جعلت من التضحية والعطاء هدفها الأسمى، فكانت لما يقارب العشرين سنة المرأة التي صار لقب «المناضلة» لصيقا بها، لأنها كالشمعة التي تحترق من أجل تستضيء حياة الآخرين، هي امرأة حذفت من قاموسها ضمير المتكلم ووضعت مكانه ضمير الجمع، لأنها وبكل بساطة لا تريد جزاءً ولا شكوراً... تكشف «الشعب» بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، النقاب عن حياة هذه السيدة التي تعيش في ظل الجمعية التي تترأسها لخدمة مرضى السرطان الذين تعودوا تواجدها في حياتهم، تخفف من آلامهم وتواسيهم في أحزانهم وتحنّ عليهم عندما يقسو عليهم الزمن. قصة حميدة الطفلة مع مقبرة سيدي امحمد ولدت حميدة كتّاب وسط عائلة ثورية، فأمها المجاهدة زوليخة زاييش رفيقة جميلة بوحيرد في السجن، زهرة ظريف وأخريات... هذه الأم التي رفضت الخنوع للاستعمار وحملت السلاح لمحاربته، غرست في ابنتها تلك الطباع التي تجعل من العطاء والتضحية الهدف الأسمى في حياتها والإرادة القوية الوسيلة الناجعة لتحقيق إنسانيتها على أرض الواقع... بدأت بوادر الشخصية القوية لحميدة تظهر منذ طفولتها أين كانت في صغرها رفقة صديقتها «أمال» في كل عيد فطر تجمعان المال الذي يعطيهما إياه الأقارب بهذه المناسبة السعيدة وتشتريان به زهورا تضعانها على القبور التي لم يزرها أحد يوم العيد بمقبرة سيدي امحمد بالعاصمة. هذا السلوك غير العادي بالنسبة لطفلة لم يتجاوز سنّها العشر سنوات، عكس روحا معطاءة داخلها، ولكن تأبى الحياة أن تعطيها الفرصة المثالية لتفجير هذه الطاقة، لأنها تدرجت في مستواها التعليمي إلى أن أصبحت حميدة كتاب أستاذة رياضيات بجامعة هواري بومدين بباب الزوار. ورغم النجاح المذهل الذي حققته في دراستها، إلا أنها شعرت دائما أن هناك من يحتاج إليها في مكان ما، هو نداء الروح الذي تريد أن تحقق ذاتها في العطاء والتضحية... ولكن يشاء القدر أن تكون المأساة سببا في دخولها العمل التطوعي... تروي حميدة كتاب، أنها عندما كانت في زيارة لإحدى قريباتها في مستشفى مصطفى باشا الجامعي مصلحة «بيار وماري كيري»، التقت الطفلة فتيحة التي كانت تخضع للعلاج في تلك الفترة، رؤيتها على تلك الحالة المزرية وهي ما تزال طفلة، جعلها تزورها في كل مرة رغم مغادرة قريبتها المستشفى، لكن وبعد تركها المستشفى اتصلت بها والدة الطفلة «فتيحة» من دلس لتخبرها أنها توفت وطلبت منها الاتصال بجمعية «الأمل» لمساعدة مرضى السرطان لمساعدتها في دفن ابنتها... هذه الحادثة جعلت حميدة كتاب تصبح إحدى المتطوعات في هذه الجمعية التي كانت تعمل المستحيل من أجل المرضى الذين كانوا يعانون كثيرا في تلك الفترة بسبب انعدام مراكز السرطان، حيث كانت «مصلحة بيار وماري كيري» تستقطب المرضى من أقصى الجنوب الجزائري، وبدأت عملها التطوعي في سنة 1997 لتجد حميدة كتاب في داخلها من جديد تلك الطفلة التي كانت تضع الزهور يوم عيد الفطر على قبور من لا أهل لهم يتذكرونهم. قالت حميدة كتاب، إن التحاقها بالجمعية كان بالنسبة لها إشباعا لرغبة قوية داخلها على مساعدة المرضى، لكن مع مرور الوقت لم تستطع البقاء بعيدا عن هذا العالم، لذلك تخلت عن عملها وعن كل شيء وكرّست كل وقتها وحياتها من أجل هدفها الأسمى في العطاء والتضحية. ومنذ سنة 1999 أصبحت عضواً بالجمعية، التي أصبحت أمينتها العامة بعد أربع سنوات فقط من التحاقها بها... وأكدت أن العمل هو بالنسبة لها التزام معنوي وأخلاقي قبل أي شيء آخر... احتكاك حميدة كتاب بمرضى السرطان خاصة في تلك الفترة جعلها تطلع على الواقع المر، فالتكفل بهذه الفئة من المرضى كان شبه منعدم، كما أن المجتمع كانت له نظرة سيئة لمرض السرطان، فهذه النظرة القاصرة كانت السبب في طلاق الكثير من النساء المصابات بسرطان الثدي، فحتى ذكر اسمه كان مرفوضا في المجتمع، فكان يشار إليه ب «هداك المرض»، وكان الحديث عن سرطان الثدي من الطابوهات، لأنه يصيب منطقة حساسة من جسم المرأة وحتى العلاج الكيميائي كان يسمى في تلك الفترة ب «التريسيتي»... الوقاية خير من العلاج... في ظل غياب الوعي كان لزاما على حميدة كتاب أن تركز في بداية مشوارها على تقديم المساعدة الاجتماعية للمرضى، لكن تكوينها العلمي ورغبتها الشديدة في تغيير الواقع المر الذي يعيشه مرضى السرطان، جعلها تفكر في توعية المجتمع بكل أسرار هذا المرض حتى يتقبله كأيّ مرض قد يصيب أي شخص كان، لذلك وضعت استراتيجية عمل لجمعية «الأمل» تقوم أساسا على حملات التوعية والتحسيس، فعوض انتظار الإصابة بالمرض، نقوم بالوقاية منه من أجل تقليل عدد المصابين به. ومنذ سنة 2008 أصبحت الجمعية تضع الوقاية ضمن أولوياتها، خاصة فيما يخص سرطان الثدي الذي يعد السبب الأول في وفيات النساء، حيث تسجل الجزائر أكثر من 3000 حالة وفاة كل سنة. وبذلت حميدة كتّاب قصارى جهدها من أجل ألا يكون هذا السرطان القدر المحتوم لأيّ امرأة، فاستعملت كل الوسائل الممكنة من أجل تحقيق هدفها، فلم تترك وسائل الإعلام بكل أنواعه المكتوب، المسموع والمرئي، وكذا شهادات حية لمريضات عانين من المرض، كل تلك الجهود جعلت من سرطان الثدي مرضا عاديا وجعلت المجتمع يكسر الطابو ويتكلم عنه بطريقة عادية، أو كما قالت حميدة كتاب. قالت حميدة كتاب، إن هدفها في الحياة هو العطاء والتضحية ولن أستطيع العيش بعيدا عنه، لأنه الجوهر الذي تتحقق به ذاتي وكينونتي. وأكدت في نفس السياق، أنه على كل إنسان أن يجعل لنفسه هدفا يعيش لتحقيقه ولا يجب أن نحصر اهتماماتنا في كسب المال فقط، لأننا بذلك سنعيش في حلقة مفرغة، ستشعرنا مع مرور الوقت بالفراغ. مكاسب رسخها عمل وتفاني المرأة عن مكانة المرأة، صرحت حميدة كتاب، رئيسة جمعية «الأمل»، بأنها استطاعت تحقيق الكثير من المكتسبات التي جعلت منها عضوا فاعلا في المجتمع في مختلف المجالات، مهما كانت صعوبتها... فاليوم هي الطبيبة، الوزيرة، الوالية، النائب في البرلمان والأم المكرسة حياتها لعائلتها... والأكيد، كما قالت حميدة كتاب، أن المرأة اليوم هي مع الرجل جنبا إلى جنب، بعيدا عن النظرة القاصرة التي تعتبرها أقل شأنا من الرجل. ولأن الله لا يضيع عمل أحد، فإن حميدة كتاب تلقت الكثير من التكريمات والتشريفات، أهمها كان في 2012، حين كرّمها رئيس الجمهورية اعترافا منه بالمجهودات التي تبذلها من أجل مساعدة مرضى السرطان في كل أرجاء الوطن. ولأن حميدة كتاب عنوان للبساطة والتواضع ترى أكبر تكريم بالنسبة لها هو التخفيف عن المرضى الذين تحسنت وضعيتهم مقارنة مع السنوات الماضية بسبب المجهودات التي بذلتها الدولة للتكفل بهم، خاصة فيما يخص فتح مراكز السرطان ما خفف عنهم وعن أهلهم عبء التنقل. الجلسة التي جمعتنا مع حميدة كتاب رئيسة جمعية «الأمل» لمساعدة مرضى السرطان، جعلتنا نرى فيها المرأة التي لم تهزمها الصعوبات ولم تثبط من عزيمتها أي عوائق مرت بها في حياتها، لأنها في كل يوم سؤالها الأهم هو: ما هي بصمتي في هذه الحياة؟؛ سؤال جعلها المثال الذي نكتب عنه اليوم، وفي رحلة لا تنتهي لتغيير وضع مرضى السرطان إلى الأحسن،... هي بحق المرأة المناضلة التي تملك الإرادة الفولاذية التي صنعت حميدة كتاب اليوم.