عرض، أمس، بفضاء فرانز فانون برياض الفتح الفيلم الوثائقي «إلى السلاح، أنديجان» لمخرجه بوزيد ولد حسين، الذي يتطرق إلى مشاركة الجزائريين القسرية في الحرب العالمية الأولى، وما تأتى عنها من قتلى وجرحى ومعطوبين، ومجاعة عانى منها شعب لم تكن له أي علاقة، لا من قريب ولا من بعيد، مع هذه الحرب. وقال مخرج الوثائقي بوزيد ولد حسين، إن كل العمل أنجز بمادة أرشيفية، وقد أخذ هذا الكثير من الوقت، لأن الأرشيف نادر، في البدء كانت الفكرة أن يعيش فنانون شباب من مدرسة الفنون التشكيلية هذه الفترة، وأن يعبروا عنها بطريقتهم، ولكن ذلك لم يكن ممكنا. وأضاف: «بدون الرجوع إلى الذاكرة فإننا لا نستطيع المضي قدما.. هناك الكثير من الأمور التي تحدث الآن والتي نستطيع تفسيرها بالتاريخ». ونقل الوثائقي، الذي عرض في نسخته القصيرة (33 دقيقة، فيما تحمل النسخة الطويلة عنوان: «الجزائر المكشوف عنها») شهادات مؤرخين جزائريين.. حيث تحدث المؤرخ كمال بوقسة عن منهجية الترحيل والاستيلاء على الأراضي، ومختلف القوانين الفرنسية الجائرة، التي قضى بها الاستعمار على التكوين السابق للمجتمع الجزائري. وكانت المستعمرات تشكل حلا للعديد من أزمات فرنسا «الأم»، حيث اعتبر «جول فيري» بأن «ما ينقص الاقتصاد الفرنسي القوي هو فضاءات لتسويق المنتجات، والمستعمرات تشكل حلا يمكن اللجوء إليه». ولمواجهة التسلح الألماني الكبير، تقرر سنة 1912 فرض «ضريبة الدم» كما أسمتها الإدارة الفرنسية، أو «دَيْن الدم»، واعتمدت القرعة لاختيار الجزائريين الذاهبين إلى الحرب. وكرد على هذه التدابير هاجر الجزائريون إلى سوريا حتى لا ينخرطوا في الحرب، ودفع المتعاونون مع الاستعمار أموالا لغيرهم حتى يعوضوا «أبناء القياد». وهناك من «المستنيرين» من قبل المشاركة مقابل رفع قانون الأهالي وخفض الضرائب ومطالبات أخرى، ولكن الاستعمار الفرنسي رفض المقترح. وساد تخوف الجزائريين من «العسكرية» ودخول حرب ليسوا معنيين بها، وبرزت هذه المعارضة من خلال الأغاني والشعر الشعبي، وكأمثلة على ما ورد في الوثائقي: «يا الفرنسيس واش في بالك، دزاير ماشي ديالك، يجي لالمان يديهالك، دزاير ترجع كيف زمان».. فالجزائريون كانوا يغنون ما لم يستطيعوا قوله بحرية، وهذه المادة الثقافية تشكل كنزا تاريخيا لفهم تلك المرحلة. وكمثال آخر نجد: «هذا زمان سكوت، من تكلم الباطل ثبوت، ومن تكلم الحق يموت»، وهو ما وجد مكتوبا في المسجد الكبير. بعد عملية سراييفو الشهيرة تندلع الحرب العالمية الأولى، وفي 4 أوت تقنبل بارجتان ألمانيتان شواطئ عنابة وسكيكدة، ليجد 173 ألف مقاتل جزائري أنفسهم في جحيم حرب الخنادق. بالمقابل، يذكر الوثائقي ثورة بني شقران قرب المحمدية ضد الخدمة العسكرية، التي عرفت مهاجمة نقاط فرنسية، وكان الرد الاستعماري قويا وهمجيا، تجسد في عمليات الإعدام أو النفي إلى كايان.. كما كانت المقاومة قوية أيضا في الأوراس، وقابلها قمع كبير في عين توتة، دوار اولاد عيوف وبريكة. وأشار الفيلم إلى شجاعة الجزائريين في الحرب العالمية الأولى، واستشهد برسالة المجند الجزائري «علي» من معسكر: «إننا نبيت في مغارات تحت المطر، وتحت أصوات مدوية.. لقد هجر الإله هذه البلاد». وكانت الرسائل مراقبة وهذا دليل على أن الجنود الجزائريين كانوا يعانون من التمييز. فهم مراقبون بشكل دائم، ولم يكن لهم نفس المعاملة مع الجنود الآخرين، بل ومنع عليهم الدخول في اتصال مع المجتمع الغربي، فقد يعطيهم ذلك أفكارا عن الحرية والعدالة والمساواة ويدفعهم إلى التمرد. وفي ذلك يقول المؤرخ عبد المجيد مرداسي: «أغلب المجندين مزارعون من الريف ذوو مستوى تعليمي ومهني متدني، ويجدون أنفسهم في معركة طاحنة لا تعنيهم». وهناك أيضا من استغل في مصانع التسليح والمواد الكيمياوية، المناجم والزراعة، وهذا يظهر استغلال الجزائريين كعمالة «رخيصة». بالمقابل، تظهر الصور أن فرنسا تعتني بجنودها القادمين من المستعمرات وتتركهم يحتفلون. وبتجنيدهم في أوروبا، سيكتشف المجندون الجزائريون أن فرنسا ليست هي نفسها تلك التي يعرفونها في الجزائر، هذه الأخيرة كان أبناؤها يقبعون تحت وطء المجاعة، بدليل الشعر الشعبي: «يا ربي والطف بالحال، هاد الغلا علينا طال». بنهاية الحرب، لقي 25711 جزائريا حتفه، كما سجّل 72 ألف جريح، و9 آلاف معطوب. وبعودة المجندين إلى ديارهم، وجدوا جزائر أعيتها الحرب، فالأسعار زادت ثلاثة أضعاف، فيما استعرض المعمرون ثراءهم الفاحش. كما نتج عن الحرب بداية حركة وطنية ستغير العلاقة بين الفرنسيين والجزائريين، تجسدت في رسالة الأمير خالد إلى الرئيس الأمريكي ولسون، يذكره فيها بأحد مبادئه التي أعلن عنها في جانفي 1918، وهو الحق في تقرير المصير.