في الواقع لا أحد صدّق الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته »جورج بوش« عندما تعهد وهو يعدّ العدّة لغزو العراق قبل نحو ستة أعوام بأن المهمة التي ألهمه إيّاها الربّ ستكون مجرد فسحة قصيرة، ليعود جنوده بعدها مكلّلين بوسام النجاح في دمقرطة العراق وتحرير شعبه مما سماها ديكتاتورية صدام. حتلال العراق قائم على أكاذيب بوش لا أحد صدّق »بوش« حينها، باختصار لأن حجم العدة التي أعدّها والعتاد الذي حرّكه إلى المنطقة لم يكن ليعكس إلا حقيقة واحدة وهي بقاء أمريكا اللاّمتناهي في العراق، على الأقل من خلال قواعد عسكرية تنصّبها هناك لتجثم على صدر العرب كما تفعل إسرائيل منذ ستة عقود، تهدد هذا وتؤدب ذاك وتضرب الآخر. وهاهي الأيام تكشف مرة أخرى أكاذيب المحتلين وسوء نوايا الإدارة الأمريكية المودّعة، وتؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن الوجود العسكري الأمريكي في العراق لن ينتهي غدا، بل سيستمر لسنوات أخرى قد تطول أو تقصر بحسب ما تفرضه المصلحة الأمريكية. والظاهر اليوم أن المصلحة الأمريكية تستدعي تمديد احتلالها للعراق، لهذا نجدها متمسكة بتوقيع إتفاقية أمنية تحلّ محل التفويض الأممي المقرر نهايته في 31 ديسمبر القادم، وتنظم الوجود العسكري الأمريكي أي الإحتلال بمعنى أدق وتقنّنه لما بعد هذا التاريخ. وفي سبيل تحقيق هذا المبتغى يسوّق الأمريكان مبررات واهية فاقدة لقوة المنطق والإقناع، على اعتبار أن وجودهم هوالذي خلق هذه الذرائع التي يتحججون به لفرض استمرارية احتلالهم. ومن هذه الحجج ادّعائهم بأن الأمن قد يعود ليتدهور إن انسحبوا بعد شهر، وبأن العنف الذي قلّ إلى أدنى مستويات سيلتهب لو رحلوا، وكذلك سيتهدم كل ما تم تحقيقه من إنجازات خلال السنوات الماضية. الإتفاقية الأمنية تعوض التفويض الأممي لقوات الإحتلال بالعراق في نهاية شهر ديسمبر القادم، سينتهي إذن تفويض الأممالمتحدة للقوات المحتلة للعراق التي تقودها أمريكا، مما يعنى أن وجود هذه القوات سيصبح لا شرعيا، وكأنه كان شرعيا من قبل وحرصا منها على الإحتماء بمظلة الشرعية المفصلة على مقاسها، باشرت إدارة »بوش« منذ بداية السنة مباحثات لإقرار إتفاقية أمنية تنظم الوجود العسكري الأمريكي للسنوات القادمة. وتتركز هذه الإتفاقية على محورين أساسيين، أما الأول فهو متعلق بوضع جدول زمني لانسحاب القوات الأجنبية، وأما الثاني فهو مرتبط بالحصانة القضائية لقوات الإحتلال وتحديدا للقوات الأمريكية بخصوص جدول الإنسحاب، فإن بعض الأوساط المهللة لبقاء الإحتلال تقلل من تخوف المعارضين، وتقول بأن الاتفاقية غير ملزمة ولا تؤسس لقواعد عسكرية أمريكية دائمة، بل تشمل بقاء القوات الأجنبية لحوالي ثلاث سنوات أي لحين استتباب الأمن وتراجع كل سنة. وأوردت هذه الأوساط بأن الاتفاقية الأمنية تنص على خروج القواعد الأمريكية من المدن العراقية بحلول جوان ,2009 على أن تخرج من العراق بشكل كامل قبل نهاية 2011 ما لم تطلب الحكومة العراقية بقاءها. سيادة العراق في الميزان أما بخصوص الحصانة القضائية لقوات الاحتلال، فقد أثارت ولازالت جدلا كبيرا وشكلت نقطة خلاف بين الأمريكيين والعراقيين، إذ تمسك الجانب الأمريكي بحصانة جنوده معللا ذلك بكون القانون الأمريكي يمنع خضوع القوات الأمريكية لغير ولاية قانونهم الوطني، ومستدلا بكون هذا النظام معمول به في كافة أنحاء العالم، حيث تنتشر قوات أمريكية. وحسب نص الإتفاقية فإن عناصر القوات الأمريكية والشركات المتعاقدة معها والعاملة في العراق، لما ترتكب جرائم كبيرة ومتعمدة خارج نطاق الواجب وخارج المرافق العسكرية الأمريكية، فإنها تخضع للقانون العراقي، أما باقي الجرائم التي ترتكبها أثناء الخدمة وداخل المرافق العسكرية الأمريكية في العراق، فإنها تخضع للقانون والقضاء الأمريكي. ونتساءل كما يتساءل الجميع من يثبت بأن هذا الجندي ارتكب جرما يقع تحت طائلة القضاء العراقي أوالقضاء الأمريكي. وهل سيعاقب فعلا إذا ارتكب جرما خارج نطاق الواجب وخارج المرافق الأمريكية؟ وإن تمت إدانته أي حكم سيصدر عليه؟ إنها أسئلة تفرض نفسها خاصة وأننا شاهدنا الجرائم الفظيعة التي ارتكبها جنود الإحتلال في العراق ولم يسلّط عليهم أي عقاب وإن تمّ فللإهانة والتمويه والإستهزء بالضحايا وللضحك على ذقون العراقيين لا أكثر ولا أقل، وليس أدل على ذلك من الحكم الذي صدر في حق جندي أمريكي قتل عمدا أربعة عراقيين، إذ حكم عليه بالسجن ثمانية أشهر، أي بمعدل شهران حبس عن كل قتيل عراقي، وهذا هو المعنى الحقيقي للحصانة التي تتمسك بها إدارة »بوش« قبل أن ترحل، والتي هددت في حال رفض العراقيين لإقرارها، بوقف أعمال إعادة الاعمار، واقتصار وجود قواتها على قواعد ها العسكرية وإعفاء نفسها من حماية أمن الحدود وضبط الحركة الجوية وغيرها من الضغوط، وهكذا هي أمريكا عندما تفرض أمرا لا تتردد والتهديد والوعيد وشراء ذمم الخونة المسبّحين بحمدها. المعارضون يهددون بتحريك الشارع بقدر ما أظهر المستظلون بمظلة الاحتلال من تجاوب مع الأمريكان لمساعدتهم على ضمان استمرارية '' شرعية'' لوجودهم العسكري في العراق، أظهرت جهات عراقية وعربية عديدة معارضتها للاتفاقية الأمنية ومن ورائها لبقاء الاحتلال، فالكثير من الشخصيات الفاعلة في العراق اعتبرت هذه الاتفاقية وما تضمنته من سموم مساسا وإخلالا بسيادة العراق وبحرية شعبه. وهددت بتحريك الشارع الرافض لرهن مصيره بين طيّات أوراق هذه الإتفاقية الفخ كما قالت، وأصرت على إشراك الشعب في تحديد مصيره، فهو ليس بقاصرحتى تحجر عليه قلة بلغت الحكم على ظهر دبابة المحتل وتسعى لبقاء هذا المحتل ليحميها ويحمي مصالحها. هذه الفئة المستظلة بالأمريكان، تقلل من تخوفات المعارضين وتقول بأن العراق ليس الأول ولن يكون الأخير الذي يوقع اتفاقية أمنية مع من احتله، وتستدل بكوريا الجنوبية وبألمانيا واليابان الذين وقّعوا اتفاقيات عسكرية مع الحلفاء تلت الحرب العالمية الثانية. دول الجوار هي الأخرى تعارض استمرار الاحتلال الأمريكي للعراق، لأن ذلك يشكل تهديدا دائما لها وعنصر عدم استقرار، والدليل الغارة التي شنتها القوات الأمريكية في 26 أكتوبر الماضي انطلاقا من العراق على منطقة البوكمال السوريةر وأسفرت عن مقتل ثمانية مدنيين. ورغم أن القيادة العراقية تعهدت بأن أرض الرافدين لن تكون مستقبلا منطلقا لتهديد أيّ دولة مجاورة، فإن الدول العربية المحيطة خاصة ذات العلاقات المتوترة مع الادارة الأمريكية لم تقتنع بهذه التعهدات لأن الأمر يتجاوز العراقيين. ولإسرائيل حصتها من الإتفاقية الأمنية كما تتخوف الشعوب العربية من أن تكون لإسرائيل حصة غير قليلة من هذه الاتفاقية خاصة فيما يتعلق بأمنها وتمكينها من الاستفادة من الوجود والمعدات العسكرية التي يمتلكها الأمريكان بالعراق في خططها العسكرية المستقبلية، وتخشى هذه الشعوب أيضا من أن يقنن التواجد الإسرائيلي في العراق عبر إقامة مشاريع يحددها المحتل من دون تمكن الحكومة العراقية التدخل فيها. وفي ظل إقصاء الشعب عن وضع أسس هذه الإتفاقية المصيرية، ومع تصاعد تهديدات المعارضين لها وفي مقدمتهم مقتدى الصدر، ارتفع صوت الأكراد قبل مدة مطمئنا المحتلين بردّ جميلهم، حيث وعدوهم باستقبال قواعدهم العسكرية في إقليمهم على الرحب والسعد ودون استشارة الحكومة المركزية. لتبقى حظوظ الإحتلال في انتزاع صك البقاء في العراق من خلال هذه الإتفاقية كاملة، ولن يضطر إلى العودة لمجلس الأمن ليمنحه تفويضا آخر بعد نهاية ديسمبر القادم. وقبل وصول الإتفاقية إلى البرلمان أمس الأول، حيث تمت المصادقة عليها، لقيت تأييد المجلس السياسي للأمن الوطني العراقي المكون من قيادات سيايسة مختلفة بما فيها الائتلاف الموحد الحاكم ورئيس الدولة ورئيس الحكومة ونائب الرئيس. وبعد تزكيتها بالأغلبية الساحقة يبقى السؤال مطروحا، هل ستحمي هذه الإتفاقية سيادة العراق وحريته خاصة مع الصلاحيات والحماية التي تمنحها لنحو 152 ألف جندي أمريكي؟ أم أنها ستكون بمثابة مشنقة لخنق السيادة العراقية...؟ ------------------------------------------------------------------------