كثيرة هي الأقلام الوطنية والأجنبية التي تناولت بشاعة المجازر اللاإنسانية في مثل هذا اليوم الذي أطلق عليه اسم "الثلاثاء الأسود" دراسة وتحليلا، المعرفة البعد التاريخي والوطني لمظاهرات الثامن ماي 1945، التي تعد بعثا جديدا ونقطة انطلاق لأسلوب جديد في النضال التحرري، حيث تصاعد وتعمق الاتجاه الاستقلالي، وتبلور الوعي السياسي لدى الطلائع الثورية التي آمنت بضرورة حمل السلاح كوسيلة فعالة لتصفية المستعمر كبديل أمثل لكل الممارسات النضالية السابقة. لقد قرر الشعب الجزائري أن يجعل من هذا اليوم موعدا للمشاركة الفعلية في الاحتفالات بيوم النصر امتثالا بشعوب العالم المحبة للسلام والحرية والخروج إلى شوارع المدن الكبرى والقرى للتعبير عن فرحته بانتهاء الحرب العالمية الثانية التي ساهم فيها الجزائريون بأبنائهم، بل أقحموا فيها كرها وسالت فيها دماؤهم من أجل حرية وسيادة فرنسا، فجاء موعد تذكير إدارة الاحتلال بحقهم في الحرية، وتأكيد رغبتهم في الانفصال عن فرنسا. وطبقا للأوامر الصادرة عن قيادة حزب الشعب الجزائري، نظمت مسيرات سلمية مستقلة عن المظاهرات الرسمية في بعض المدن والقرى، ووجهت تعليمات للمناضلين تحث على ضرورة استغلال كافة التجمعات الشعبية في هذه المظاهرات السلمية بما فيها الكشافة الإسلامية الجزائرية، مع ضرورة الالتزام باليقظة والحذر وضبط النفس في حالة الاستفزاز. وفي هذا السياق أكد الدكتور "شوقي مصطفاي" هذه الحقيقة باعتباره أحد الأعضاء البارزين في قيادة حزب الشعب الجزائري آنذاك قائلا: "أنا شخصيا حررت التعليمات التي أرسلت إلى المناضلين في جميع أنحاء الوطن، وأكدت على الطابع السلمي للمظاهرات"، ويؤيد هذا القول عمراني سعيد، وكان هو الآخر رفيق مصطفاي في القيادة، يضيف: "رفع العلم الجزائري أخذ منا وقتا طويلا في النقاش والمداولة، وأخيرا وقع الاتفاق على رفعه". لقد اتفقت مختلف المصادر بالرغم من تباين توجهاتها السياسية والإيديولوجية على أن المجازر الفظيعة لهذا اليوم، والتجاوزات القمعية في حق الجزائريين، هي ممارسات يندى لها جبين الإنسانية، إذ واجه المستعمر المظاهرة السلمية بعنف رهيب لذنب لم يقترفه الشعب الجزائري سوى أنه خرج كبقية الشعوب المحبة للسلام والحرية إلى شوارع المدن الجزائرية وقراها طالبا من فرنسا الاعتراف بحقه في الحرية وتقرير المصير، فكانت مكافأة إدارة الاحتلال ارتكاب مجازر رهيبة في كامل التراب الوطني، خاصة في مدن الشرق الجزائري، ساهمت فيها قوات العدو البرية البحرية والجوية التي أقدمت على إبادة الآلاف من المواطنين بدون تمييز. ولم تكتف السلطات الاستعمارية بهذا القمع الأعمى والعشوائي، بل لجأت إلى حل الأحزاب السياسية وإعلان الأحكام العرفية في كامل القطر الجزائري، وإيداع الجزائريين السجون بحجة انتمائهم لمنظمات محظورة، وأنهم خارجون عن القانون، وأكثر من هذا، وجهت لهم تهمة المساس بأمن الدولة الفرنسية من خلال توزيع البيانات والمنشورات بدون ترخيص. كتابة تاريخ الكشافة الإسلامية الجزائرية.. ضرورة يكون من الواجب الوطني، وأيضا تسجيلا لوقائع تاريخية تدخل في صميم الكفاح الوطني الجزائري تدوين نضال شعبنا بكافة شرائحه دون تقصير أو تمييز، حتى نعطي التاريخ حقه، أو على الأقل نحاول إماطة اللثام عن هذه الأدوار البطولية لشريحة من المجتمع طالما تناساها المؤرخون ولم يعطوها حقها في التدوين التاريخي، بالرغم من أن التاريخ خير شاهد على مواقفها الوطنية في الحركة الوطنية وثورة التحرير المباركة؟ إن القارئ الكريم المهتم بالتاريخ الوطني يتساءل عن هذا التقصير المفرط، هل يعود ذلك إلى ندرة المادة التاريخية والوثائقية؟ بدون شك لا. لكن المؤكد أن هذا الإجحاف والعزوف يعود إلى ما يعانيه تاريخنا اليوم من التركيز المفرط على أحداث ووقائع، ودور بعض العناصر القيادية دون أخرى على نحو مضر بحقائق التاريخ، مما يجعل ذاكرة الأمة وتاريخها في خطر لابد من تداركه قبل فوات الأوان. وإذا حاولنا التعرف على أدوار المدرسة الكشفية في مجال التوثيق التاريخي، فإننا ندرك على الفور مدى ضآلة ما تم كتابته وتأليفه ليس على المستوى الكمي فحسب، بل حتى على المستوى النوعي أيضا. وفي هذه المساهمة المتواضعة سنحاول من جانبنا الوقوف عند بعض الأدوار النضالية الخفية للكشافة الإسلامية الجزائرية بتسليط الضوء على المشاركة الفعالة لعناصرها الوطنية في مظاهرات الثامن ماي 1945، تنويها بمواقفها النضالية، إذ كانت في مقدمة الموكب في كل مظاهرة سلمية نظمت عبر التراب الوطني، فبزيها الرسمي وبالأعلام الوطنية رمز الحرية والاستقلال رفعت التحدي الأكبر في وجه القوة الاستعمارية. وفي هذا الصدد، يدخل موضوعنا في إطار التعريف بجرائم الاستعمار في هذه الانتفاضة الشعبية إزاء شريحة ثورية من المجتمع الجزائري، ألا وهي الكشافة الإسلامية الجزائرية، حيث استعرضت فرنسا عضلاتها بكبح مواقفها الوطنية الرامية إلى التحرر من قبضة المحتل ومقالنا يأتي ليرفع الستار عن حدث تاريخي وطني كاد النسيان أن يطويه رغم أهميته في تاريخنا، ولقد اعتمدنا في تحريره رغم قلة المادة التاريخية على بعض الوثائق التي جمعت ولحسن الحظ من طرف مؤرخين دونوا الحدث سواء في مقالات عامة أو دراسات متخصصة، ومنها الشهادات الحية للشخصيات ساهمت في الحدث وتأثرت له كثيرا، فخلفوا لنا رصيدا تاريخيا هاما حول دور الكشافة الإسلامية الجزائرية في النضال التحرري بصفة عامة، ومشاركتها في مظاهرات الثامن ماي 1945 بصفة خاصة، وما تعرضت له من التنكيل والاضطهاد من طرف إدارة المحتل منذ تأسيسها علي يد الشهيد محمد بوراس، إلا أن هذه المساهمات تبقى قليلة إذا ما قورنت بتضحيات العناصر الكشفية، وتحديها لمختلف الصعاب والعراقيل التي واجهتها من قبل السلطات الاستعمارية. الكشافة والحرب العالمية الثانية بعد هزيمة 1940 ضمت حكومة فيشي الجمعيات الكشفية الفرنسية في هيئة رسمية تشرف عليها ويرأسها الجنرال لافون (Laffont) ، وكانت بعثة الكشافة الفرنسية المقيمة بالجزائر لا تعترف إلا بالجمعيات الفرنسية، وبقيت اتحادية الكشافة الإسلامية الجزائرية مقصية عن هذه الهيئة، وكانت تعتبرها اتحادية غير قانونية، ولكن سمحت بوجودها مؤقتا. وسعيا من رئيسها محمد بوراس للحيلولة دون القضاء على الاتحادية الجزائرية، سافر إلى "فيشي" للتفاوض مع رئاسة الكشافة الفرنسية، لكن الرد كان يجب أن تذوب في الجمعيات الفرنسية الموجودة في الجزائر"، واقترح عليه أن تدمج إما في الكشافة الفرنسية (S.D.F) أو الفتيان الكشافين الفرنسيين (E.D.F) . لكن هذا الاقتراح لم يقبل؛ لأنه لا يعترف بأصالة الكشافة الإسلامية الجزائرية ويحاول إلحاقها بالكشافة الفرنسية. ظل التهديد قائما وازداد بعد إلقاء القبض على محمد بوراس وتنفيذ حكم الإعدام في حقه يوم 27 ماي 1941، وإزاء التهديد بالقضاء على اتحادية الكشافة الإسلامية الجزائرية حاول مسيروها حمايتها من كل محاولة لإدماجها في الكشافة الفرنسية بتكثيف نشاطاتها الكشفية. وتجدر الإشارة إلى أن الظروف السياسية سمحت لها بالصمود في وجه مختلف التحديات التي حاولت السلطات الاستعمارية فرضها عليها، ونخص بالذكر حدث تأسيس حركة "أحباب البيان والحرية" في 14 مارس 1944 التي استقطبت كل التشكيلات السياسية الجزائرية واقتنعت بفكرة الاستقلال، وما كادت سنة 1944 تنتهي، حتى كانت الحركة الوطنية أكثر صلابة ووعيا وأعمق تجربة، وبهذا ابتعد التهديد بحل الاتحادية أو إدماجها، ولكن المسيرين للتنظيم الكشفي بقوا على حذر؛ لأن الإدارة الاستعمارية لاحظت أن الكشافة الإسلامية الجزائرية ازداد دعمها وتعزز وجودها، وأصبحت تحظى بالمساندة الشعبية، فدعمت بذلك الاتحادية نظامها ونشاطها، وتعددت إطاراتها، وعين قادة جدد. برزت قوة الاتحادية أثناء التجمع الاتحادي الكبير بتلمسان من 23 إلى 30 جويلية 1944 الذي حضره نحو 450 شابا وكشافا يمثلون 60 مدينة وقرية جزائرية، وقد اجتمعوا في مخيم كبير في هضبة "لالة ستي" بتلمسان، واستمر نشاط المخيم عدة أيام في جو من الحماس، فكثرت التبرعات والإعانات، وحضرته شخصيات كبيرة ثقافية ودينية وسياسية جزائرية وفرنسية في طليعتها العلامة الشيخ البشير الابراهيمي، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والزعيم السياسي فرحات عباس، فالأول كان يتمتع بنفوذ روحي وقيمة أدبية واجتماعية عند أهل تلمسان خاصة، والجزائريين عموما، والثاني كان يحتل مكانة أدبية وسياسية مرموقة في الأوساط الثقافية والسياسية، كما حضرته بعض الشخصيات من السلطات الفرنسية الحاكمة: مثل وزير الشبيبة في حكومة ديغول المؤقتة روتيه كابتان (Retier Capitant)، وعامل عمالة وهران Lambert ونائبه بتلمسان. وفي آخر المطاف، اعترفت الكشافة الفرنسية باستقلال الكشافة الإسلامية الجزائرية في 8 ماي 1945، وقدمت لها وثيقة الاعتماد، وبمقتضاه، لم تعد أفواج الكشافة الإسلامية الجزائرية مجبرة على الارتباط بجمعيات فرنسية، ولكن انتفاضة ماي 1945 جعلت السلطات الاستعمارية تنتقم منها شر انتقام، فأبادت كثيرين منهم، لأن الكشافة تجرأت وشاركت في استعراضات سلمية بلباسها الرسمي، رافعة الأعلام الوطنية، ومرددة الأناشيد الحماسية تحديا للعدو. وأكثر من هذا، لم تكن الإدارة الاستعمارية تنظر إليها بعين الرضا، وكانت تعتبرها "مدرسة تبث العداء ضد فرنسا"، إذ استطاعت بفضل مصالحها الاستعلامية وشرطتها وأعوانها أن تجري مراقبة شديدة على الكشافة الإسلامية الجزائرية وتقييد إطاراتها في بطاقات الشرطة مثل ما حدث في منطقة تيزي وزو وسائر بلاد القبائل. مشاركة الكشافة في مظاهرات الثامن ماي لم تكن الكشافة الإسلامية الجزائرية تعيش على هامش المجتمع الجزائري، ولم تكن بعيدة عن الأجواء السياسية السائدة غداة الحرب العالمية، إذ تأثرت بأحداثها، وتضافرت عدة عوامل داخلية وخارجية دفعت بها للمشاركة كبقية أفراد الشعب الجزائري في مظاهرات الثامن ماي 1945 للتعبير عن رغبتها في التحرر نذكر منها: في المقام الأول، تدهور الأوضاع الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية والسياسية للبلاد، ثم يأتي تبلور الوعي السياسي في أوساط الكشافة الإسلامية الجزائرية، إذ لعبت الفروع الكشفية عبر الوطن دورا هاما في مجال توعية الشباب سياسيا، وجمع شمله، وبث فيه روح الوطنية والتضحية عن طريق نشاطاتها المتنوعة، منها الأناشيد الوطنية المشبعة بالروح الوطنية الاستقلالية، وبالانتماء القومي العربي. كما أن العروض المسرحية مثلت عاملا فعالا في تكوين جيل يؤمن بالقيم الوطنية إلى حد التضحية بالنفس من أجل تحرير الوطن، إذ كانت تعالج الوضع المزري للمجتمع الجزائري، وهي بذلك كانت تنتقد ظلم واستبداد الإدارة الاستعمارية، ضف إلى ذلك الحفلات والرحلات التي كانت تنظمها الفرق الكشفية ساهمت إلى حد بعيد في إشاعة الوعي السياسي في أوساط الشعب حيث مكنت عناصرها من تبادل الآراء حول القضايا المصيرية للوطن، وسمحت أيضا بملاحظة الفروق الجوهرية في المعيشة بين أبناء الوطن الذين يعانون من البؤس والحرمان، وبين المعمرين الذين يتمتعون بكل الحقوق والامتيازات وينعمون بخيرات البلاد، إضافة إلى وعود فرنسا الزائفة وحلفاءها بإعطاء الحرية لكل الشعوب المستعمرة إذا شاركت في الحرب وحققت النصر على النازية. وأمام تفاعل هذه العوامل انتظمت الكشافة الإسلامية الجزائرية وخرجت كبقية الشعب الجزائري بكافة فئاته امتثالا بشعوب العالم المحبة للسلام والحرية إلى شوارع المدن الكبرى والقرى للتعبير عن فرحته بانتهاء الحرب العالمية الثانية، ولتذكير المستعمر اللئيم بالوعود التي تفوه بها على لسان قادته لتحرير الشعوب المضطهدة، وتلبية مطالبها المشروعة في الحرية والاستقلال، غير أن المستعمر وكعادته كشف عن نواياه الحقيقية، باستعمال لغة السلاح بخنق الأصوات المنادية بالحرية وتقرير المصير، فكانت الكشافة الإسلامية الجزائرية أول من تعرضت للقمع الوحشي؛ لأنها سجلت حضورها بقوة عبر المدن الجزائرية في المسيرات السلمية.