حتى بات يُشار لها بالبنان. كانت للحماية المدنية إلى جانب المؤسّسة العسكرية اليدُ العليا في ولايات الجنوب أيضاً، واللتان عمِلتا على تأمين المواطنين وإجلائهم وحماية ممتلكاتهم خلال مواسم الفيضانات وحوادث المرور، كما ساهمت الحماية المدنية في البحث عن المفقودين في الصحراء وإسعاف المهاجرين الوافدين من دول الجوار، في مشهد إنساني لا يُعير بالاً للعرق ولا اللون ولا الدين، وهو دَيدَنها منذ تأسيسها سنة 1964. أدوارٌ كبيرة ومهام إنسانية متعدّدة أخذتها الحماية المدنية على عاتقها، جعلت منها سنداً للعديد من المؤسّسات والشركات الوطنية والأجنبية في تأمين منشآتها ومقارها، حيث تعمل على حماية المرافق الطاقوية الحيوية والمواقع الصناعية والتدخل لتقليل هامش الخطر والحد من الخسائر البشرية والمادية حمايةً للاقتصاد الوطني. أدركت الحماية المدنية منذ البداية أهمية مواجهة الأخطار الطبيعية والكوارث والحوادث المهنية في مختلف مناطق الوطن، فعملت على توفير أحدث المعدّات والوسائل التقنية الحديثة وضمان تكوين نوعي ل "ملائكة الأرض"، وتأمين كلّ احتياجات وحدات التدخل حتى في أقصى نقطة من جنوبنا الكبير. تبنّي هذه الاستراتيجية الاستشرافية في تسيير الكوارث والحوادث الجسمانية، ألقت بظلالها على وحدات الحماية المدنية ومراكزها المتقدّمة عبر ربوع الوطن، حيث مكّنت الحماية المدنية بتندوف من الاضطلاع بمهام إنسانية تجاوزت في مفعولها حدود الوطن، إذ يشارك عناصرها بشكل مستمر في عمليات إجلاء ضحايا الألغام الأرضية في الجزء المحرّر من الصحراء الغربية وإسعاف المرضى الصحراويين في تلك المناطق، والذين يصلون إلى مطار تندوف عبر مروحيات تابعة للأمم المتحدة. ولم تكن الحماية المدنية بتندوف بمنأى عن الكوارث الطبيعية الكبرى، فالأمطار الطوفانية التي ضربت مخيمات اللاجئين الصحراويين والتي استمرت لأسبوعين كاملين خريف سنة 2016، دفعت أعوان الحماية المدنية بتندوف إلى التدخّل من أجل تجفيف البِرك وفتح مسارات الأودية لتسهيل مرور المياه، وهي الحوادث التي أدّت إلى تأسيس أول وحدة للحماية المدنية في الجمهورية الصحراوية تحت إشراف وتأطير من نظرائهم بتندوف. تمكّنت الحماية المدنية بتندوف من إدارة أزمة كوفيد -19 بكل احترافية، تاركةً انطباعاً جيداً بين صفوف سكان مخيمات اللاجئين الصحراويين ومواطني الولاية، حيث استطاعت إدارة دفّة الأزمة وتحويلها إلى سانحة لتوفير المزيد من التكوين لنظرائهم في الجمهورية الصحراوية، وهو البرنامج الذي لا يزال ساري المفعول إلى اليوم، من خلال عقد لقاءات دورية بين المدير الولائي للحماية المدنية بتندوف والمدير المركزي للحماية المدنية الصحراوية يتم خلالها تبادل التجارب والخبرات وتعزيز فرص التعاون المشترك بين المؤسّستين. التكوين النوعي للحماية المدنية بتندوف وتحكّمها الاحترافي في التقنيات الحديثة، شكّلا صكاً على بياض لتسيير المخاطر الكبرى والتكفّل بالحوادث المهنية، حيث تشمل دائرة اختصاصها مئات الكيلومترات من إقليم الولاية الممتد من شناشن 600 كلم جنوب شرق تندوف إلى واد الدورة على مسافة 400 كلم في شمالها الشرقي، وهي المساحة التي تمكّنت فيها الحماية المدنية من إثبات وجودها من خلال التدخل لإجلاء المرضى وإسعاف البدو الرحل ونقل المصابين في حوادث المرور الى عاصمة الولاية. هذه المجهودات التي تُحسب للحماية المدنية الجزائرية بتندوف، تعزّزت بإنشاء العديد من الهياكل والمنشآت والمراكز المتقدّمة التابعة للقطاع، كان آخرها إنجاز ووضع في الخدمة الوحدة الرئيسية التي حملت اسم المجاهد المرحوم محند الحسين آيت أحمد، وهو صرح عملياتي بمواصفات عالية يشكّل لبنة أخرى تُضاف إلى مسار بناء مؤسّسة قوية قادرة على مجابهة الأخطار والكوارث الكبرى، يدفعها في ذلك تسلّح أعوانها وضباطها بالمهنية العالية والتكوين النوعي والتحكّم الجيد في تقنيات وأساليب التدخّل. الأعمال الإنسانية النبيلة للحماية المدنية بولايات الجنوب وتفانيها في أداء أدوارها المنوطة بها، وتموقعها في الواجهة الجنوبية للبلاد في مجابهة حركة الهجرة السرية والكوارث الطبيعية الكبرى الناجمة عن الفيضانات، شكّلت منها ذراعاً إنسانية أخرى أدركت حجم المسؤوليات الملقاة على عاتقها، فأخذت بزِمام المبادرة في سبيل حماية الأشخاص والممتلكات وتأمين الاقتصاد الوطني.