ما أن تهدأ الأسعار حتى يعود لهيبها اللاذع للأسواق ليحرق جيوب المستهلكين، في ظل احتدام جدل لم يتوقف بين الأطراف، حيث كلٌّ يرفع مطالبه ويبررها، في انتظار أن يعود الاستقرار لمعادلة العرض والطلب التي تحكم من حيث المبدأ منظومة اقتصاد السوق لكنها لم تصل بعد إلى درجة الاستقرار التي من شأنها أن توضح الرؤية للمتعاملين والمستهلكين بما يساعد على تجاوز حالات الندرة الطارئة لإرساء نظام مرجعي لمعايير الجودة وشفافية الأسعار. منذ أشهر قليلة مضت، وبالذات منذ ديسمبر وإلى اليوم، عاد الحديث عن ارتفاع جنوني للأسعار المتعلقة بالمواد الغذائية المحلية والمستوردة، وكانت قضية ندرة الحليب المدعم القطرة التي أفاضت الكأس، مما دفع بالجهات العمومية المعنية إلى التحرك سريعا بالنزول إلى الميدان لإماطة اللثام عن ظاهرة استهداف الأسواق الغذائية ومحاولة استفزاز المستهلكين من خلال ضرب القدرة الشرائية. وكان لنزول وزير الفلاحة، عبد الوهاب نوري، في زيارة خاطفة ودقيقة لمركب إنتاج الحليب ببئر خادم، مفعول أدى مباشرة إلى خروج نظيره للتجارة، مصطفى بن بادة، عن صمته في محاولة للإمساك بخيوط الملف، بما يؤدي إلى تفادي انزلاق الأسواق إلى حالة من الفوضى التي أصبحت مصدر قلق وانشغال للمستهلكين وللسلطات العمومية التي تحاول التصدي للأمر بتوسيع مساحة تدخل صلاحيات الضبط والتنظيم وفقا لروح مفهوم اقتصاد السوق الحقيقي الذي يتعارض مع مظاهر الفساد التجاري مثل الاحتكار والمضاربة والتلاعب بالأسعار. لهيب الزيادات الجنونية للأسعار مس كافة المواد الغذائية غير المدعمة من خضر وفواكه وحبوب وحليب مستورد فاق كل التوقعات، في ظل اختفاء أدوات المراقبة التي يعتقد أنها تسهر على كسر أي منحى للمضاربة أو محاولة بعض كبار التجار والمستوردين الانفراد بالسوق والتلاعب بالمستهلكين، متذرعين بأن الأسعار زادت في الأسواق العالمية وأن كلفة الإنتاج المحلي محدودة أو غيرها من العناوين التي ترفع لتبرير أسعار هي أقرب لسياط مسلطة على رقاب المواطنين من ذوي الدخل المتوسط والضعيف. اقتصاد السوق أو حرية الأسعار، هي بمثابة حق أُريد به باطل في ظل غياب أدوات رادعة تندرج تحت إطار الضبط والمراقبة، التي ينتظر أن تشمل أيضا جوانب الفوترة والجودة وإشهار الأسعار المتعلقة بالشراء والبيع بما يساعد على تدقيق هامش الربح الذي يبقى بمثابة الحلقة المفقودة في معادلة السوق. وبالفعل، فإن المسار بين أسواق الجملة وأسواق التجزئة تكتنفه ضبابية كثيفة تؤمّن لمافيا الأسواق رواق الربح السهل والكسب غير المستحق، كما يتسلل كثير من المضاربين وذوي النفوذ الاقتصادي إلى الساحة التجارية التي أصبحت تضيق بالمضاربين لكثرة عددهم، مقارنة بالمنتجين والمستوردين الاحترافيين. في مجال الخضر والفواكه، مثلا، لم يسبق أن فرض التجار قانونهم الجائر، كما هو الحال في هذا الظرف، الذي يتطلب تكريس استقرار على كافة المستويات ومنع ترك الأمور تسير نحو المجهول، بحيث يصبح بارون أو مجموعة بارونات من ذوي النفوذ المالي يتحكّمون في وتيرة معيشة المجتمع. ولعل هذا ما سوف يتم التعامل معه هذه السنة، بإعادة تنشيط آليات ضبط أسواق الجملة، بفرض العمل وفقا لدفتر شروط يحدد مساحة وهامش نشاط تاجر الجملة الذي يبدأ العلاج من مربعه بإضفاء إجراءات عمل تكفل جانبا معتبرا من شفافية المعاملات، بدءا بشفافية هوامش الربح التي يبدو أنها تفلت من الرقابة إلى درجة أن هناك من التجار من يحقق نسب ربح تتفاوت المائة من المائة وأكثر، تتعدى بكثير هوامش الربح التي يحققها المنتج. وعلى سبيل المثال، فإن مواد من المبكرات أو تلك التي تدخل السوق خارج موسمها، تباع بأسعار مبالغ فيها. علما أن للمستهلك مسؤولية أيضا في تركيز الضغط على الطلب، لكن هناك مواد تنتج في موسمها وذات استهلاك واسع ويستفيد فلاحوها من الدعم الذي ترصده الدولة، مثل البطاطس وغيرها، تباع أيضا بأسعار مرتفعة، بالنظر لكلفتها ولمدى كثافة إنتاجها. لقد وجد أغلب ممارسي نشاط التجارة الجوارية، بدءاً من محطة سوق الجملة وصولا إلى دكان الحي، المجال واسعا للعب على تناقضات النصوص وغموض مفاهيم اقتصاد السوق، وتكاد تتحول الأسواق إلى مساحات تنشط خارج القانون، بل ويتحدى أصحابها القانون. ويكفي التنقل إلى أسواق الجملة المختلفة، بما فيها تلك التي تتعامل في المواد الغذائية المستوردة، للتأكد من قوة ونفوذ أصحابها الذين حان الوقت لإدخالهم بيت الطاعة، حتى يلتزم جميع المتعاملين بضوابط الممارسة التجارية القائمة على مبادئ وأخلاقيات مهنية واحترافية لا تخشى الشفافية. وينسحب نفس الاهتمام وربما بشكل أكبر على المتعاملين في مجال الاستيراد، الذين يبدو أن الحابل اختلط بالنابل في تلك المساحة من مجال التجارة الخارجية الدسمة، ولا يعقل أن يستمر وضع استيراد فاحش لمنتجات يكثر عليها التداول بما يضاعف من أسعارها يتحملها المستهلك في نهاية المطاف. ويبدو انه وضع لا يمكن أن يستمر، بالنظر لحساسية الموضوع وأيضا للأموال المتداولة وارتباط السوق بالإطار العام للمجتمع الذي لا يقبل هزات تمتد لمساحات أخرى ذات أهمية للاستقرار العام.