لم تكن الإدارة الفرنسية تنظر إلى الحركة الكشفية الإسلامية بعين الرضا فهي لطالما اعتبرتها مدرسة بعث الأعداء ضد فرنسا، ففظاعة القمع الذي لم يعرف حدودا أظهر بأن فرنسا كانت تعمل ألف حساب لحركة شبانية بدأت تزعجها لكونها قوية ومتحدة وجذورها ضاربة في كل شبر من القطر الجزائري، فلقد كانت تجمع بين شبان مثاليين وسريعي الاستجابة للنداءات الوطنية التي تنشرها الأحزاب والحركات الوطنية، الأمر الذي جعل السلطات الاستعمارية تسلط وسائل القمع والتنكيل على أعضاء الحركة الكشفية بانتهاج سياسة إجرامية يندى لها جبين الإنسانية حيث نكلت بالعناصر الكشفية وقادتها ليكونوا عبرة لكل من تخول له نفسه القيام بالثورة والانفصال عن فرنسا. الكشافة الجزائرية من الأيادي الفرنسية إلى الإستقلالية كانت الكشافة في الجزائر قبل الثلاثينيات فرنسية خالصة، وكانت تضمّ فرقا كشفية دينية وعلمانية، مثل الكشافة الكاثوليكية والكشافة اللائكية، وفي عام 1930 أنشأ محمد بوراس أول فوج للكشافة الجزائرية في مدينة مليانة إسمه فوج الخلود، ثمّ أنشأ فوجا آخر في العاصمة بإسم فوج الفلاح، وكان بوراس متأثرا بعلماء الإصلاح أمثال العقبي وإبن باديس، والمدني، فسعى عام 1935 إلى إنشاء جامعة للكشافة الإسلامية، ولكن الإدارة الفرنسية رفضت طلبه، وكان عليه أن ينتظر إلى غاية 1937 وتولّي الجبهة الشعبية الحكم في فرنسا ليؤسس أول تنظيم كشفي وطني عُرف بإسم الكشافة الإسلامية الذي إنعقد مؤتمرها الأول عام 1939 وكان شعاره من شعار جمعية العلماء ''الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا". الأمل .. بداية الحركة الكشفية بالجلفة تأسست الحركة الكشفية في ولاية الجلفة عام 1939 على يد محمد بوسعيد رحمه الله ، يُذكر أنّ هذا الأخير كان عاملا في مجال الصباغة والرسم، وفي إحدى المرات انتقل إلى مدينة عين وسارة وكان في نهاية العمل يتجه إلى محطة القطار ليتأمل في حركة المسافرين، إذ لفت إنتباهه نزول شاب فرنسي يرتدي بدلة غريبة عن شباب المنطقة فسأله عن ذلك فأخبره الشاب بأنه لباس خاص بالكشافة، وسلمه خنجره الكشفي كعربون صداقة، وطلب الفرنسي من بوسعيد تزويده ببعض النقود، وبعد فترة أرسل إليه الثمن الذي استعاره منه ومعه كتاب بعنوان "من أجل الدخول في اللعب" تضمّن التعريف بتنظيم وأنشطة الحركة الكشفية وقوانينها وأهدافها، مما جعله يتعرف على هذا النشاط ويساهم مساهمة فعالة في تأسيس فوج الرجاء بالأغواط عندما كان يشتغل هناك، وكان بإتصال مع محمد زناتي ومحمد بلحاج وشكري أحمد من الجلفة، وإنتقل إلى العمل بها. كان بوسعيد من العناصر الرائدة في الحركة الوطنية، وكان رجلا وطنيا له ثقافة واسعة إستطاع من خلالها أن يكون محورا أساسيا تدور حوله عدّة عناصر وطنية من بلديات الجلفة، حيث بعث فيهم روح التفاني والإخلاص واستطاع مع هذه الفئة القليلة إنشاء فوج كشفي سُمي آنذاك بفوج الأمل الذي طلب الإعتماد عام 1936 ولم يتحصل عليه إلا عام 1939 كان يضم في عضويته كل من: زناتي محمد (رئيس الفوج)، محمد بوسعيد ( نائب رئيس الفوج)، نعاس عبد الله، الخضاري دقة، شكري أحمد بن عامر، محمد بلحاج، جاب الله بوهالي، بن علية علي، رحماني عبد القادر، خليل يونس، مفتاح السعيد، بن معطار أحمد المدعو خريّف، الشيخ بن علي، سعد بن الشرقي، حجاجي محمد، ومن ضمن الأعضاء المؤسسين للفوج Capitane Yve brochard مدير مؤسسة الحلفاء بالجلفة (قبوله ضمن اعضاء الفوج للحصول على الإعتماد من طرف الإدارة الفرنسية وليثبتوا أنها حركة شبانية غير عدوانية). حظي فوج الأمل منذ تأسيسه بزيارة محمد بوراس في 23 جانفي 1940، وعدد كبير من أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. شارك فوج الأمل في عدّة تظاهرات كشفية داخل الوطن وخارجه نذكر منها: - التجمع الإتحادي الكبير بتلمسان (جويلية 1944) الذي حضره نحو 450 كشافا يمثلون 60 مدينة وقرية جزائرية، وقد إجتمعوا في مخيم كبير في هضبة "لالة ستّي" واستمر نشاطه عدّة أيام وحضره من الشخصيات الشيخ البشير الإبراهيمي والرئيس فرحات عباس، وشارك فيه وفد من فوج الأمل من بينهم زناتي محمد، وشكالي أحمد، وشكالي الطيب، وقرش موسى وأحضروا معهم الأناشيد الثورية التي دخلت أول مرة للجلفة ''من جبالنا'' ''موطني'' '' شعب الجزائر مسلم''... - الملتقى الكشفي العالمي ''جمبوري'' في منطقة مواسون شمال باريس في أوت 1947، وهو ملتقى للكشافة العالمية للتعارف والصداقة، شارك فيه وفد من فوج الأمل ممثلا في حران الطاهر، وبولرباح شتوح وصديقي محمد رحمهم الله جميعا، وكانوا يرتدون اللباس الكشفي والطربوش العربي رمز الوطنية الذي يميّزهم عن الكشافة الفرنسية والإسرائيلية .. الكشفية شداد كلتوم صوت المرأة الجلفاوي في مظاهرات الثامن من ماي 1945م بعد أن اعترفت الكشافة في آخر الأمر باستقلال الكشافة الاسلامية الجزائرية وقدمت لها وثيقة الاعتماد التي تخوّل لها عدم الإرتباط بجمعيات فرنسية، جاءت أحداث الثامن ماي 1945 في الشرق الجزائري، تلك المظاهرات الجماهيرية للاحتفال بانتصار الحلفاء على الدول الفاشية، وشارك الكشافون المسلمون في استعراضات بلباسهم الرسمي وأعلامهم مع الحركات الوطنية الأخرى، مظاهرات حولتها القوات الفرنسية إلى مأساة، سقط فيها عشرات الآلاف... أزيد من 45 ألف جزائري أعزل لا يحمل سوى علمه وفرحٌ بوعد استقلال وطنه. الجلفة أيضا كانت حاضرة في مظاهرات الثامن من ماي، فبعدما وصل النداء انطلق وفد من فوج الأمل على رأسه زناتي محمد، وبوسعيد محمد، وعروي ثامر، ومحمد بلحاج وزوجته شداد كلتوم، بعدما كتبوا بعض اللافتات التي لبستهم هاته المرأة (تقنبزت بهم) وانطلقوا قبل الموعد بيومين أو ثلاث، لكنهم توقفوا في مدينة برج بوعريريج لعسر مواصلة الطريق، شاركت هذه المجموعة في هذه الأحداث، وطلب من بوسعيد كتابة شعارات اللافتات التي رفعت أثناء المظاهرات للمطالبة بحرية الشعب الجزائري وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين وكذا التنديد بالاستعمار والإمبريالية بجميع أشكالها. ويمكن أن نعتبر أن شداد كلتوم (1929) صاحبة 16 سنة في ذلك الوقت هي أول امرأة كشفية بالجلفة. وعن مشاركة مدينة الجلفة في أحداث الثامن من ماي كتب صحفي أمريكي اسمه ميكاييل كلارك في مقال بعنوان ''الجزائر في إضطراب'' وكيف جدران مدينة الجلفة ملطخة بالكتابات على غرار '' .. أقتلوا الفرنسيين ومن والاهم من اليهود.. ''. فعند إندلاع هذه الأحداث بالشرق الجزائري تخوفت فرنسا من إنتقال صداها لمنطقة الجلفة، فإعتقلت عدّة مناضلين لمدة أكثر من سنة، وهم شويحة عبد القادر، الحاج محمد بن مصطفى، الأطرش عبد الله بن براهيمي، عمران النعاس، خليل يونسي، قرش موسى، سالت ميلود، محمد بن علي بن الهادي المدعو (بن مسايس)، ونفتهم إلى الزاوية الكحلة. وكرد على الإعتقالات والمجازر جاءت أوامر من قيادة حزب الشعب تدعو للإستعداد للتظاهر بالجلفة ، فأتى بن مهل محمد من البرواقية مسؤول النظام العسكري السري جنوبالمدية إلى الجلفة، واتصل بالسيد بيسكة العمري مسؤول النظام العسكري بمدينة الجلفة، ثمّ ذهبا إلى مدينة مسعد لجلب السلاح واتصلا بأعضاء التنظيم بالمنطقة، وبعد إقتناء السلاح تمّ إدخاله إلى مدينة الجلفة بواسطة محمد بن علي بإخفاء السلاح عند الحبيب أحمد بن الصحراوي. وبعدما كان منتظرا تفجير الثورة في 23 ماي 1945 تأجلت العملية برسالة تلقاها الكشاف المدعو خريّف في 18 ماي 1945 بكلمة سر ''الغنم ذيك ما تبيعهاش''. هكذا تأسست الكشافة النسوية بالجلفة.. بعد مجازر 8 ماي 1945 بدأت النساء الجزائريات ينظمن أنفسهن سواء في الحلقات المختلطة أو في الإطار الإجتماعي. ومن بين أوجه مشاركة المرأة الجزائرية في النشاط الجمعوي والكشفي إنخراطها في الكشافة الإسلامية الجزائرية، وعرفت الأفواج الكشفية النسوية الأولى التي نشأت بالمراكز الحضرية الكبرى تطورا سريعا. وفي سنة 1959 أنشأ القائد صديقي بلقاسم فوج كشفي للنساء الجلفاويات ببيته بحي باب الشارف، وكان فوج كشفي غير معتمد، انخرطت فيه أغلب فتيات العائلات الجلفاوية آنذاك، حيث كان يسهر على تعليمهن مبادئ وأصول العمل الكشفي. وخلال سنة 1961 تأسس فوج المنى للبنات بالجلفة والتحقت به الفتيات الكشفيات اللواتي أشرف صديقي بلقاسم على تدريبهن من قبل، وكان شعار هذا الفوج "إسعاف الأخوات" ترأسته '' قواسم مريم'' المعروفة بمريم الوهرانية، وهي في الأصل من مدينة سيدي بلعباس، هذه الأخيرة كانت رفقة زوجها الهاشمي وبناتها الأربع تسكن بمدينة الجلفة وتميزت بحبها الشديد للكشافة من خلال ترددها على فوج الأمل فجاءتها فكرة انشاء فوج للبنات وإتخذت بيتها مقرا للنشاط الكشفي، تميزت رحمها الله بقدر كبير من الثقافة والأدب، ولكونها تتقن الخياطة قامت بخياطة لباس خاص بالزهرات (البنات من سن 08 سنوات إلى 12 سنة)، والمرشدات (من 12 سنة إلى 16 سنة )، وإمتد نشاط الكشافة ومبادئها إلى كل الأمهات من خلال بناتهن، وبعد الإستقلال وبالضبط سنة 1965 إنتقلت هي وزوجها إلى ولاية المدية وبقيت تربطها علاقة طيبة وذكريات جميلة بمدينة الجلفة، لتخلفها القائدة الجلفاوية رويبح الزهرة. كانت نفقات الافواج الكشفية سواء الأمل أو المنى تغطى من قبل المواطنين (إشتراكات أو تبرعات)، فضلا عن عائدات هذه الأفواج من الأشغال اليدوية التي كانوا يصنعونها ويقومون ببيعها، وبالنسبة للأنشطة التي كانوا يقدمونها، فقد كانت مختلفة تتزامن مع مختلف المناسبات الدينية. اضافة إلى العمل على تربية النشء تربية وطنية وفضح جرائم الإستعمار وأساليبه القمعية، تقديم توجيهات خلال العطل المدرسية لإستعاب خلفيات الأحداث السياسية على الساحة الوطنية، عقد الإجتماعات في البيوت للتدريب على العمل الكشفي، جمع الإشتراكات لشراء الذخيرة الحربية للمجاهدين، المشاركة في المظاهرات الشعبية، زيارة المرضى، وتنظيم التظاهرات الثقافية والرياضية والرحلات وتبادل النشاطات والزيارات بين الأفواج الكشفية في مختلف أنحاء الوطن. ونظرا لتعاظم نشاطات الحركة الكشفية ولا سيما في المجال التعبوي والمساهمة في نشر الوعي السياسي وإيقاظ الضمير الوطني وتأطير الشباب، جعل السلطات الإستعمارية تحاول إجهاض الحركة الكشفية وقمعها لأكثر من مرة بالإعتقالات والإستجوابات والمضايقات كما حدث مع كل من حلاّوة يحي وبن رمان رابح وأحمد المدعو الأكحل الذين طالهم السجن، ومع اشتداد الثورة بالمنطقة التحق الكثير من الكشفيين بها على سبيل المثال حسان عبد القادر، وحنيشي محمد، والإخوة دروازي فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ليبقى الآخرون ينشطون بصورة سرية إلى غاية فرحة الاستقلال التي عرفت مشاركة فخرية للكشافة الجلفاوية نساءا كانوا أورجالا.