تحيل القصيد المبدع على السرد لأنه الأقدر على نقل هذه التجربة استضاف قصر الثقافة مفدي زكريا العدد الثاني من «موعد مع الرواية» الذي يشرف عليه الروائي سمير قسيمي. ونشط هذا اللقاء، الذي جاء تحت عنوان «بين الرواية والشعر: تداخل أجناس أم رحلة في اتجاه واحد» كل من ناصر باكرية، عبد الرزاق بوكبة وأحمد عبد الكريم، وكلّ واحد من هؤلاء عاش تجاربه الإبداعية في الرواية والشعر، وعبّر عن مكنوناته بما أتيح له من أدوات أدبية وإبداعية. كانت البداية مع ناصر باكرية، الذي رأى في كل محاولة لمقاربة موضوع تداخل الأجناس الأدبية وعلاقة الشعر والنثر بأنها «تكون تجزيئية ما لم تتخذ زوايا متعددة، منها تأصيل فكرة نشوء الأجناس الأدبية». ومن هذا المنطلق بدأ باكرية مداخلته، فحسبه بدأت الفكرة من الثقافة اليونانية، وكانت الإرهاصات الأولى مع تقسيمات أفلاطون الذي استبعد الشعراء من مدينته الفاضلة ونظر بنوع من الاحتقار للشعر الذي اعتبره مجانبا للحقيقة والصدق. وفي التراث النقدي العربي، أخذت هذه المسألة حيزا كبيرا عند النقاد القدامى، فالمفاضلة بينهما طغى عليها تفضيل الشعر والانتصار له على حساب النثر، لأسباب تاريخية وشيوع الثقافة الشفهية. كما اعتبر أن هناك منحيين: ومثل المنحى الأول ابن قتيبة وأبوهلال العسكري وحتى الجاحظ الذي انتصر في كتاباته انتصر للشعر، وابن رشيق القيرواني. غير أن فكرة «الشعر ديوان العرب» لم تكن تشكل إجماعا عند النقاد العرب، فابن جني مثلا تحدث عن حكمة اللغة العربية يردّ الفكرة الإبداعية إلى اللغة في حد ذاته وكأنه يقلل من شأن المبدع ويغلّب دور اللغة. وقدم المرزوقي مجموعة من الأدلة والبراهين التي تثبت أفضلية النثر على الشعر، فالشعراء حطوا من قيمة الشعر ومدحوا من هو أقل شأنا الشعر أدنى مروءة السريّ وأسرى مروءة الدنيّ. في العصر الحديث «القرن 19» بدأت العلاقة تأخذ منحى آخر وهو ما يوحي إلى فكرة العولمة، فشيوع فلسفة المساواة هو ما تسرّب إلى الأدب والمساواة بين مختلف الأجناس الأدبية. وأشار باكرية إلى التيار الرومانسي حيث كان موريس بلانشو أول من نفى وجود الأجناس الأدبية، وضرورة إذابة الحواجز بين الأجناس. ليخلص إلى المشهد الحاضر مستشهدا بجابر عصفور في كتابه «زمن الرواية»، وأدونيس في كتابه «زمن الشعر»، حيث انتصر كل منهما لجنس من الجنسين، النثر والشعر. اللحظة الإبداعية تفرض اختيار الأداة من جهته، انطلق عبد الرزاق بوكبة من محكية صغيرة ليقبض على روح الشعر والرواية، فكلاهما طريقة تعاطٍ للوجود. وروى أن صديقين كانا يسيران في الصحراء وفجأة صفع أحدهما الآخر، وأراد الثاني القيام برد فعل فكتب على الرمل «ضربني صديقي. ثم مشيا حتى ما إذا علق الثاني في الرمل الذي كاد يبتلعه، أنقذه الأول فكتب الثاني في الصخر «أنقذني صديقي»، وجاءت ريح فذهبت بما كتب الأول على الرمل وأبقت على ما نقش الثاني على الصخر. ويرى بوكبة بأن الكتابة الأولى القائمة على المحو هي لحظة شعرية، كونها مبنية على اللحظة، أما الكتابة الثانية فهي لحظة روائية لا تتعاطى مع الحالة وإنما مع الزمن والرؤية. وبالعودة غلى تجربته الخاصة، قال بوكبة إن «العبرة ليست بما كنته في الجامعة بل بما نشرته، لذا فأنا لم أتحول، لقد أحرقت ما كتبته من قبل من قصائد لأنني بدأت أعيش واقعا جديدا». مضيفا بأن كتابه «من دس خف سيبويه في الرمل»، هناك من صنفه شعرا وهناك من صنفه نثرا. «أحاول دائما أن أعي لحظتي لكي يحدد هذا الوعي طبيعة الجنس الذي أكتب. وقد أكتب أحيانا نصا يعانق فيه الشعر السرد.. أحيانا يواجه المبدع تجاربا إنسانية يكون السرد فيها أقدر على كتابتها، وتحيل القصيدة المبدع على السرد لأنه يكون الأقدر على نقل هذه التجربة.. الفن لا يشترط تمثيل الواقع كما هو»، يقول بوكبة، مؤكدا على لحظات معينة في الإبداع أرقى من كل تصنيف: «لحظة المراهنة على الإنسان هي لحظة الكتابة العميقة، وهناك ينتفي التجنيس.. لحظة الاستماع إلى الذوات المسحوقة أيضا ينتفي فيها التجنيس.. إنني أكتب ولا يهمني أن يقال عني إنني شاعر أو كاتب، ما يهمني أن يقال عني إنني لست إنسانا». سؤال لا يجوز طرحه أما أحمد عبد الكريم، فقال «وكأن هذه الندوة تأتي في لحظة حاسمة تعيشها الرواية الجزائرية تحديدا، لا أستطيع أن أجزم في ذلك». معتبرا أن الشعر الجزائري مع جيل الثمانينيات وصل إلى مأزق وأفلس هذا الجيل فعليا، ونفس الشيء تعيشه الرواية الآن، وكان العديد من الأسئلة يجب أن تطرح سابقا، حول الرواية والشعر والعديد من القضايا الثقافية قبل اليوم بكثير، «لقد تأخرنا كثيرا قبل طرحنا هذا السؤال». وتساءل عبد الكريم: «من يستطيع أن يحدد مالك حداد، أو كاتب ياسين، بدون أن يسبق ذلك توصيفه إن كان شاعرا أو روائيا؟ الأول كان شاعرا ولم يطرح عليه سؤال الترحال لما انتقال إلى الرواية، والثاني بدأ بالكتابة ولم يطرح عليها السؤال.. وأحلام مستغانمي بدأت شاعرة وانتهت روائية ولم يطرح عليها السؤال». ورأى في الشعر مرجعية في الثقافة العربية، ووافق بوكبة في وجوب مقاربة مسألة الشعر والنثر بعيدا عن محاولة التجنيس، ف»كل الأجناس الأدبية تنصهر في مفهوم الكتابة». ما هي نظرية الأجناس الأدبية؟ يشير مصطلح نظرية الأجناس الأدبية إلى مبدأ تنظيمي يصنف الأعمال الأدبية تبعاً لأنماط أدبية خاصة من التنظيم أو البنية الداخليين لهذه الأعمال، وتستمد غالب هذه الأنماط من الأعمال الأدبية الرفيعة التي تتحول تقنياتها وقواعدها ومبادئ تنظيمها وطرق بنائها، بفعل جملة من العوامل الاجتماعية، إلى معايير يأخذها الكتاب بالحسبان عندما ينشئون نصوصهم، ويجعل النقاد من هذه المعايير كذلك منطلقاً في تقويمهم للنصوص التي يواجهونها، كما يحدد بها القراء آفاق توقعاتهم من النصوص عند قراءتها وتقديرها. ونجد أفلاطون قد ميّز بين نمطين من أنماط إعادة إنتاج موضوع، أو شيء أو شخص ما، هما نمط الوصف أو التصوير بالكلمات ونمط المحاكاة. ولما كان الشعر، أداة الأدب الأقدم، في إعادة إنتاجه للموضوعات الخارجية، فقد قسمه أفلاطون إلى شعر محاكاة مباشرة للأشخاص هو الشعر المسرحي، وشعر وصف وتصوير للأعمال الإنسانية هو الشعر السردي.. وبناءً على هذا، فلسنا ندري كيف اعتبر ناصر باكرية بأن أفلاطون «أقصى الشعر وحقّره»؟ كما أن الأسماء التي كان يمكن ذكرها في هذا المجال كثيرة، مثل أرسطو، مينتورنو، شليغل، سيموندز، برونتيير، ريناتو بوتجيولي، وصولا إلى معارضي نظرية الأجناس مثل كروتشه، جاك دريدا ورولان بارت.. ومن دون الرجوع إلى منظري هذه المقاربة الأدبية، فما هي إذن فائدة الاعتماد على المفهوم ثم قبوله أو رفضه؟