«الاعلام بات في وقتنا الرّاهن يتجاوز دوره التقليدي، إذ تحوّل من ناقل للأحداث إلى صانع لها، وفق أجندات جهات تدفع المال لتغليط الرأي العام وتحويل مسار اهتماماته بالقضايا المطروحة على الساحة العالمية «هذا الكلام للأستاذ محمد برقان من جامعة أحمد بن بلة بوهران، الذي يحللّ في حواره مع «الشعب» العلاقة الوثيقة التي تربط الاعلام بالسياسة، حيث أصبح النظام الاتصالي بالنسبة للنظام السياسي - كما قال - كالقلب بالنسبة للدورة الدموية وباتت السياسة تركب الاعلام وتستغله لتحقيق مآربها الخاصة. وقد خلص الاستاذ برقان إلى أن العديد من الفضائيات تحولت من قاعات للتحرير ألى ما يشبه المراكز العسكرية التي تدير العمليات عن بعد، وكان لها اليد الطولى في ما شهدته ولازالت بعض البلدان العربية من أزمات وحروب تحت مسمى «الربيع العربي» وقال بأنها لم تكن تنقل المأساة بل تصنعها ... أسئلة كثيرة عن الخلل الكبير الذي أصبح يميز العلاقة بين الاعلام والسياسة وعن التضليل الاعلامي وأخلاقيات المهنة، يجيب عنها الاستاذ محمد برقان في حواره مع «الشعب». « الشعب» بين الإعلام والسياسة شعرة رفيعة فهل من تعريف للعلاقة الكامنة بينهما؟ الأستاذ محمد برقان: فعلا يوجد بين الإعلام والسياسة شعرة رفيعة وعلاقة وطيدة، لا يمكن لأحدهما الاستغناء عن الآخر، فإذا علمنا أن السياسة لغة مشتقة من فعل ساس أي روَض ولعلمكم بأن سيدنا إسماعيل عليه السلام هو أول من ساس الخيل أي روضها وهيأها للركوب فقبله لم تكن ترُكب ومنه جاءت كلمة سياسة أي فن ترويض أذهان الناس وقيادتهم نحو فكرة معينة أو اتجاه معلوم، ولاشك أن هناك ارتباط وثيق بين الإعلام والسياسة، حيث لا يمكن ممارسة السياسة من خلال التأثير في الجماهير بدون إعلام قوي، فالسياسي يريد الوصول إلى جماهير عريضة للدفاع عن أفكاره، ووسائل الإعلام بذلك حلت جدلية الزمان والمكان أي الوصول إلى أكبر جمهور ممكن في أقل وقت ممكن. الإعلام في المعترك السياسي تحوَل إلى سلطة رابعة بل إلى سلطة أولى في سلم السلطات الثلاث الجديدة على حدّ تعبير المفكر ألفين طوفلر في كتابه السلطات الجديدة: العنف (ويقصد به القوة العسكرية)، الغنى (و يقصد به الثروة الاقتصادية) (الإعلام أو المعلومة)، ولعلّ الباحث دافيد ايستون عبّر بدقة عن علاقة النظام السياسي بالنظام الاتصالي عندما قال: «إن النظام الاتصالي بالنسبة للنظام السياسي كالقلب بالنسبة للدورة الدموية». صانع للحدث والرأي يشعر الكثير منا بأن الإعلام تحوَل من ناقل للحدث الدولي إلى صانع له، والانحياز أصبح يطغى على الموضوعية، فما تعليقكم؟ كلامك صحيح، نحن نعلم أن «الواقعية» تمثل قيمة من القيم الخبرية التي يعتمد عليها الإعلام في الكتابة الصحفية، وهي تعني أن الحدث أو الخبر قد وقع فعلا وليس من نسج الخيال، لكن الإعلام في السنوات الأخيرة تحوّل إن لم نقل حوَلت وظيفته من ناقل للحدث إلى صانع له فبعدما كان الإعلام ينقل بعين الموضوعية الأخبار المحلية والدولية لتنوير الرأي العام والمساهمة في إيجاد حلول سريعة للمشاكل والأزمات، أصبح اليوم لخدمة أجندة معينة يفبرك وينسج أحداث خيالية لتغليط الرأي العام وتحويل مسار اهتمامه من قضايا جوهرية كالقضية الفلسطينية وغيرها من القضايا الهامة بالنسبة لنا كعرب مسلمين إلى قضايا مصطنعة من قبل أنظمة سياسية تريد تطبيق أجندتها الدولية للهيمنة، وهذا ما يعرف عند الأكاديميين بنظرية الأجندة، أي مساهمة وسائل الاعلام في ترتيب أولويات الجمهور إزاء القضايا الهامة في العالم ولعلّ الكثير لا يعلم أن هذه النظرية بالذات أوجدت لصرف اهتمام الجمهور في الولاياتالمتحدة عن فضيحة الرئيس الأمريكي نيكسون: «ايران غايت» فوسائل الإعلام انتقلت من مهمة إعلامية موضوعية إلى مهمة دعائية منحازة. سجلنا خلال ما يسمى خطأ ب»الربيع العربي» أن قاعات تحرير كبيرة وفضائيات شهيرة تحوّلت إلى ما يشبه مراكز عسكرية لإدارة العمليات فما قولكم؟ فعلا ما يسميه البعض ب»الربيع العربي» أعتبره شخصيا دمارا أجنبيا بمعاول عربية على الأقل في بعض الدول التي وصلتها هذه العدوى كسوريا وليبيا، فما شهدته هذه الدول جلب العار والدمار للأمة العربية والإسلامية، فبعض وسائل الإعلام العربية والعالمية لها اليد الطولى في تأزيم الأوضاع وتفاقم الكوارث، فلولاها لما وصلنا إلى الأوضاع المأساوية اليوم، بعض الفضائيات كانت تصبّ الزيت على النار - كما يقال - وتوهّم العالم بأنها تنقل المأساة بل كانت تصنعها وهذا ما شاهده الجمهور فعلا - بعض قاعات التحرير في فضائيات يعرفها الخاص والعام تحوّلت إلى مراكز عسكرية لإدارة العمليات على المباشر والكل يذكر التحليلات المباشرة لعمداء وألوية عسكرية للعمليات العسكرية في دول ملتهبة من بلاتوهات الفضائيات، حيث وقفنا على تحليلات بخرائط عسكرية لمسرح العمليات وغيرها، وهذا يدلّ على وقوع هذه القنوات في فخّ مخططات أجنبية تسعى الى إعادة تفكيك خريطة العالم العربي الإسلامي، وهذا لا ينفي حقّ التّغيير المشروع، لكن الثمن كان باهضا والنتائج كانت عكسية. سلاح الدعاية والإشاعة ألا تعتقدون بأن الإعلام ساهم من حيث يدري أولا يدري في توتير الأجواء بالعالم وخلق أزمات إنسانية مروعة؟ دعيني أقول في البداية، أن دور الإعلام في إدارة الحروب ليس وليد اليوم أو الأمس، بل قديم ونحن نعلم ان الحربين العالميتين لعبت فيهما وسائل الإعلام دورا بارزا ومحوريا في الصراع الذي كان بين دول المحور بقيادة ألمانيا ودول الحلفاء بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية. ولعلّ الدعاية الألمانية من خلال وسائل الإعلام المتطورة آنذاك كالإذاعة (سمي عصر ثلاثينيات القرن الماضي بالعصر الذهبي للإذاعة)، كان له وقع كبير في إدارة هاتين الحربين المدمرتين، واليوم وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية بقدر ما ادعت بأنها منبرا حرا لمن لا منبر له في الدول التي مسّتها عدوى الاحتجاجات والفوضى، بقدر ما ساهمت في توتير الأجواء في دول العالم أجمع وخلق شرخ كبير في العلاقات الأخوية بين دول الأمة الواحدة كالأمة العربية، من خلال دفع الرأي العام الى الثورة على النظام القائم، فدولة مثل سوريا كانت حسب اعتقاد الكثير منا - من بين الدول الأكثر أمنا في العالم بشهادة كل من زارها، وحرية التدين وممارسة الشعائر الدينية فيها لا نجدها في الكثير من الدول العربية، والنتيجة اليوم كارثة إنسانية بكل المقاييس والتي فاقت كل التصورات، أكثر من 200 ألف قتيل وتشريد أكثر من 7 ملايين سوري وتدمير كامل للبنية التحتية وظهور تنظيمات إرهابية أشد تطرفا من التطرف نفسه ( تنظيم داعش الدموي على وجه الخصوص)، وانعكاس جرائمها على دول العالم أجمع. والدمار لا يخص سوريا فحسب بل دول أخرى مثل اليمن وما يجري فيها اليوم من تدمير شامل، بالإضافة إلى دول الجوار أيضا كليبيا وما تعرفه من أزمات سياسية وإنسانية تشكل وصمة عار على جبين من ساهم في تأجيج الأوضاع فيها وعلى رأسها طبعا وسائل الإعلام. كيف للإعلام أن يصحّح مساره، ويستعيد دوره البنّاء وليس الهدام؟ الإجابة بكل وضوح، على القائمين على وسائل الإعلام أن يدركوا أن مهمة الإعلامي هوتنوير الرأي العام وخدمة مسار التنمية في البلاد ونصرة القضايا العادلة بمواد إعلامية راقية وموضوعية والابتعاد على كل ما من شأن تعكير الجو وعدم الانسياق وراء بعض سماسرة التضليل السياسوي وخدام أسياد العالم من الذين يسعون بكل ما أوتوا من مكر وخداع إلى ضرب استقرار البلاد والعباد في العالم العربي والإسلامي، فعلى الإعلام النأي بنفسه عن تشويه الواقع وأن يكون مرآة للحقيقة التي تبني ولا تهدم، وأن يميز الصحفي بين الواقع المقدس والرأي وعدم الدمج بينهما خشية الوقوع فيما لا يحمد عقباه وصدق الإعلامي الراحل محمد حسنين هيكل عندما قال: «قد أستطيع أن أعيش إذا قلت لي كل ما يجري بدون آراء ولكن كيف أستطيع أن أعيش بالآراء من دون معرفة ما يجري» ليدلل على أهمية الوقائع على الآراء في بناء الحقيقة. كثيرون يتحدّثون عن أخلاقيات المهنة فأين تطبيقاتها في الواقع؟ الذين يتشدقون بأخلاقيات المهنة يقولون مالا يفعلون، فمن أخلاقيات الإعلام قول الحقيقة وعدم تزيف الوقائع، التحلي بالقيم الأخلاقية السامية لا الانسلاخ منها والصيد في المياه العكرة، ومن الأخلاقيات الكتابة بضمير مهني يوقظ الأمة، لا أن يكون معولا لتحطيم وحدتها بالسب والشتم وإيذاء الآخرين وحب الوصول إلى القمة على جثث الأبرياء وبيع ضمائرهم لأصحاب المال الوسخ.. إن المتتبع اليوم لمضامين وسائل الإعلام في العالم العربي وبخاصة الفضائيات، يكتشف بسهولة التوجه الرخيس لها من خلال محاولتها بناء شهرتها على حساب القيم الحضارية الإسلامية، فالإعلاميون في هذه الفضائيات يرون أن الصراع قيمة ضرورية لاستمرار وجود القناة، وبالتالي فالسلم والأمن والأمان لا يخدم القناة ويدخلها في سبات عميق وبالتالي فالقناة بحاجة إلى بؤر توتّر كثيرة في العالم لملء برامج القناة بالتحاليل الباطلة والآراء المضللة على مدار السنة، وهذا ما سمعته شخصيا من صحفي بإحدى القنوات العربية مؤخرا بالولاياتالمتحدةالأمريكية، وبالتالي قد يسوّل للقناة نفسها اللجوء إلى تأجيج الأوضاع بدل السعي لإطفائها لضمان تغطية مطولة للأحداث والوقائع ولو كلّف الأمر أحداثا مأساوية وعرض صور لأشلاء القتلى، والتي تتعارض مع أبسط أخلاقيات العمل الإعلامي. امبراطورية لا تغيب عنها الشمس أليس المال بالإضافة إلى السياسة هما اللذان جنيا على الإعلام؟ سؤالكم وجيه، فالدارسون لتاريخ وسائل الإعلام يسجلون أنها اتجهت في سيرورة تطورها عبر الزمن إلى ظاهرتي التركيز والاحتكار وبالتالي أدى بأصحاب الرساميل (رؤوس الأموال) إلى السيطرة على وسائل الإعلام وتمرير - بذلك - أفكارهم الإيديولوجية عبرها واتخاذها مطية لخدمة أطماعهم التوسعية، والأمثلة من الواقع كثيرة، مثلا رجل الأعمال المشهور روبرت ميردوخ الذي يقال أن إمبراطوريته لا تغيب عنها الشمس، حيث إنه يسيطر على 50 % من القنوات الأجنبية في الولاياتالمتحدةالأمريكية وفي استراليا وبريطانيا وغيرها، وعلى سبيل المثال لا الحصر هذه بعض القنوات التي يملكها: قناة فوكس نيوز التي اشتراها منذ سنوات ب 6 ملايير دولار ويملك صحيفة الواشنطن بوست الذائعة السيت، كما أنه تقدم بطلب شراء قناة الجزيرة في السنوات الماضية، حتى تحول إلى لوبي إعلامي يسعى كل مترشح للرئاسيات في الولاياتالمتحدة إلى كسب وده لعلمه بتأثير ترسانته الإعلامية على قلب موازين القوة، ويكفي أن نعرف بأنه يهودي لندرك خطورة ذلك على التأثير على الرأي العام الأمريكي وحتى الدولي إزاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وحتى دوره في إدارة قواعد اللعبة اتجاه ما يعرف بالربيع العربي، وغيرها من الأمثلة. لذلك يمكن القول، بأن سيطرة رجال المال والأعمال على أسهم وسائل الإعلام قد يؤدي إلى خروج القاطرة عن السكة وزيغ توجه الرسالة الإعلامية، والتخلي بذلك تدريجيا عن المهنية الصحفية والقيم السامية النبيلة للإعلام، كما أن الحسابات السياسوية والسقوط في فخّ التوجهات الإيديولوجية للوسيلة الإعلامية يؤدي إلى سعي أقلام القناة إلى التخندق في صفّ توجه سياسي ضيق على حساب الموضوعية في الطرح. كلمة أخيرة لا يسعني في نهاية هذا الحوار إلا أن أوجّه - من خلال جريدة «الشعب» - نصيحة للقائمين على وسائل الإعلام في الوطن العربي وفي الجزائر أيضا، وهي ألا ينجرّ هؤلاء وراء من يحاول زعزعة استقرار الدول العربية وضرب مصالحها المشتركة، من خلال الانجرار وراء الأفكار السامة التي يسعى نافثوها إلى خدمة أجندة استعمارية جديدة من خلال تجزئة المجزأ وتفتيت المفتت والإبقاء على تبعية الوطن العربي لهم اقتصاديا من خلال نهب ثرواته، وحضاريا من خلال ضرب الإسلام باجتثاث قيمه أينما ثقفت، كما أوجه كلامي ؤلى الصحفيين في الجزائر بأن أدعوهم إلى تغليب المصالح العامة على الشخصية الضيقة، وأن يكتبوا بوعي ومصداقية وأن يمتثلوا أخلاقيات العمل الإعلامي في كتاباتهم وآرائهم وألا يبيع الصحفي ذمته ومبادئه مقابل مال زائل، والوطنية الحقَة هي أن نكتب للوطن لا ضد الوطن.