"إذا كانت مكة قبلة المسلمين والفاتيكان قبلة المسيحيين، فإن الجزائر تبقى قبلة الثوار"، عبارة قالها ذات يوم الزعيم الثوري الإفريقي اميلكال كابرال، لخص من خلالها صدى الثورة الجزائرية التي دوت عاليا خمسينيات القرن الماضي واستلهمت منها حركات التحرر في كل قارات العالم أجمع، فكانت مثلها الأعلى وسارت على دربها لتحقيق حريتها. واليوم ونحن نحتفل بالذكرى ال60 لاندلاع ثورة أول نوفمبر، لا يمكن أن ننسى الصدى القوي والتأثير المبهر لثورة جزائرية، جابهت أعتى قوة استعمارية ودفعت بها إلى التخلي مرغمة عن عدة مستعمرات بنية الاحتفاظ بجوهرتها الجزائر، لكنها خسرت رهانها وانسحبت مطأطئة الرأس تجر أذيال الهزيمة من بلد المليون ونصف مليون شهيد. التقت "المساء" قصد التعمق في مدى تأثير الثورة الجزائرية على حركات التحرر الإفريقية الناشئة، بالمجاهد الطيب الثعالبي "سي علال"، عضو مجلس الثورة الذي أكد أن "الثورة الجزائرية شكلت قدوة لكثير من شعوب القارة الخاضعة تحت نير الإستعمار، ولولا صداها القوي والمساعدات التي قدمتها السلطات الجزائرية لمختلف حركات التحرر، فإن هذه الدول، لا أقول ما كان لها أن تحقق استقلالها أو على الأقل أنها ستتأخر عدة سنوات لتحقيق هذا الهدف، بعد أن دفعت دفعا بعجلة تحرر عدة دول بما يمنحنا الحق في الافتخار بها كأعظم ثورة عرفها القرن العشرين، بالنظر إلى إمكانيات مفجريها المتواضعة مقارنة بالدولة الاستعمارية، بما يجعل منها أعظم من الثورة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي السابق". "من حقنا الافتخار بعظمتها" وكيف لا يمكن اعتبارها كذلك وقد عاد بنا "سي علال" إلى سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي، عندما فتحت الجزائر ذراعيها أمام قادة حركات التحرر الإفريقية للاستلهام والتدريب واستخلاص الدروس. وعدد المجاهد الطيب الثعالبي، على سبيل المثال، أسماء شخصيات إفريقية شكلت رموز الكفاح التحرري في القاهرة وأصبحت فيما بعد وجوها سياسية بارزة، بدءا بالزعيم الثوري الجنوب إفريقي الراحل نيلسون مانديلا ومواطنه ديسموند توتو وجوشوان نكومو وروبيرت موغابي في زيمبابوي وسامورا ماشل في الموزمبيق وباتريس لومومبا في الكونغو واميلكال كابرال في غينيا وسام انجوما في ناميبيا. ولم تكن مساندة الجزائر لكل هذه الحركات التحررية إلا امتدادا لمبادئ ثورتها التي مازالت تؤمن بها إلى يومنا هذا وتبنتها مختلف حركات التحرر وهيئات إقليمية وازنة، على غرار حركة عدم الانحياز. والحقيقة أن ثورتنا التي سمع صوتها في ابعد نقاط العالم كان لها صدى مغاربي تجلي في تشكيل لجنة تحرير دول المغرب العربي ضمن مسعى لتنسيق العمل الثوري والشروع في إطلاق مسيرة التحرر في الدول المغاربية. وفي هذا السياق، قال الدكتور يوسف حميطوش، أستاذ في علم الاجتماع السياسي في معهد العلوم السياسية بجامعة الجزائر، في حديث ل"المساء"؛ إن اللجنة التي ضمت ممثلي حركة انتصار الديمقراطية المصرية وحزب الاستقلال المغربي وحزب الدستور التونسي اتفق أعضاؤها خلال اجتماع عقدوه في القاهرة، على ضرورة دعم كل بلد مغاربي تنطلق فيه الثورة من أجل مساعدته على التحرر. لكن الأستاذ حميطوش أكد أن الصدى الحقيقي لهذه الثورة تجلى انطلاقا من عام 1956، بعد الطابع التنظيمي الذي تبناه قادة الثورة في مؤتمر الصومال بالتخلي عن حرب العصابات والانتقال إلى مرحلة بناء جيش منظم، وهو ما أثر على الإستراتيجية التي اعتمدتها فرنسا في القضاء على ثورة، تأكد منذ انطلاقتها عزيمة مفجريها في بلوغ هدفهم المنشود في الحرية والاستقلال. وأضاف الأستاذ حميطوش أنه مع توالي العمليات الهجومية للمجاهدين وتصاعد وتيرة الكفاح المسلح، وجدت فرنسا الاستعمارية نفسها مضطرة إلى تركيز كل اهتمامها على الجبهة الجزائرية، بعد أن منحت الاستقلال لكل من تونس والمغرب لأن الأمر مرتبط بطبيعة ثورة اندلعت من أجل وضع حد للنظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي القائم آنذاك، من جهة، ولأن فرنسا كانت تسعى من جهة ثانية، إلى تفادي تأثير الثورة الجزائرية على مصالحها في هذين البلدين. لكن ذلك لم يمنع المجاهدين الجزائريين من مواصلة ثورتهم بعزيمة أقوى، رغم الوسائل البسيطة المتوفرة لديهم، مما اضطر فرنسا إلى تغيير إستراتيجيتها مع مجيء الجنرال شارل ديغول الذي اعتمد بين سنتي 1958 و1960 على إستراتيجية عسكرية بأبعاد ثلاثة، يخص الأول المجال العسكري بمنح كامل السلطات للجنرالات الذين قاموا بإقامة خط "شال" المكهرب لتدعيم خط "موريس" وخنق الثورة واعتماد العمليات العسكرية الضخمة، على غرار عملية "الأحجار الكريمة" للقضاء على المجاهدين. بينما اعتمد البعد الثاني على المجال الاقتصادي، من خلال مشروع قسنطينة، وهو مشروع اقتصادي اجتماعي لقطع الشعب عن الثورة، ومحور ثالث سياسي باسم "سلم الشجعان" بين 58 و60 في محاولة لكسر الثورة ووحدة قادتها. وأكد الأستاذ حميطوش أنه رغم تغير الإستراتيجية الفرنسية، لم تتمكن فرنسا من القضاء على الثورة الجزائرية نتيجة التضحيات والمقاومة الشرسة للمجاهدين وعامة الشعب الجزائري، وهو ما أرغمها على قبول "مكرهة" استقلال 14 دولة إفريقية دفعة واحدة في ستينيات القرن الماضي، من بينها الغابون والكاميرون والسينغال ودول أخرى. وهو موقف دفع إلى وصول صدى الثورة الجزائرية إلى أقصى جنوب القارة الإفريقية التي كانت دولها تعاني تبعات نظام التمييز العنصري الذي فرضته الأقلية البيضاء على الأغلبية السوداء، صاحبة الأرض، وصولا إلى أمريكا اللاتينية وتأثر الزعيم الثوري تشي غيفارا بمبادئها وانتصاراتها التي حققتها على أكبر قوة عالمية آنذاك. وأضاف الأستاذ حميطوش أن صداها لم يقتصر على حركات التحرر فقط، فقد بلورة فكرة إنشاء هيئات إقليمية، مثل حركة عدم الانحياز التي أنشئت عام 1961 وأخذت من مبادئ الثورة الجزائرية ودفعت بمجلس الأمن الدولي إلى تبني اللائحة 1514 الصادرة في 14 ديسمبر 1960 والمتعلقة بمنح الاستقلال للدول والشعوب المستعمرة. ولا يمكن ضمن هذا الزخم الذي أحدثته ثورة نوفمبر، القفز على مشاركة ممثلي جبهة التحرير الوطني في مؤتمر باندونغ الذي انعقد في أندونيسيا، شهر أفريل 1955، ستة أشهر فقط بعد اندلاعها، وشكل ذلك أول انتصار دبلوماسي دولي للجزائر "الثائرة" في مواجهة أعتى قوة استعمارية، بعد أن اقتحمت "القضية الجزائرية" مختلف المحافل الدولية والإقليمية، وعلى رأسها الأمم المتحدة. وشكلت مشاركة ممثلي الثورة الجزائرية في هذا المؤتمر، أول صوت لشعب جزائري محتل، فكانت الإنطلاقة قوية من خلال ربط اتصالات مع قادة مختلف الدول المشاركة في مؤتمر باندونغ، مما سمح بالتعريف بعدالة القضية الجزائرية وبحق شعبها في الحرية والاستقلال، وهو ما جعلها تحظى باهتمام خارجي متزايد وأصبحت في نفس الوقت مصدر إلهام لعدة دول إفريقية سارت على نفس نهجها لافتكاك استقلالها من مختلف الدول الأوروبية الاستعمارية. استلهم من فكرها الثوري الفلسطينيون وتأثر به الصحراويون والحديث عن تأثير الثورة على مختلف حركات التحرر عبر العالم، لا يمكن فصله عن السياق العربي، خاصة على مسار كفاح الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني الذي يواصل منذ عقود من الزمن اعتداءاته الممنهجة ومخططاته التهويدية والاستيطانية على أنقاض فلسطين المحتلة. فقد شجع الإنجاز التاريخي الذي حققته ثورة الجزائر ونيلها الاستقلال، العديد من البلدان العربية على نيل حريتها وحافزا أساسيا لبلورة مفهوم الانطلاقة للثورة الفلسطينية، وإعلان حراك حركة التحرير الفلسطيني "فتح" مستلهمة من فكرها أساسا في رسم إستراتيجية الكفاح المسلح واعتماد حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد أسلوبا للممارسة. ولعل تأكيد بيان أول نوفمبر على أن استقلال الجزائر يبقى غير مكتملا، مادامت فلسطين محتلة، إضافة إلى المقولة الشهيرة للرئيس الراحل هواري بومدين؛ "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة" أكبر دليل على الارتباط الوثيق بين الجزائر وفلسطين. وهو ارتباط أكده المجاهد الطيب الثعالبي الذي قال أن فلسطين والجزائر سواء ،وأعرب عن أمله في استقلال الشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة، رغم إقراره بأن كفاحه لا يزال طويلا في ظل احتلال صهيوني غايته الاستيلاء على كل الأرض الفلسطينية لإقامة دولته "العبرية" والقدس المحتلة عاصمتها الأبدية. وليس من الصدفة أيضا أن يؤكد الراحل ياسر عرفات بعد إعلان قيام الدولة الفلسطينية بالجزائر عام 1988، بدلا من عدة عواصم أخرى، أن اختيار الجزائر لهذا الحدث البارز في تاريخ الكفاح الفلسطيني ضد العدو الصهيوني، كان تبركا بأرض ثورة نوفمبر التي ألهمت قادة الثورة الفلسطينية وشجّعتهم على إعلان ثورتهم التحررية في الفاتح جانفي 1965. بهذه الروح وبتلك النتائج، استطاعت ثورة الفاتح نوفمبر 1954 أن تتعدى حدود الجزائر وتمتد إلى العالم العربي وإلى إفريقيا. وغير بعيد عن شعب فلسطين، نجد الشعب الصحراوي يكافح هو الآخر من أجل ممارسة حقه المشروع في تقرير المصير، بعدما انكرته عليه دولة جارة قفزت على كل شرعية دولية وضربت عرض الحائط بكل المواثيق واللوائح الأممية التي أقرت بأحقية شعب الصحراء الغربية في تقرير مصيره. ولأن القضية الصحراوية عادلة، فقد وقفت الجزائر دائما إلى جانب الشعب الصحراوي ونادت في كل المحافل الدولية بضرورة تطبيق الشرعية الدولية بخصوص هذه القضية. موقف أكده رئيس المجلس الشعبي الوطني، محمد العربي ولد خليفة، خلال انطلاق دورة تكوينية في المجلس في 12 من شهر أكتوبر 2014 لفائدة 38 برلمانيا وموظفا بالمجلس الوطني الصحراوي. وأكد ولد خليفة أن وقوف الجزائر إلى جانب القضايا العادلة في العالم "حقيقية دائمة ستبقى مهما كانت الظروف والتغييرات الدولية". وقال بأن "الشعب الجزائري ودولته يقفان إلى جانب الحق ولا يناصران الباطل، وهذه حقيقة دائمة وثابتة وليست مواقف مؤقتة"، بل أوضح بأن هذه المواقف "ستبقى مهما كانت الظروف والتغيرات الدولية التي نراها". أحرار إفريقيا والعالم يعترفون بعظمتها تبقى القضية الصحراوية آخر قضية تصفية استعمار في قارة إفريقية، عانت بلدانها وشعوبها من ويلات الاحتلال الغربي الذي نهب خيراتها وأراد إحكام قبضته عليها، لولا عزم وإرادة أبطال أفارقة رفضوا الاستسلام لأمر واقع أليم وحملوا راية الكفاح والنضال، فوجدوا في الجزائر ما بعد الاستقلال ضالتهم فتدربوا في ثكناتها وتعلموا من تجربتها وآمنوا بمبادئها وحظوا بدعمها على كل المستويات. دعم تجلى بوضوح في خطاب الرئيس الراحل هواري بومدين في المؤتمر الرابع لحركة عدم الإنحياز عام 1973 في الجزائر، عندما قال؛ "إننا نعيش في عصر تجمعات كبرى، الأقوياء لا يرحمون الضعفاء، من أجل هذا، يتعين علينا اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن نعتني بمصالحنا ونقوم بصياغة الأشكال وضبط الوسائل الكفيلة بالدفاع عن مصالحنا الحيوية حتى يرتفع صوتنا في العالم ولا تناقش قضايانا من وراء ظهورنا وفي غيابنا". وأكد أن "استقلالنا لا يكون تاما وسيادتنا تبقى ناقصة مادامت أنغولا وغنيا والموزمبيق وجزر الرأس الأخضر لم ينتصروا على الاستعمار البرتغالي، وشعوب إفريقيا الجنوبية ما تزال تعاني من الميز العنصري". فالجزائر التي خرجت من أبشع حرب مع أكبر قوة استعمارية، وجدت نفسها في قلب فورة تحررية، كانت سببا في اندلاعها ولم يكن في مقدورها التنصل منها، ودعم القائمين بها، ولم يقتصر الدعم على المال والسلاح والدعم السياسي، بل تعداه أيضا إلى تكتيكات الحرب. وأكثر من ذلك، فلم تكن الحركات الثورية في شرق إفريقيا أو غربها وحتى في جنوبها، تستطيع اتخاذ قرار الثورة، ما لم تحظ بدعم السلطة الفتية في الجزائر، حيث تحوّلت إلى أشبه بقاعدة خلفية لها. حقيقة لم ينكرها الثوري الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا الذي أشاد في مذكراته بالثورة الجزائرية التي قال عنها؛ "الثورة التحررية في الجزائر يستحق أن نتذكرها ونعود إليها"، كما تضمنت الرسائل التي أرسلها إلى زوجته "ويني" الكثير من المقاطع التي افتخر فيها بنضال الجزائريين الشرس لاسترجاع استقلالهم وكرامتهم ضد الاستعمار الإستيطاني العنصري، الذي مارسته فرنسا في ذلك الحين. وأكد الرئيس الجزائري الراحل أحمد بن بلة، على العلاقة الثورية الكبيرة التي جمعت بين الجزائر المناضلة لاسترجاع استقلالها وجنوب إفريقيا التي كان حزب المؤتمر الوطني الإفريقي يقودها ضد نظام الأبارتييد العنصري. وأشار إلى لقاء جمعه بمانديلا بمدينة وجدة المغربية على الحدود الجزائرية في شهر مارس من عام 1962، حيث كان الزعيم مانديلا ورفاقه يتلقون تدريبات من طرف نظرائهم الثوار الجزائريين. وبعد إطلاق سراحه في 11 فيفري 1990، بعد ما قضى 27 سنة في السجن، حرص نيلسون مانديلا على زيارة الجزائر، اعترافا بالدعم الذي قدمته لكفاح شعب جنوب إفريقيا ضد نظام الأبارتييد، وتكريما للشعب الجزائري وثورته. فعاد نيلسون مانديلا، ثماني وثلاثين سنة من بعد، إلى البلد الذي تعلم فيه أبجديات استعمال الأسلحة الحربية، وتعلم منه خوض كفاح ضد نظام القمع والاضطهاد. كفاح واصله بعد إطلاق سراحه من خلال العمل من سنة 1991 إلى 1994، على تفكيك الركائز الأخيرة لنظام الأبارتييد الذي استسلم في الأخير، بعد أن فقد مواقعه إلى غاية تنظيم أول انتخابات عامة سنة 1994، جعلت من مانديلا رئيسا منتخبا لجمهورية جنوب إفريقيا. ولا يمكن الحديث عن الزعيم الإفريقي الراحل نيلسون مانديلا دون الحديث عن شخصية ثورية جال صوتها في العالم أجمع، وهو تشي غيفارا ثوري كوبي ماركسي أرجنتيني المولد لم يبخل بخبرته بوصفه خبير في حرب العصابات في تقديم الدعم لثوار إفريقيا، وكان أشرف بنفسه وبعض القادة الجزائريين والكوبيين على تدريب الثوار الأفارقة بالجزائر. فلا يمكن لثوري مثل تشي غيفارا أن لا يقف إلى جانب الثورة الجزائرية التي صنفت حسب التاريخ الحديث، بأم الثورات، وهي التي كانت قبلة الثوار ومكة الأحرار منذ خمسينيات القرن الماضي، بل كان أحد أبطالها وجسرا بينها وبين كوبا والأرجنتين وغواتيمالا والكونغو وبوليفيا وكل الدول المنتفضة والمجاهدة في سبيل الحرية. ولعل خطبته الشهيرة في الجزائر في فيفري 1965، مازالت محفوظة في الذاكرة الجماعية للشعب الجزائري الذي قدم فيها رؤيته وفكره للدفع بدول العالم الثالث نحو التنمية والتصدي لأشكال الاستعمار الجديد.