يتمتع المتحف بأهمية كبيرة في المجتمع، فهو بمثابة مستودع للتراث الثقافي، ومنصة للخطاب الفكري، ومصدرا للإلهام والإبداع.. وتتعدّد الأسباب التي تجعلنا نزور المتاحف، بتعدّد وتنوّع الأفراد الذين يتردّدون عليها.. إلى جانب دورها في حفظ التراث، تقدّم المتاحف ثروة من الفوائد، حيث تعتبر مساحات للتعليم والتفكير، ومحفّزات للتغيير والتحوّل الاجتماعي، ومحركات للنمو الاقتصادي، وأداة فاعلة من أدوات الدبلوماسية الثقافية. يعرّف المجلس العالمي للمتاحف (إيكوم) المتحف بأنّه "أيّ مقر دائم من أجل خدمة المجتمع وتطويره، مفتوح للعامة، ويقوم بجمع، وحفظ، وبحث، وتواصل وعرض التراث الإنساني وتطوره، لأغراض التعليم، والدراسة والترفيه". ومن هذا التعريف، تتضح مهام المتحف الرئيسية، وأدواره في خدمة المجتمع، وخاصة وجوب أن يكون "مفتوحا للعامة" والزائرين، وهو ما سنعالجه في هذا المقال. لماذا نزور المتحف؟ من الوظائف الأساسية للمتاحف الحفاظ على التراث الثقافي وحمايته للأجيال القادمة، ومن خلال ذلك، تساعدنا المتاحف على ربطنا بجذورنا. على رأي أورهان باموك القائل: "المتاحف، هي الأماكن التي يتحوّل فيها الزمن إلى مكان". ويؤكّد العربي لقريز (جامعة الجلفة) أنّه بمحافظة المتاحف على تاريخ البلدان وتراثها الثقافي وإبرازه إلى الناس حتى لا تنقطع الصلة بينهم وبين ماضيهم المشترك، يتجسّد دور المتحف في تنمية اعتزاز الفرد بتراثه وتحصين هويته الثقافية، خاصة في الوقت الراهن الذي يشهد ثورة تكنولوجية وغزوا ثقافيا عالميا، ضاعفت من أهمية المتحف في حماية مقوّمات الشخصية الوطنية والمحلية، والعمل على صون التراث المادي واللامادي وتثمينه والترويج له، كونه مؤسّسة مكلّفة بالحفاظ على الموروث الثقافي والتعريف به والعمل على استدامته، يشير الباحث. من جهته، يلاحظ عبد الرحيم لعمى (جامعة المدية) كيف تساعد المتاحف في المحافظة على الهوية الثقافية، ما جعل من المتحف مركزا ثقافيا وبحثيا يقوم بتوعية فئات المجتمع بالهوية الثقافية في زمن العولمة. ويرى الباحث أنّ رسالة المتحف العملية والثقافية تتحقّق باقتناء كلّ ما أمكن الحصول عليه من آثار ومقتنيات تحفية، تعبر عن تراث محلي وإنساني، فهذه المؤسّسة ترسي تقاليد جديدة في التعليم والتثقيف بالموازاة مع المتعة للزوار على مختلف أعمارهم ومستوياتهم، دون حواجز المؤسّسات الثقافية الأخرى. الأغراض التعليمية، من الأسباب الرئيسية لزيارة المتاحف التي تعمل كمستودعات للمعرفة والتاريخ، وتتيح التعرّف على مجموعة واسعة من المواضيع، من الفن والثقافة إلى العلوم والتكنولوجيا. كما يزور العلماء والباحثون المتاحف لأغراض أكاديمية. سبب آخر لزيارة المتاحف هو التجارب الجمالية والحسية التي تقدّمها، بما تحتويه من مجموعات فنية وتحف منسّقة بشكل جمالي، يربط الجسور مع مختلف أشكال الإبداع الإنساني والتعبير الحضاري. وهكذا، قد تكون المتاحف مصدر إلهام وإبداع، بتعامل الزائر مع أفكار ووجهات نظر وتجارب جديدة، من شأنها إثارة المخيلة وتنمية الإمكانات الإبداعية. علاوة على ذلك، توفر المتاحف فرصة فريدة للأفراد للتعامل مع الماضي والتأمل في تعقيدات التاريخ، من أجل فهم أحسن لعالمنا المعاصر، ما من شأنه أن يطوّر مهارات التفكير النقدي، وترابط التجارب البشرية. وتسهم المتاحف في التنمية الاقتصادية للمجتمعات، فهي تجذب السياح، وتدر الإيرادات، وتخلق فرص العمل، وتسهم في نمو وازدهار الاقتصادات المحلية. وتلعب المتاحف دورا في التنشيط الحضري، وجذب الاستثمار، وتعزيز السياحة الثقافية، وإنشاء مراكز ثقافية نابضة بالحياة تعمل على تحسين نوعية الحياة للمقيمين. وتلعب المتاحف دورا حيويا في تعزيز المشاركة الاجتماعية والمدنية، إذ غالبا ما تستضيف فعّاليات ومحاضرات وورشات عمل، توفر الفرص لتفاعل الزوار مع بعضهم البعض، ومناقشة القضايا المهمة التي تواجه المجتمع. ومن خلال جمع الناس معا في مساحة مشتركة، يمكن للمتاحف تعزيز الشعور بالانتماء للمجتمع وتشجيع الحوار والتعاون. ويمكن للمتاحف أيضا أن تكون مساحات للتأمل والسكينة، في عالم متسارع. كما قد تكون، ببساطة، مصدر ترفيه وتسلية، لأشخاص من مختلف الميول والأعمار. المتاحف الافتراضية.. من أجل جمهور أكبر أصبحت المتاحف الافتراضية ذات استعمال متزايد في السنوات الأخيرة، لما توفره من إمكانية الوصول إلى مجموعة واسعة من التحف الثقافية والتاريخية بأريحية أكبر. ومن مزايا المتاحف الافتراضية سهولة الوصول إليها، بشكل يتجاوز الحدود الجغرافية. وتقدّم متاحف عالمية عديدة جولات ومعارض افتراضية، يمكن لأيّ شخص لديه اتصال بأنترنيت، الوصول إليها. فائدة أخرى للمتاحف الافتراضية، هي القدرة على استكشاف المعروضات بالسرعة التي تناسب الزائر. وعلى عكس المتاحف المادية، حيث قد تكون هناك حشود وقيود زمنية، تسمح المتاحف الافتراضية للزوار بقضاء الوقت الذي يريدونه في فحص كلّ قطعة أثرية وقراءة المعلومات المصاحبة لها. كما تتمتع المتاحف الافتراضية بميزة القدرة على الوصول إلى جمهور أكبر، فالمتاحف المادية محدودة بموقعها وساعات عملها، فيما يمكن الوصول إلى المتاحف الافتراضية في أيّ وقت من اليوم، ومن أيّ مكان في العالم. وهذا يعني أنّ الأشخاص الذين قد لا تتاح لهم الفرصة لزيارة متحف مادي ما يزال بإمكانهم التفاعل مع المعروضات والتعلّم منها. ويمكن للمتاحف الافتراضية تقديم تجربة أكثر تفاعلية للزوار. تشتمل العديد من المتاحف الافتراضية على ميزات مثل النماذج ثلاثية الأبعاد وجولات الفيديو والألعاب التعليمية التي يمكنها جذب الزوار بطريقة لا تستطيع المتاحف التقليدية القيام بها. ويمكن لهذه العناصر التفاعلية أن تجعل تجربة التعلّم أكثر جاذبية. ولكن، على الرغم من المزايا العديدة للمتاحف الافتراضية، إلا أنّ هناك عيوبا وجب مراعاتها، من بينها الافتقار إلى الحضور الجسدي والخبرة الحسية. عند زيارة متحف مادي، يمكن للزوار رؤية القطع الأثرية والاقتراب منها، والانغماس أكثر في تاريخ وثقافة المعروضات، وهو ما تفتقر إليه المتاحف الافتراضية إلى هذه التجربة الحسية، ما قد يقلّل من تأثير المعروضات. ويتم في العالم الافتراضي فقدان الإحساس الملموس بالمشي عبر مبنى تاريخي مثلا، الأمر الذي يمكن أن يحدّ من التجربة. ومن الجوانب السلبية الأخرى، احتمال حدوث مشاكل فنية تعطّل تجربة الزائر. وقد تؤدّي أوقات التحميل البطيئة ومواطن الخلل ومشكلات التوافق إلى إحباط الزائرين وتقليل استمتاعهم بالمعروضات. ويمكن أن يمثل هذا مشكلة، خاصة بالنسبة للمستخدمين الأكبر سنّا أو الأقلّ تأقلما في مجال التكنولوجيا، والذين قد يواجهون صعوبة في التنقل في واجهة المتحف الافتراضي. كما لا يستطيع الجميع الوصول إلى أنترنيت عالي السرعة، أو أحدث الأجهزة المطلوبة لتجربة هذه الجولات الافتراضية، ويمكن أن يؤدّي ذلك إلى خلق فجوة رقمية، مع استبعاد بعض الأشخاص من تجربة المتحف الافتراضي بسبب عدم إمكانية الوصول أو المعرفة التقنية. وتثير المتاحف الافتراضية تساؤلات حول دور المتاحف المادية في المجتمع، باعتبار أنّ ظهور المتاحف الافتراضية قد يؤدّي إلى انخفاض الحضور في المؤسّسات المادية، ما يجعل استقرارها المالي وقدرتها على الحفاظ على مجموعاتها عرضة للخطر. على الرغم من هذه العيوب، أثبتت المتاحف الافتراضية أنّها أداة قيّمة للتعليم والتوعية، بفضل المحاضرات عن بعد والمعارض التفاعلية وتجارب الواقع الافتراضي، ويمكن لهذه المبادرات الرقمية أن تعزّز تجربة المتحف التقليدية، وتجذب زوّارا أكثر. متاحف الجزائر.. كنوز تنتظر الاكتشاف قبل أسبوع، أسدت وزيرة الثقافة والفنون صورية مولوجي تعليمة بفتح المتاحف والمواقع الأثرية مجانا أمام الجمهور نهاية الأسبوع الماضي. كما دعت الوزيرة إلى زيارة المتاحف، وهي دعوة تزامنت واختتام شهر التراث، وتزامنت أيضا مع الاحتفاء باليوم العالمي للمتاحف المصادف ل18 ماي من كلّ سنة. وقالت الوزارة في بيانها إنّ ذلك يأتي "إيمانا بأهمية دور المتاحف في نشر الوعي الثقافي والفني، ولتمكين المواطنين من التعرّف على كنوز متاحفنا، وتعزيز التواصل بينها وبين مختلف فئات المجتمع، وإتاحة الفرصة للجميع للتعرّف على تراثنا الثقافي". تعكس مثل هذه المبادرات اهتماما رسميا بالمؤسّسات والمنشآت المتحفية، وحرصا على تشجيع زيارتها والتردّد عليها. مع ذلك، يرى باحثون في هذا المجال أنّ الإقبال على المتاحف ما يزال لا يرقى إلى المستوى المأمول، وحاول البعض منهم إيجاد تفسيرات لذلك. قبل عشر سنوات، نشرت غنية حاج كولة (جامعة برج بوعريريج) دراسة تحت عنوان "المتاحف الجزائرية بين ثقافة الاستهلاك وتذبذب الزوار"، لاحظت فيها أنّ الفئات الاجتماعية التي تتردّد على المتحف لها أساليب حياة اجتماعية معينة تمارسها، من بينها الرياضة، القراءة، واللباس، للتميز عن بقية الفئات الاجتماعية الأخرى. وبزيارتها للمتحف (في إطار زيارات فردية أو جماعية) تحاول أن تخلق نماذج في زيارتها استنادا على استعدادات فطرية تتجسّد عبر مؤسّسات التنشئة الاجتماعية كالأسرة، المدرسة، جماعة الحي، مع العلم أنّ هذه الأساليب تتمظهر من خلال الذوق. وتستشهد الباحثة بتعريف بورديو للتميّز بأنّه "أحد أساليب الحياة التي يتوزع فيها الرأسمال الاقتصادي والرأسمال الثقافي بين الأجزاء، يعرض بنيات متناسقة ويعكس مختلف البنيات التراتبية هي مع المسار الاجتماعي". وتقول الباحثة إنّ بورديو قد أشار، في دراسة أجراها حول الإقبال على المتاحف، إلى أنّ زيارة المتحف هي من أساليب الحياة الاجتماعية، ونجدها تتمظهر لدى بعض الفئات الاجتماعية المتميّزة خاصة في الدول الغربية، حيث نجد بعض الفئات من عادتها التردّد على المتاحف، وارتبط التردّد على المتحف - حسب الدراسة التي أجراها بورديو - بالعوامل الثقافية، أيّ الرأسمال الثقافي، غير أنّ الواقع الاجتماعي في البلدان العربية ومنها الجزائر يعكس منطلقات ثقافية خاصة تجاه الإقبال على المؤسّسات الثقافية، ما يعكس خصوصية المجتمع وذهنية الفرد الجزائري والتصوّرات التي يحملها تجاه المتحف كمؤسّسة ثقافية، تقول الباحثة التي تلاحظ – بالمقابل - وجود بعض الفئات تتردّد على المتحف في شكل زيارات فردية أو جماعية كأفواج المدارس والجمعيات والطلاب الجامعيين والوفود الرسمية، ما يعطي صورة لاستهلاك ثقافي وفني. وخلصت الباحثة إلى القول: "بإمكان متاحفنا أن تغير النظرة التقليدية، وتجدّد ممارستها، لو طبقت استراتيجية فعّالة للنهوض بهذه المؤسّسة". ولاحظت بن كولة ما أسمته "غياب الثقافة المتحفية"، وهذا يعود حسبها إلى "غياب الاستعدادات تجاه هذا النوع من الممارسة، التي من المفروض أن ينشأ عليها الفرد من خلال دور الأسرة كرأسمال اجتماعي وثقافي، ودور المدرسة في تلقين التربية الفنية، والمراكز الثقافية التي تحفّز الفرد على حب الفن والثقافة وممارسة النشاطات الثقافية". وفي سياق الحديث عن مؤسّسات التنشئة الاجتماعية، ركّز كلّ من مالك شليح توفيق وحليمة عسلي (جامعة وهران2) على دور الجمعيات، باعتبارها من مؤسّسات التنشئة الاجتماعية، في تعزيز الوجود المؤسّساتي المتحفي ضمن النسق القيمي المجتمعي، وذلك بترسيخ الممارسات الثقافية لدى الأفراد، وتعزيز الاستهلاك الثقافي لهذه الفضاءات، والتأسيس لعلاقة الزوار بالمتحف. واقترح الباحثان أن تعمل الجمعيات على تعويض أدوار مؤسّسات أخرى، كالأسرة والمدرسة، تكون في غالب الأحيان غائبة عن هذه الفضاءات. أما عبد الحق بالنور (جامعة الوادي) فنجده يوظف مفهوم "التربية المتحفية"، مؤكّدا أنّها "ليست كلمة بسيطة إنما هي عملية" هدفها استقطاب الزائرين للمتاحف. ورغم وجود المتاحف الوطنية وعراقتها، وأهمية ما تحتويه، إلا أنّ التربية المتحفية لم ترتق بعد إلى المستوى المطلوب، يؤكّد الباحث. من جهتهما، سلّطت الباحثتان سميرة بودراع وعائشة حنفي (معهد الآثار، جامعة الجزائر2) على تقنيات العرض، ولاحظتا "معاناة أغلب المتاحف الجزائرية من ضعف تقنيات العرض، ما أدّى إلى عدم الرغبة في زيارة المتاحف"، كما أنّه، بسبب العروض التقليدية التي تخلو من جميع وسائل الإمتاع، يلاحظ ضعف في إيصال رسالة وغاية العرض، تؤكّد الباحثتان اللتان رافعتا من أجل أهمية تصميم عروض تفاعلية بالمتاحف الجزائرية.