كانت تردد دوماً وطيلة سنوات مقولة فلذة كبدها «إما الكرامة، وإما الشهادة». هكذا كان حال الحاجة الثمانينية «وداد يونس» والدة الأسير الفلسطيني المرابط القائد ماهر يونس (65 عاماً) الذي أفرجت عنه سلطات الاحتلال الصهيوني من سجن «أوهلي كيدار» بعد أن أمضى كامل مدة محكوميته البالغة 40 عاماً متنقلاً بين السجون والمعتقلات الصهيونية. وقبل أن يتوجّه إلى منزل عائلته في بلدة «عارة» الفلسطينية في الداخل المحتل، قام ماهر يونس بزيارة قبر والده الذي توفي عام 2008، دون أن يتمكّن من رؤية ابنه المعتقل. لكن حال وصول يونس إلى المنزل عانقته والدته الثمانينية لأول مرة منذ 40 عاما، وألبسته عباءة أبيه الذي فارق الحياة بعد 25 عاماً من اعتقاله. وجه القائد ماهر قبل يومين من إطلاق سراحه عبر رسالة تحياته إلى الشعب الفلسطيني المناضل، وعبّر خلالها عن شوقه لملاقاة الشباب الذي يهتف باسم فلسطين. ومما جاء في رسالته «أنتظر حريتي بكل حزن وألم، لأنني سأترك خلفي إخوتي ورفاقي الذين عشت معهم كل الصعاب والأفراح والأحزان، أغادرهم وقلبي وروحي عندهم، على أمل أن نلتقي قريباً ونحن جميعاً أحراراً». وتعدّ سنوات اعتقال الأسير ماهر يونس هي أطول فترة اعتقال متوالية يقضيها أسير في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة إلى جانب المحرر كريم يونس. من هو الأسير ماهر يونس؟ بعد اعتقال ابن عمه كريم يونس بأسبوعين، قامت قوات الاحتلال الصهيوني باعتقال ماهر يونس بتاريخ 18 كانون الثاني/ يناير عام 1983، بتهمة قتل جندي صهيوني. وأصدرت المحاكم الصهيونية حكما بالإعدام شنقا على ماهر، برفقة كلاً من كريم وسامي يونس، بتهمة «الخيانة»، حيث إنهم يحملون الهوية الصهيونية الزرقاء ويعتبرهم الاحتلال مواطنين صهاينة، ثم صدر بعد شهر من الحكم، تعديلاً يفيد بتخفيفه من حكم الإعدام إلى السجن المؤبد. وفي أيلول/سبتمبر من عام 2012، قامت السلطات الصهيونية بتحديد حكم المؤبد بأنه سجن لمدة 40 عاما. الأسير ماهر يونس الذي يبلغ من العمر 65 عاماً أمضى 40 عاماً في زنازين الفاشيين الصهاينة، وبهذا يكون ثاني أقدم اسير في العالم، بعد مانديلا فلسطين «نائل البرغوثي». جرى اعتقال ماهر يونس وهو شاب بعمر 23 عاماً قبل أن يتزوج، وبهذا يكون قد أمضى أجمل سنوات حياته في المعتقل، دون أن يؤسس عائلة. يونس كان محروماً حتى من رؤية أبناء أشقائه بقرار من المحكمة المركزية الصهيونية في مدينة الناصرة، التي رفضت أيضاً التماس سابق كان قد تقدم به يونس لرؤية والده وهو على فراش الموت، ليتوفى دون أن يراه أو يقوم بوداعه بعد سنوات من الانقطاع. سبق وأن خاض الأسير يونس إضرابا عن الطعام لمدة 10 أيام، في 25 شباط/ فبرايرا عام 2013، لتسليط الضوء على معاناة الأسرى في السجون الصهيونية، خصوصا أسرى الداخل الفلسطيني، الذين يُحرمون من صفقات التبادل. ماهر يونس الأسير القائد المحرّر الطاهر، كان شامخاً خلف القضبان، الحر الوفي، وكان أسد المرابطين في زنازين الفاشية الصهيونية، الذي صبر على التنكيل والتعذيب، بعد أن اعتقل شاباً بعمر الزهور، ذاب عمره لكنه رفض الانكسار، وأصر على تسديد فاتورة العز والإباء لأجل فلسطين بكل طيبة خاطر. ماهر يونس هو وجميع ورفاقه الأسرى سوف يظلون خناجراً مغروسة في خاصرة سلطات الاحتلال الصهيوني. أستمد القوة منه بعزيمة لا تلين، ومنذ 40 عاماً واظبت والدة الأسير ماهر يونس على زيارته كلما سمحت لها سلطات الاحتلال. تقول «في يوم الزيارة، كنت أخرج فجراً وأتوجّه إلى سجن نفحة، قبل أن يجري نقل ماهر إلى سجن النقب، وأعود للمنزل ليلاً» هذه الرحلة الشاقة تستغرق من الوالدة ساعات طويلة وهي على كرسيها المتحرك، ورغم ذلك لم تفوت فرصة واحدة لزيارته. وبعد أن نقلت سلطات الاحتلال الصهيونية ماهر إلى سجن النقب الصحراوي، أصبحت الزيارة بالنسبة للوالدة الثمانينية رحلة عذاب، إلا أنها قاومت مرضها بإصرار وإرادة وقوّة تسمدها من ماهر كما تقول. ومن منزلها ببلدة عارة في الداخل الفلسطيني، قضت والدة الأسير ماهر يونس الحاجة أم نادر، أوقاتها في متابعة أخبار المعتقلين والأسرى، تقيم صلاتها وتتضرع لرب العالمين أن يحمي كافة الأسرى والاسيرات، ويمنحهم الصبر والعزيمة للتغلب على السجان. وانتظرت يوم إطلاق سراح ماهر. تقول منذ اعتقال ماهر عام 1983 ولم يظل سجن إلا ووقفت على أبوابه الحديدية، وذاقت كل صنوف الألم والقهر والحصار من أجل زيارة ابنها. عاد ماهر إلى أحضان الحاجة أم نادر التي انتظرت اللحظة 40 عاماً، ليغمرها الفرح بعد أن نال منها المرض، وأقعدها فوق كرسي متحرك، ومنعها من زيارة ماهر منذ عامين. تضيف الوالدة «حياتي لم تكن لها معنى دون رؤية ماهر. كنت أسيرة معه، حتى تحطم قيد السجن واجتمعنا دون قضبان وسجان. تقول الوالدة الثمانينية أنها استمدت القوة من شخصيتها الصابرة والمؤمنة بالله وقدره، وبعدالة قضية الشعب الفلسطيني. وأوضحت أنها كانت تفتقد ماهر في الأعياد والأفراح والأتراح، لكن أقسى الأيام كانت يوم توفي زوجها وحرم ماهر من المشاركة بجنازته. وتتابع: «لكننا صابرون، وفلسطين ستبقى، فهذا جزء من حقها علينا، وهي على ما يبدو ساحة حرب إلى يوم القيامة. مرت عليّ هذه السنوات عصيبة وطويلة. كنت أحاول تعزية نفسي عبر الزيارات، وأحاول ألا أحزن، لأن الحزن واليأس ليسا من شيم الإسلام، ويجب ألا ينقطع الأمل والتفاؤل من رحمة الله، ويجب على الإنسان ألا يحقد على قدره». الأسرى القدامى يعرف في قاموس الحركة الاسيرة الفلسطينية أن الأسرى القدامى هم المسجونين في الفترة التي سبقت توقيع اتفاقية أوسلو التي أنتجت قيام السلطة الفلسطينية. كان الاتفاق بين السلطة والكيان الصهيوني على إطلاق جميع الأسرى القدامى دفعة واحدة، لكن السلطات الصهيونية أصرت على أطلاق سراحهم على أربع دفعات، أطلقت ثلاث دفعات وامتنعت عن إطلاق آخر دفعة من الأسرى وعددهم 30 أسيراً، نصفهم من مناطق الداخل الفلسطيني. حيث كان من المفترض إطلاق سراحهم في عام 2013. وهم كريم يونس، وماهر يونس، وإبراهيم ورشدي أبو مخ، ووليد دقة، وإبراهيم بيادسة، وأحمد أبو جابر، وبشير الخطيب، وإبراهيم اغبارية، ومحمد اغبارية، ويحيى اغبارية، ومحمد جبارين. وللأسرى القدامى حكايات وجع لا يبارح. معظمهم أمضى أكثر من 30 عاماً في المعتقلات. وجلهم أمضوا من عمرهم في السّجن أكثر ممّا أمضوا خارجه. ومنهم من ترك أطفاله صغارا ومنهم من كبر أبناؤه وتزوّجوا وأصبح جداً دون أن يرى أي منهم، ومن الأسرى من فقد والديه أحدهما أو كلاهما دون أن يلقي نظرة الوداع. ومنهم من نسي ملامح أصدقائه وجيرانه وأقربائه ومنهم من حُرم من زيارة الأهل. داخل السّجون نحلت أجسادهم في ظلّ الظّروف القاسية والمعاملة غير الإنسانية والاستفزازات من جانب السجّان، والقيام بحملات التفتيش والازعاج الليلية، وعزل الأسرى في الزنازين الانفرادية. هم رجال عاهدوا الله والوطن، ونذروا أرواحهم واعمارهم رخيصة للوطن الغالي وقضيته المقدسة. هم مفخرة الشرف وإيوان المجد. السجناء الأحرار ماهر يونس، القائد الأسير الذي انتصر على السجّان، أي كلمات يمكن لها أن تفيك حقك ورفاقك الأسرى، وأي مقالة تستطيع وصف تضحياتكم. ملح الأرض أنتم، عنواناً للعز والشرف والرجولة، وسوف تظل سيرتكم النضالية قناديل هدىً لمعاني الحرية والعطاء، ومشاعل حق لدرب النصر والاستفلال، ونشيداً فلسطينيا مكللاً برائحة الأرض. رجال عظام بهمم عالية، تنحني لهم القامات، الصامدين الصابرين في زنازين النسيان وظلم السجان. أنتم شامة على جبين فلسطين، وعنواناً واضحاً لكرامتنا، بوابة الانعتاق من الاحتلال وتحقيق حلم بناء الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. أنتم الأحرار في المعتقلات، ونحن الأسرى خارج السجون. مهما كتبنا وقلنا لن نفيكم ما تستحقون أيها الأبطال، إننا نسمو بكم، ومنكم نستمد العزيمة والأمل. ماهر يونس، الأسير المحرر الصامد الأبي المتواضع، لا يعرف المستحيل، ثابت على المبادئ والحق، لم تهز إيمانه الصعوبات وسنوات السجن. رفض الاحتلال وأعلنها صرخة في وجه الجلادين المستعمرين، وحطم قيود السجان بشموخه وثقته بعدالة قضيته. لا يقبل بغير النصر موعداً للحرية. حكايات تُدمي القلوب إن حكايات 7000 أسير فلسطيني في السجون الصهيونية، مؤلمة وقصصهم مؤثرة، ومعاناتهم مع السجن مضاعفة، وصمودهم خلف القضبان مفخرة لنا. يواجهون سلطات فاشية غاشمة، إلا أنها فشلت في كسر إرادتهم، والنيل من عزيمتهم. في العام الماضي ظل الأسير الفلسطيني وليد دقة ينادي لمدة أربعون دقيقة من خلف الزجاج العازل على والدته التي زارته في السجن دون جدوى، ثم حاول أن يتحدث معها عبر سماعة الهاتف لكنها ظلت صامتة. هذا حدث بعد انقطاع الوالدة عن الزيارة لمدة دامت ستة أعوام، فقد أصيبت الأم بمرض الزهايمر. ظل وليد ينادي والدته وهو يبكي، وهي تقف أمام الزجاج وتتساءل لماذا يقول لي الجميع هذا ابنك.. أنا لا أعرفه. الاسيرة المحررة أحلام التميمي الذي أصيب والدها أيضاً بمرض الزهايمر، ولم يتعرف عليها، تُبكيك دوماً إن استمعت لها وهي تسرد حكايتها. تقول إنها لم تشعر بالحرية بعد إطلاق سراحها لأن الحرية بمفهومها هي الذكريات مع الأب والأم. تضيف أنه خلال مناقشتها لرسالة الماجستير تذكرها والدها لمدة ثانيتين وناداها باسم التحبب الذي كان يطلقه عليها في صغرها، تقول حينها شعرت أنني حرة. إن تضحية الأسرى من أعظم وأنبل التضحيات، فهم الذين يضحون بحريتهم لأجل حرية شعبهم ووطنهم. لذلك هم الوجع في قلوب الشعب الفلسطيني، الذي يبادلهم الحب وبالحب والوفاء بالوفاء، ويستمد من صمودهم العزيمة والقوة. الشهداء الأحياء الكتابة عن قضية الأسرى الفلسطينيين في زنازين الفاشية الصهيونية، تشبه تلقي اللكمات على المعدة. ما أن تبدأ بهذا العمل الشاق، حتى يعتصرك الألم. ثم لا تجد بديلاً عن الاستمرار حين تستحضر صمود هؤلاء الشامخين في وجه الغطرسة الصهيونية. تكتب وكأنك تلوك لحمك. حين يضيق الكلام، تبحث الحروف عن وجع يشبهها، يدوّن سفر النوارس، ويجمع مفردات الوطن على الورق. رجال يبحثون في رثاء الصمت والخذلان، عن كوة ترمم أجنحة الحرية. يغسلون زمنهم بماء التحدي، الشهداء الأحياء. وحدهم يزدهرون بوردة الأمل على قاب نصر. هم وجع الخاصرة والقلب، هم الأحرار في المعتقلات، ونحن الأسرى خارج السجون. الحرية والإفراج العاجل عن جميع الأسرى، وجلاء الاحتلال عن أرضنا، وتحقيق الحلم الوطني بالحرية والاستقلال. وتحرر أرضنا من الاحتلال والعدوان. الحرية للأسرى الأحياء منهم والشهداء. حيث لا زال الكيان الصهيوني يحتجز جثامين 253 شهيد وشهيدة في مقابر الأرقام. و28 شهيداً محتجزاً في الثلاجات، إضافة إلى 58 شهيداً مفقوداً. فإلى متى ستبقى صرخات أمهات وذوي الأسرى بلا صدى؟ وإلى متى يبقى أنين وعذابات ومعاناة الأسرى غير مسموعة؟ وإلى متى يظل العالم صامتاً عن جرائم الكيان الصهيونى؟ لكم المجد أيها الشامخون في الزنازين. المجد لجميع الأسرى الفلسطينيين في السجون الصهيونية. السلام والتحية لأهلهم، ورفاقهم، وكل محبيهم، ومناصريهم.