البرازيل تجربة مرجعية قبل أّيام أقيلت رئيسة البرازيل ديلما روسيف من منصبها، وعيّن خلفا لها نائبها ميشال تامر ذي الأصول اللبنانيه، فشكل هذا التّعيين مصدرا للتندّر بين اللبنانيين الذين أخذوا يتهكّمون على وضعهم ولسان حالهم يقول «أخيرا أصبح للبنان رئيس لكن في البرازيل»: هذه المصادفة التي لم تكن في الحسبان وضعت المتتبع أمام هذا المشهد الغريب، حيث عجز اللبنانيون طيلة سنتين، وبعد ما يقرّب من أربعين اجتماعا لمجلس البرلمان عن التوافق حول ربّان يقود السفينة، فيما اختارت البرازيل رئيسها من أصول لبنانية في وقت قياسي دونما الحاجة إلى صناديق الاقتراع وصراع الحملات الانتخابية... لقد شكّل خبر اختيار «ميشال تامر» رئيسا للبرازيل مند أسبوعين، مصدرا للتندّر، وفأل خير بين اللبنانيين الذين أعجبوا بنبأ وصول ابن قرية «بتعبورة» الصغيرة في شمال لبنان إلى سدّة الرئاسة في أكبر بلد بأمريكا الجنوبية وأحد أهم الاقتصادات العالمية الصاعدة، في الوقت الذي سدت كل الأبواب أمام الفرقاء في البرلمان اللبناني للسنة الثانية على التوالي حتى نسي عدد من اللبنانيين وكثير من سكان المعمور أن بلاد الكرز الممزق بين الطائفية والتجاذبات السياسية يسير دون رئيس. بلا رأس مند سنتين قبل سنتين، وتحديدا في 24 ماي 2014، غادر الرئيس اللبناني ميشال سليمان قصر بعبدا تاركا إيّاه شاغرا بعد أن عجز اللبنانيون عن انتخاب الخليفة. وقد اعتقد اللبنانيون لحظتها بأن الشغور لن يدوم طويلا، بل هو مسألة وقت يراجع فيها الفرقاء مواقفهم وحساباتهم لينتهوا بانتخاب رئيس جديد، إذ سبق للبنان أن عاش مند الاستقلال عام 1948، نفس الحالة أربع مراّت، لكنّ هذه المرّة طال الفراغ ولا ضوء في الأفق. حدث الفراغ الأول من 18 سبتمبر إلى 22 منه عام 1952، وكان الأقصر في تاريخ «الفراغات اللبنانية» وقد أعقب استقالة الرئيس بشارة الخوري حيث شكلت حكومة عسكرية برئاسة فؤاد شهاب توّلت صلاحيات الرئيس أربعة أيام حتى انتخاب كميل شمعون رئيسا. وحصل الفراغ الثاني مع انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل وتعذر انتخاب خلف له وامتد من 23 سبتمبر عام 1988 إلى 5 نوفمبر عام 1989. أما الفراغ الثالث فقد امتد من 23 نوفمبر 2007 إلى 25 ماي 2008 وجاء بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود وتعذر انتخاب خلف له؛ فتولت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة صلاحيات رئيس الجمهورية حتى انتخاب الرئيس ميشال سليمان. وفي أعقاب انتهاء مدة ولاية سليمان كان الفراغ الرابع الذي يختلف عن الفراغات السابقة في المدة فهوالأطول - والظروف والأسباب والأهداف. فراغ ومخاوف للخلافات بين القوى السياسية اللبنانية دور مهم في إطالة أمد هذا الشغور، وتتمحور معظم المخاوف القائمة اليوم من احتمال تعذُّر إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها حول أمرين أساسيين، هما: أولا: المخاوف التاريخية التي عبّر عنها المسيحيون وخصوصا الموارنة في شأن انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء بحسب المادة 62 من الدستور، والتي تنصّ على أنه «في حال خلو سدّة الرئاسة، تناط السلطة الإجرائية وكالة بمجلس الوزراء. ثانيا: هنالك خوف من تغيير صيغة النظام السياسي الحالي الذي يقوم على المناصفة أولا، وعلى إعطاء الموارنة والمسيحيين مناصب أساسية في البلاد، أهمها بعد رئاسة الجمهورية قيادة الجيش. لهذا نجد أن هنالك خوفا كبيرا لدى عدد من المسيحيين، من أن يكون الرئيس السابق ميشال سليمان هو آخر رئيس مسيحي ماروني في تاريخ الجمهورية اللبنانية؛ لكون مسيحية الرئيس عرفا وليست دستور. مفتاح الحلّ في الخارج يجزم مختلف المراقبين السياسيين بأن للعامل الخارجي دوره المحوري في بقاء لبنان بلا رئيس مند سنتين، فقد صار العامل اللبناني في إنهاء الأزمة الرئاسية حسبهم أقل تأثيرا بعد أن باتت كل طائفة من مكوناته تستعين بحليف خارجي للاستقواء على الشريك الآخر في الوطن، وبعدما اقتصرت مهمة اللبنانيين في القيام بدور «الكومبارس» لتنفيذ التوافقات الإقليمية والدولية الكبرى. ويستبعد هؤلاء المراقبين انتخاب رئيس للجمهورية من دون توافق دولي إقليمي على اسم الرئيس. ولا تعتبر هذه الانتخابات حالة استثنائية. فقد كانت انتخابات الرئاسة اللبنانية دائما موضع تجاذب دولي، وكان الدور اللبناني فيها يصغر مع الأزمات، ويتسع مع الاسترخاء، لكنه لم يكن في يوم من الأيام قرارا لبنانيا صرفا، بقدر ما كان اسم الرئيس اللبناني يعكس توازنات المنطقة. تياران يتصارعان ينصّ الدستور اللبناني على ولاية من ستّ سنوات لرئيس الجمهورية، غير قابلة للتجديد أوالتمديد، وينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري من النواب، لا من الشعب مباشرة. فالانتخاب في مجلس النواب يجعل المفاجآت شبه معدومة وسط وضوح بالغ في مواقف الكتل السياسية وانقسامها الحاد بين فريقين أساسيين هما الآن قوى 8 آذار التي يقودها «حزب الله»، وقوى 14 آذار التي يقودها تيار «المستقبل» (صاحب أكبر كتلة برلمانية في لبنان)، رغم التخبّط الكبير في صفوف كلا الفريقين لاسيما بعد ترشيح قطبين كبيرين في 14 آذار هما زعيم تيار «المستقبل» الرئيس سعد الحريري وزعيم «القوات اللبنانية» سمير جعجع، لقطبين كبيرين في 8 آذار هما زعيم التيار الوطني الحر العماد ميشال عون وزعيم تيار المردة النائب سليمان فرنجية لمنصب الرئاسة وسط تباين حاد في المواقف داخل كلا الفريقين. «لا يمتلك أي من الفريقين القدرة على انتخاب رئيس من دون التفاهم مع الفريق الآخر، حتى لو تحالف مع الوسطيين، فالدستور ينصّ على ضرورة أن ينال الرئيس المنتخب ثلثي أصوات النواب في الدورة الأولى، والأكثرية العادية في الدورات التالية. وتتفق القوى السياسية على تفسير للدستور يقول بضرورة حضور ثلثي أعضاء البرلمان لجلسة الانتخاب في أي وقت، مما يعطي أي فريق يمتلك أكثر من ثلث المقاعد قدرة التعطيل وحقّ «الفيتو» على اسم الرئيس، وهو ما يحدث الآن، حيث لا يمتلك أي من الطرفين الأكثرية اللازمة لانتخاب الرئيس، ومن ثم تبقى الأمور معطلة تقنيا. ولقطع الطريق أمام أي مفاجأة في البرلمان، كانت مقاطعة جلسات الانتخاب لعدم توفير النصاب القانوني التي لجأ إليها «حزب الله» وحليفه «التيار الوطني الحر» المطالب بإجماع نيابي على ترشيح عون قبل الجلسة. عقبات تؤخّر الإنفراج لا يبدو في الأفق اللبناني حاليا ما يوحي بإمكان تذليل العقبات التي منعت انتخاب الرئيس، لاسيما في ظلّ العقبات الكبيرة التي أدرجت سلفا، والتي يمكن تلخيصها بالآتي. أولا: انشغال الكبار وتحديدا أمريكا وروسيا في أمورهما التي تشكّل الأوضاع في المنطقة بدءا من سوريا وصولا إلى اليمن وإيران والعراق جزءا منها واعتبارهم الوضع اللبناني امتدادا أو تفرعا من هذا الملف الكبير غير مستوجب الفصل والمعالجة بمعزل عنه راهنا. ثانيا: عجز المكونات اللبنانية عن الاجتماع لاختيار واحد من المرشحين لرئاسة الجمهورية، واستمرار تطلعهم إلى الخارج ورهانهم عليه لتدبير شؤونهم خصوصا في الاستحقاقات والملفات الكبرى. وجود الرئيس وعدمه «سيان» على الرغم من مدح دور الرئيس في لبنان بأنه رمز وحدة الوطن والساهر على احترام الدستور، فإن الواقع يؤكد أن غيابه لسنتين كاملتين لم يكن كارثيا على البلاد، فهي لا تزال تتمتع باستقرار أمني واقتصادي نسبي، فهل يعود هذا لضعف صلاحيات الرئيس، أم لعوامل أخرى؟ ويبقى السؤال: كيف يسير لبنان بلا رأس؟ وهل وجود الرئيس وعدمه «سيان»؟ هل هو منصب فخري؟ ما هي صلاحياته؟ تحكم المحاصّة الطائفية النظام السياسي اللبناني القاضي بتوزيع السلطات بين الطوائف: رئاسة الدولة لمسيحي ماروني، رئاسة الحكومة لمسلم سني، ورئاسة البرلمان لمسلم شيعي. ولا يقتصر الأمر على هذه المناصب، فقد امتد نظام المحاصّة الطائفية ليحدّد هوية شاغلي المناصب الحكومية والإدارية والعسكرية. وعلى الرغم من هشاشة هذا النظام وتعرضه لعدة هزات فإن خبراء يرون أن تعدّد الطوائف وتقاسم السلطات في دولة مدنية يجعلان النظام ناجحا في إدارة التعدد، بعكس بعض الدول العربية التي تفشل في إدارته. ويدل هؤلاء بأنه على الرغم من الحرب السورية ومئات آلاف اللاجئين الذين تدفقوا إلى لبنان وغياب الرئيس لسنتين، والتفجيرات التي استهدفت بعض المناطق، فإن البلاد تعيش شبه استقرار أمني واقتصادي واجتماعي. وحتى أبواب البرلمان افتتحت وأقرت فيه مشاريع مالية واقتصادية واتفاقات دولية، وقانون استعادة الجنسية اللبنانية للمغتربين كما نظمت الانتخابات البلدية بنجاح وفي هدوء. رئيس شرفي وإزاء كل ما تقدّم يظهر أن وجود الرئيس وعدمه لا يقدمان ولا يؤخران في المشهد السياسي اللبناني، فتعديلات اتفاق الطائف جردت الرئيس من صلاحياته الأساسية وأناطتها بمجلس الوزراء ورئيس الحكومة. وتحوّل المنصب الوحيد للمسيحيين في الشرق شرفيا، وصلاحياته أقل من صلاحيات وزير بالحكومة الذي يمكنه أن يوقف أي مرسوم يتعارض مع رأيه، بينما إذا ردّ الرئيس قانونا وأصر عليه يصبح نافذا بعد مرور أربعين يوما. وفي اجتماعات الحكومة مثلا لم يعد لدى الرئيس سلطة مقيّدة فحسب، بل لم يعد موجودا كونه يحضر ولا يصوت، ولا يعد جدول الأعمال بل يطلع عليه، ولا يقرّر اسم رئيس حكومة، ولا يمكنه حتى أن يسمي الوزراء، فهؤلاء يسميهم زعماء الطوائف السياسيون الذين يعتبرون أنفسهم ممثلين شرعيين عن الطوائف.——