في فلسطين الماضي والحاضر يلتقيان، وحدة الزمن تتلاحم مع وحدة المكان، لا يحتاج الدم إلى وقت ليزهر، ولا يحتاج السجن إلى بيان بليغ لتتحرّر الإرادة والاصغاء إلى صوت يحرّر الفجر من ملابسه الفولاذية. في شهر نيسان من كل عام وفي ذكرى يوم الأسير الفلسطيني وفي ذكرى استشهاد القائد خليل الوزير ابو جهاد وفي ذكرى اعتقال مروان البرغوثي يلتقي الشهيد خليل الوزير أبو جهاد بالأسرى المعتقلين القابعين في سجون الاحتلال الصهيوني، يقوده دمه السماوي إلى هناك، هي عادة الشهداء، يلملمون أجسادهم ويعودون، فالوعي بالمقاومة لا يموت، المقاومة القادرة على الانتصار، وكان عنوان الاجتماع هذه السنة: لنستمر في الهجوم، فالصهيونية الدينية والفاشية الصهيونية المتنامية أغلقت كل الأبواب، لا بد من حجارة أكثر ومطارق أكثر، لا بد من كتائب ورصاص، لا بد من ملح وبارود، لا بد من وحدة وعي جماعي للحفاظ على ما تبقى من حياة. الشهيد خليل الوزير يجتمع مع القائدين الاسيرين وليد دقة ومروان البرغوثي في سجن نفحة الصحراوي، لم تستطع كاميرات المراقبة والحراسة المشدّدة أن تكتشف القادم من الحياة الآخرة إلى الحياة الحاضرة، كأن شبح الشهداء يؤكد تطابق المستحيل الفلسطيني مع الواقع المشتعل، أرواح الشهداء لا تعترف بالجغرافيا المنكسرة تحت اسنان الجرافات الاستعمارية، لا تعترق بهذه التقسيمات التي تسعى إلى تحويل كل الشعب الفلسطيني إلى سجناء، تعود أرواح الشهداء من التاريخ وتكتبه ألف مرة على الرصيف، فبمدى ما يحرمون أجسادنا يقتلونها أو يقيدونها يقوون روحنا، ولا غرابة أن في السجن منطقة حرة في أعالي النشيد. المجرم الصهيوني بن غفير وعصابته التي تتربّع على الحكم في كيان الاحتلال، لا زالوا يطاردون ثلاثي الرعد: أبو جهاد ومروان البرغوثي ووليد دقة، زار هذا المجرم سجن نفحة لإلقاء القبص على المجتمعين الاحياء منهم والأموات، تأكد أن الزنازين ضيقة وبائسة، وتأكد أن الماء قليل والهواء، وتأكد أن أرض السجن مسلحة بالإسمنت فلا يهرب الأسرى مرة أخرى، وتأكد أن المرضى سيموتون قريبا بعد أن استفحلت الأمراض في أجسادهم وأقر قانون عدم تقديم العلاج للأسرى المرضى، وتأكد أن المحكومين بالمؤبدات سيموتون في النسيان، وكل قادم جديد سيموت وفق قانون الإعدام. المجرم بن غفير تأكد أن مروان البرغوثي هنا في السجن وليس في رام الله، وأن وليد دقة لازال جثمانه محتجزا في الثلاجة الباردة بعد أن قتلوه بمرض السرطان وسنوات المؤبد الطويلة ولم يعد يكتب بالدم على قضبان النوافذ ليضيء الشمس بشعاع الكلام. سيمحو هذا المجرم السجناء كما أراد أن يمحو قرية حوارة، لماذا هم على قيد الحياة؟ كيف استطاعوا الصمود الفذ في زنازينهم وفي معارك الدفاع عن هويتهم ووطنهم كل هذا الوقت، يتصرفون كأنهم أحرارا في قلاعهم المحاصرة والمسيّجة، أرى ظلالهم في القدس وفي كل صلاة، جَرِدوا الأسرى من رمزيتهم ومن مكانتهم ومن شرعيتهم كأسرى حركة تحرر وطني، يلقي بن غفير التعليمات الحاسمة، جردوهم من كل شيء، استولوا على أموالهم وأغلقوا حساباتهم، اهدروا حياتهم قبل الافراج عنهم، وإن خرجوا لاحقوهم، لا احتفالات باستقبالهم لا رايات ولا اعلام ولا شعارات ولا صور ولا أغاني، لا اريدهم ان يعودوا إلى الغد، الأسرى يملكون سلاحا لا نملكه ولا نعرفه، الأسرى يخترقون دولتنا الاسبارطية التي بدأت تتصدّع، الأسرى شطبوا الخط الأخضر ووصلوا إلى النقب واللد، الأسرى لا يعترفون باتفاقيات الهدنة، إنه خليل الوزير أبو جهاد، الفكرة والقنبلة والطاقة الروحية المتحركة، لا زال أبو جهاد هنا، لا زال مروان البرغوثي ينظم الخلايا ويتقن الإصابة في الميدان وفي الدرس، لا زال ينتج ثقافة المقاومة والحرية، ولا زال وليد دقة يكتب نصوصه لينفي السجن والظلم والاستعمار، لا زال قادرا على الخروج من جسده ليعطي حياته للجميع كحبة القمح حين تموت. ثلاثي الرعد يجتمع في سجن نفحة، خليل الوزير أبو جهاد، مروان البرغوثي ووليد دقة، جيش الاحتلال يحاصر سجن نفحة، هناك صيحات وانتفاضات ومقاومة عنيدة شرسة، في السجن لجنة وطنية موحدة، وفي الشوارع تتحرك المظاهرات، بيانات وتعليمات خارقة: القضية الفلسطينية هي الوعي التحرري وهي الفعل المقاوم، ومن حقنا إن نفعل بأعضاء اجسادنا ما نشاء، نزجها في عيون القتلة، نواصل السير في أضيق الممرات وأشد البحار هياجا، يقول مروان البرغوثي: ذاكرتنا ليست من ورق، نملك كل أسباب الصمود والحرية، دمنا هو لغتنا، ونسير إلى الإمام حتى في ساحات السجن المغلقة، هذا هو خطابنا، الأسير هو الرسالة وهو الشاهد والشهيد، المعذب والمبلغ عن التعذيب، المشهد والمشاهد، يقول وليد دقة: نقاوم سياسة طحن عقولنا وصهرنا تحت جنازير الحديد وأنظمة المراقبة والسيطرة سنظل نسيل في الزمن المطلق كالسهم نحو فلسطين. التقارير الأمنية الصهيونية مرتبكة، ثلاثي الرعد لا يزال يجتمع في سجن نفحة، الاسرى لا يريدون تحرير انفسهم فقط بل تحرير المستقبل أكبر سجين في العالم كما ورد في نصوص وليد دقة، والأسرى يسعون لإسقاط كافة الأقنعة التجميلية المخادعة عن الكيان الصهيوني في مشروع وطني تحرري شامل كما يقول مروان البرغوثي، تحدي براثن الاستعمار على قاعدة شعب واحد في كل مكان ومشروعا وطنيا تحرريا واحدا ومؤسسة وطنية واحدة، لا زال صوت مروان كالنبوءة وهو يقول أنا متفائل بزوال الاحتلال، وبأن فجر الحرية سيبزغ في بلادنا المقدسة مهما بلغت التضحيات ومهما اشتدت الصعاب، هذا صوتهم في تلك الصناديق الحجرية، أبو جهاد يعبئ الكلمة بالبارود، إنهم أولاده المحصنون بالوعي والانتماء والعطاء، هو مرجعية المقاتلين ضد الجلاد والطغيان. التقارير الأمنية الصهيونية تكتب: استطاع مروان البرغوثي أن يحوّل السجون إلى اكاديميات وجامعات ليس فقط للحصول على شهادات جامعية بل مقاومة ثقافية، الأسرى يحاربون الفراغ والعدم، يحصنون الهوية والقيمة العليا للإنسان وكرامته، يقصفوننا بنطف منوية، ينجبون الأطفال ويصنعون العائلات، أين القبب الحديدية، كيف جاءت الطفلة ميلاد ابنة وليد؟ بنى زمنا موازيا ليس فيه حواجز وسجون واحتلال عسكري، يكتب ليشفى من وباء العصر وهو الاحتلال، يختار حياة الحرية حتى في المكان الذي ليس له إبدا وهو السجن، مروان ووليد يؤسسان ويربيان حلما عظيما بل يؤسسان للحلم دولة. ثلاثي الرعد خليل الوزير أبو جهاد ومروان البرغوثي ووليد دقة يجتمعون في سجن نفحة غدا، لنستمر في الهجوم، الاحتلال الى زوال، قوة روحية ومادية لا يمكن اختراقها وان تعثر الواقع سيبقى القرار على صواب، انه الطيف الذي يحركه وليد دقة، وإنها ثقافة المقاومة التي يحركها مروان البرغوثي، وإنها العاصفة التي يحركها أبو جهاد أول الرصاص وأول الحجارة. بعد سبعة شهور من الحرب الإجرامية البشعة على قطاع غزة ثلاثي الرعد يجتمعون مع كل الأسرى، الذين قتلوا وأعدموا في السجون والمعسكرات، ومع الذين بترت أقدامهم وأيديهم، مع المشبوحين والمعذبين والمعزولين والمحرومين من كل وسائل الحياة الإنسانية والحماية القانونية، وهناك يخطون وثيقة إحياء الأجساد المحطمة، الخروج من تحت الانقاض وضغط القيود واختناق الأنفاس، الأجساد تضعف وتحاصر لكن الأفكار لا تموت، هناك ضوء يوصل الأحرار من رفح حتى جنين، ومن أراد الحرية عليه أن يعرف كيف يكسّر القيد ويزرع الوردة فوق جسد الصخرة، لن ننتظر أحدا، المستوطنون يحرقون البلد، الفاشية الصهيونية و الامبريالية تحرق غزة، لابد الآن من اختزال سنوات طويلة من الأزمنة السوداء في كلمة واحدة: الحرية.