لا شك أن لكل ثورة أوراقها ومواثيقها التي تعتبر بمثابة خارطة طريق، و لعل من أهم ما تتضمنه هذه المواثيق هي الأسباب التي أدت إلى إطلاقها أي تفسير وتبرير الأسباب و توضيح الأهداف لان أي ثورة كانت إلا وتحتاج إلى دعم مادي و معنوي لنجاحها و كذا الأهداف التي قامت من اجلها وليست الثورة الجزائرية استثناءا عن هذه القاعدة، حيث كان لثورتنا المجيدة التي انطلقت في 1 نوفمبر 1954 مواثيق أسمعت من خلالها العالم اجمع أن الشعب الجزائري عقد العزم على التحرر من اكبر طغمة استعمارية عرفها العالم في القرن ال20 كما حملت تلك المواثيق تطلعات الشعب الجزائري إلى إقامة دولته المستقلة و السيدة. إن هذه التطلعات عكسها بيان أول نوفمبر قبل 61 سنة من اليوم حيث بيّن هذا البيان ان انتفاضة الشعب الجزائري هي حركة ثورية واعية بالأهداف التي كانت تسعى الى تحقيقها كما كانت واعية كذلك بالوسائل المعتمدة لتحقيق ذلك و التي كان من بينها الكفاح المسلح و ليس الوسيلة الوحيدة لان بيان اول نوفمبر ترك الباب مفتوحا أمام استعمال أدوات أخرى عندما نص في احد بنوده على استعمال كل الوسائل المتاحة أو بمعنى آخر لا يمكن اختصار الثورة الجزائرية في هذا الجانب، و من هنا يتبين أن ما جاء في بيان أول نوفمبر1954 عكس الوعي السياسي لمفجري الثورة التحريرية التي حاول الاستعمار الفرنسي في حربه الدعائية أن يختصرها في حركة قطاع طرق “فلاقة” أو في انتفاضة اجتماعية من أجل رغيف خبز و فتات ذل “ثورة جوع” لهذا أطلق الجنرال ديغول مشروع قسنطينة العام 1958 ظنا منه أن ذلك سيطفئ وهيج الكفاح المسلح و بهذا سيقتلع الثورة من حاضنتها الشعبية و يجعل مجاهدي جيش التحرير في معزل و لكن ذلك لم يحدث حيث أثبت الشعب الجزائري للعالم اجمع و لكل الذين غالطتهم الدعاية الاستعمارية أن ثورته ثورة مبادئ و قيم إنسانية عالية هدفها الحصول على الحرية و الاستقلال و ليس لقمة الذل و العار و هي الرسالة التي فهمها ديغول جيدا و عندها لجأ إلى سياسة الأرض المحروقة و و أطلق العنان للقمع و التنكيل لخنق الثورة و كان من أبرز مشاهد هذا التصعيد الاستعماري للانتقام من الشعب إقامة خطي شال و موريس الجهنميين ناهيك عن العمليات العسكرية الواسعة التي شاركت فيها كل الوحدات العسكرية الفرنسية بمساندة و دعم من الحلف الأطلسي. إن بيان أول نوفمبر لم يكن مجرد وثيقة عكست حماس شباب قرر خوض مغامرة الكفاح المسلح و لكن قاعدة صلبة و مرجعية لبعث الدولة الجزائرية و إعادة بناء مؤسساتها التي حطمها الغازي الفرنسي و عمل على القضاء على مقوماتها و آثار وجودها منذ وطأت أقدامه ارض الجزائر ،لهذا تضمّن هذا البيان التاريخي شكل هذه الدولة و ذلك قبل اندلاع ثورة نوفمبر 1954 حين نص البيان على إقامة دولة اجتماعية في ظل المبادئ الإسلامية و لا تزال هذه الخلفية النوفمبرية تشكل معالم طريق الدولة الجزائرية إلى اليوم كما هو الحال مع مبادئ الدبلوماسية الجزائرية و مواقف الجزائر من السياسة العالمية التي تعود جميعها إلى وثيقة 1 نوفمبر التاريخية التي نفسر على ضوئها السلوكات الخارجية للجزائر المستقلة. الأكيد أن وثيقة أول نوفمبر ظلت و ستبقى مرجعية الأجيال المتعاقبة و خزان نلجأ إليه لاستلهام المبادئ و المواقف في الوقت الذي أصبحت تبرر فيه المواقف من قضايا مصيرية بالجوانب الاقتصادية و حسابات الربح و الخسارة بدعوى البراغماتية و تحقيق المصالح العليا للوطن و بهذا ضاع الاقتصاد و خسرنا المبادئ و أصبحت الكثير من الدول لا تجد لها تصنيفا في هذا العالم الذي أصبح مزادا علنيا لبيع المبادئ و المواقف بابخس الأثمان و الأدهى من ذلك أن العرض فيه أكثر من الطلب ! ؟.