لطالما حلم بالعودة الى فلسطين التي لم ترها عيناه من قبل ، فقد كان يرقد في رحم أمه ذلك العام المشؤوم عام اغتصاب فلسطين ، وفي أواخر عام النكبة عام 1948 صرخ أبو العباس صرخة الحياة الأولى على بعد مئات الكيلومترات عن المكان الذي كان مقرراً أن يبصر فيه النور ''طيرة حيفا'' هذه البلدة التي كان يحلم وهو في رحم أمه بحاراتها وساحاتها وبيادرها، كان يحلم ببحرها الجميل وكهوف جبل الكرمل الشامخ، بدأ أبو العباس أولى خطواته في الحياة في مخيم النيرب الواقع على أطراف مدينة حلب السورية ، ولم تملك عائلته الا أن تعطيه حليب المرارة والبؤس والجوع شأنها شأن كافة العائلات الفلسطينية اللاجئة ، فكان عوده يشتد من أجل التكيف والبقاء كان يحبو فصار يعدو بين الخيام المحصنة بحبال غريبة قوية ، حافي القدمين يلعب مع أقرانه منذ طلوع الشمس مع العصافير حتى غروبها ، لامكان له غير الخيمة المزدحمة الا للنوم والطعام فقط . فأبو العباس وأقرانه لم يكن يعرفون ، لماذا وكيف والى متى سيبقون في هذه الحالة ، كل ما يعرفونه ، أن هناك وطناً اسمه فلسطين سيعودون اليه يوماً وذلك عندما يسترقون السمع من أباءهم وأمهاتهم في المساء عن تلك الأحداث الرهيبة التي أدت بهم الى ماهم عليه ، ومأساة النكبة التي شردتهم ورمت بهم الى أصقاع البلاد التي لايبدأ التكيف معها حتى يرتطم بصحوة الروح والذاكرة الاغتصاب ، القتل ، التشريد ، الحقوق ، الأرض والتاريخ هكذا ترعرع أبو العباس وأقرانه على مفاهيم غرائبية أكبر من عمر السنين الفضة التي لم يشتد عودها ففتحت أوراقها في جو عربي قارس البرودة لا يملك الا دموع الأسى على النكبة والهزيمة . في ظل هذه الظروف شق أبو العباس طريقه في الحياة فدرس في مدارس وكالة غوث اللاجئين الابتدائية والاعدادية في مخيم النيرب في مدينة حلب ، ومن ثم انتقل مع عائلته الى مخيم اليرموك في دمشق ، وفي هذه المرحلة بالتحديد انضم الى صفوف جبهة التحرير الفلسطينية عام 1965 وزاوج بين التزامه النضالي ومواصلة دراسته الثانوية والجامعية فيما بعد في جامعة دمشق ، لقد كان شاباً ملفتاً للانتباه مفعم بالحيوية والاندفاع والشجاعة ، وعند انعقاد المؤتمر الرابع للجبهة في صيف عام 1973 انتخب أبو العباس عضواً في المكتب السياسي وأصبح ناطقاً رسمياً باسم الجبهة فيما لم يتجاوز عمره الرابعة والعشرين عاماً. ورغم عضويته في القيادة الأولى للجبهة فقد شغل عضوية اللجنة العسكرية العليا نظراً لخبراته المميزة في هذا المجال والدورات العسكرية المختلفة التي تلقاها في الاتحاد السوفيتي ومن خلال موقعه هذا بدأ أبو العباس التفكير والتأمل لاستنباط أنجح السبل لمواجهة العدو الصهيوني وأسس لمدرسة قتالية نوعية بدأها في عملية الخالصة في 13 نيسان عام 1974 تلك العملية البطولية التي أدت الى مقتل 28 اسرائيلياً واستشهاد أبطالها الثلاثة وتتالى هذا النوع من العمليات الموجعة في أم العقارب ونهاريا وتل أبيب وبريختا وديمونا فكانت عملية الخالصة أول عملية نوعية توقع هذا العدد الكبير من القتلى في صفوف العدو وبذلك كان أبو العباس المؤسس لهذا النوع من العمل الفدائي المقاوم والذي نطلق عليه الأن بالعمليات الاستشهادية ، لقد طور أبو العباس أساليب القتال مع العدو الصهيوني فكان أول من استخدم الطيران الشراعي والمنطاد في عمليات عسكرية ضد الصهاينة نجح بعضها وفشل البعض الأخر ، لقد قاتل العدو بشراسة في البر والبحر والجو . خلال تلك المرحلة برز أبو العباس كواحد من أهم القيادات الفلسطينية الفاعلة في الساحة الفلسطينية انتخب عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في المجلس الوطني السابع عشر المنعقد في عمان عام 1984 ، ومن ثم انتخب أميناً عاماً لجبهة التحرير الفلسطينية في المؤتمر السابع للجبهة عام 1985 ، وبعد تحمله المسؤولية الأولى في جبهة التحرير الفلسطينية وازدياد ثقل المسؤولية الوطنية الملقاة على عاتقه أصبح هاجسه أكبر بمواصلة تطوير وابتكار أساليب جديدة ومتجددة في المواجهة العسكرية مع العدو فقد أصاب وأخطأ لكنه كان مثابراً الى أبعد الحدود أملاً في تحقيق حلمه بالعودة الى فلسطين مع ملايين اللاجئين من شعبه في مخيمات اللجوء والشتات . ثلاثة أعوام عجاف مرت بعد الخروج من بيروت عام 1982 وابعاد مقاتلي الثورة الفلسطينية عن تخوم الوطن الى المنافي البعيدة في اليمن والسودان وتونسوالجزائر ، لم يجد بداً أبو العباس من أن يبتكر وسيلة جديدة للوصول الى أرض الوطن رغم المسافات الشاسعة التي تفصله عنها فكانت عملية أسدود '' أكيلي لاورو .'' بعد دراسة وافية واستطلاع محكم دام أكثر من ثمانية أشهر تم اختيار سفينة أكيلي لاورو الايطالية وسيلة لايصال مجموعة من مقاتلي الجبهة الى ميناء أسدود على الساحل الفلسطيني في رحلة سياحية تستغرق سبعة أيام حيث تنطلق من مدينة جنوة الايطالية مروراً في عدة مدن ساحلية وصولاً الى ميناء أسدود ومن ثم العودة الى جنوة ، وهناك في مدينة أسدود يتم احتجاز رهائن اسرائيليين بهدف اطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال ، وبالفعل نفذت الخطة كما كانت مقررة الا أنه وأثناء توجه السفينة الى ميناء أسدود في السابع من أكتوبر عام 1985 فاجأ أحد العاملين على متن السفينة المجموعة المقاتلة في غرفهم ليجدهم يعملون على تجهيز أسلحتهم وتنظيفها استعداداً للوصول الى أسدود مما اضطرهم الى تغير الخطة واختطاف السفينة والمطالبة باطلاق سراح الأسرى مقابل الافراج عن السفينة وركابها . وهنا يظهر النفاق الأمريكي والغربي عموماً بشكل جلي ، فقد اختطفت السفينة وعلى متنها أكثر من سبعمائة راكب من جنسيات أمريكية وأوروبية مما حدا بالحكومات الغربية الطلب من المصريين والتوسط لدى الشهيد ياسر عرفات لوضع حد لعملية الاختطاف وانقاذ أرواح الركاب السبعمائة وبالفعل فقد تدخل أبو عمار شخصياً لدى أبو العباس وطلب منه انهاء عملية الاختطاف لوقف الهجوم العنيف الذي شنه الاعلام الغربي ضد الجبهة وضد منظمة التحرير الفلسطينية وعلى الفور توجه أبو العباس الى القاهرة ومن هناك الى بور سعيد وامتطى زورقاً صغيراً وأبحر حتى اقترب من السفينة حيث وجه أمراً للمقاتلين بوقف عملية الاختطاف واتفق مع الحكومة المصرية على انهاء العملية مقابل رسو السفينة في ميناء بور سعيد وتجهيز طائرة لنقل الفدائيين الأربعة وأبو العباس سوياً الى أي دولة يرغبون في التوجه اليها ، الا أن الولاياتالمتحدةالأمريكية وفي عملية قرصنة ارهابية فريدة من نوعها أجبرت الطائرة المصرية المقلة لأبو العباس ورفاقه من خلال طائراتها الحربية على الهبوط في قاعدة صقلية الأمريكية وحصل ما حصل. لقد أنقذ أبو العباس من خلال مبادرته الجريئة حياة سبعمائة راكب أمريكي وأوروبي انطلاقاً من موقف وطني ومبدئي وانساني عكس ماروج له الغرب واسرائيل حول أبو العباس ونعته بالارهاب هذا العداء الأمريكي المحكم لأبو العباس والذي استمر طيلة عشرين عاماً حتى اعتقل في بغداد وتم اغتياله في سجون الاحتلال الأمريكي ارضاءً لاسرائيل وانتقاماً من تاريخه الحافل في صراعه مع العدو الصهيوني . في السادس عشر من نيسان عام1988 استشهد القائد الكبير أبو جهاد '' خليل الوزير '' غيلةً على يد الموساد الاسرائيلي في تونس ولأبو العباس علاقة وثيقة مع الشهيد أبو جهاد فقد جمعتهما صداقة شخصية ونضالية وطيدة فمجال عملهما واحد والهدف مشترك والرؤية تجاه الصراع مع العدو واحدة ومنذ لحظة استشهاد أبو جهاد بدأ أبو العباس يفكر بالطريقة المثلى للرد على هذا العمل الجبان الى أن توصل الى فكرة عملية القدس البحرية في الثلاثين من أيار عام 1990 والتي استغرق الاعداد لها أكثر من عام ، فقد اقتحمت ستة زوارق صغيرة مجهزة بالسلاح والعتاد الساحل الفلسطيني وعلى متنها ستة عشر مقاتلاً انتشرت على امتداد الساحل الجنوبي من تل أبيب حتى عسقلان واشتبكت مع قوات العدو في مواقع عسكرية مختلفة ضمن النقاط المحددة في مخطط العملية لمدة ثمانية عشر ساعة أدت الى مقتل عدد كبير من جنود العدو واستشهاد خمسة مقاتلين وأسر احدى عشر مقاتلاً. اثر هذه العملية الكبرى قطعت الولاياتالمتحدةالأمريكية حوارها مع منظمة التحرير الفلسطينية ووضعت شروطاً لاستئناف هذا الحوار أهمها طرد أبو العباس من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وادانة صريحة من قبل ياسر عرفات لعملية القدس ، اضافة الى معاقبة جبهة التحرير الفلسطينية بسبب هذه العملية ، الا ان الرئيس الخالد ياسر عرفات رفض الاستجابة لهذه الشروط وبقي الحوار مع منظمة التحرير متوقفاً حتى انعقاد مؤتمر مدريد عام .1991 خلال انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في دورته العشرين عام 1991 في الجزائر قدم أبو العباس استقالته من اللجنة التنفيذية تسهيلاً لأي تطور سياسي يخدم القضية الوطنية الفلسطينية وتعقيباً على هذه الاستقالة قال ياسر عرفات في ختام أعمال المجلس وأمام جميع الحضور : أحيي باسمي واسم أعضاء المجلس الوطني أخي ورفيق دربي أبو العباس لأنه استقال من اللجنة التنفيذية من أجل شعبه ومن أجل فلسطين . لقد عارض أبو العباس اتفاقات أوسلو لكنه لم يخرج يوماً عن اطار الشرعية الفلسطينية ، دخل فلسطين لأول مرة لحضور دورة المجلس الوطني الواحد والعشرين المنعقدة في غزة عام 1996 ، وأثار الكونغرس الأمريكي ضجة كبرى بسبب ظهور أبو العباس في غزة مما حدا بوزير العدل الأمريكي يعلن بأن أبو العباس ليس مطلوباً للعدالة في الولاياتالمتحدةالأمريكية لكن ماذا حصل فيما بعد لقد اعتقل أبو العباس في الخامس عشر من نيسان عام 2003 بعد سقوط بغداد ، دون أي سوغ قانوني ، بل أن ايطاليا وهو المحكوم فيها مدى الحياة بتهمة التخطيط لعملية أكيلي لاورو وتراجعت حينها عن المطالبة بتسليمه وأعلنت بأنه غير مطلوب للعدالة الايطالية ومع ذلك واصلت الادارة الأمريكية احتجازه ضاربة عرض الحائط كل الأعراف والقوانين ومناشدات المنظمات الحقوقية بضرورة اطلاق سراحه . وفي هذا السياق لابد أن أشير الى موقف أبو العباس من مسألة بقاءه في العراق رغم الحصار ورغم مؤشرات العدوان الأمريكي التي لاحت منذ عام 2001 فقد أصر أبو العباس على اقامته في العراق وقال للكثيرين ممن نصحوه بضرورة مغادرته بغداد بأنه لايمكن الا أن يكون وفياً لهذا البلد الذي احتضنه متحدياً الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ أن بدأت في مطاردته عام 1985 وحتى مع بداية العدوان المجرم على العراق رفض مغادرة بغداد وقال سأقاتل دفاعاً عن العراق كما أقاتل من أجل فلسطين . استشهد أبو العباس في زنازين الاحتلال الأمريكي في التاسع من أذار عام 2004 ولم تتمكن ادارة الاحتلال الأمريكي في العراق من تقديم تفسير طبي واضح لاستشهاده حتى لزوجته وعائلته مما يؤكد تورطها المباشر في عملية اغتيال جبانة لأول قائد فلسطيني يستشهد في سجن أمريكي . أحب الجزائر حبه لفلسطين ، وكان يتحين الفرص والمناسبات لزيارة الجزائر ، فالجزائر بالنسبة اليه تعتبر مثلاً أعلى في التضحية والنضال والفداء ، كان يسمع كثيراً لقادة الثورة عن تجاربهم في الثورة الجزائرية ، كان صديقاً حميماً للمرحوم محمد الشريف مساعدية يلتقي به دائماً ، كما يلتقي بالكثير من الشخصيات الوطنية والتاريخية ، الرئيس أحمد بن بيلا ، حسين أيت أحمد ، الجنرال لكحل عياط ، الهادي لخديري ، المجاهد الحاج محمد الطاهر والكثير من الشخصيات التي حرص أبو العباس على لقاءها باستمرار للاستفادة من تجارب وخبرات هؤلاء القادة المناضلين ، كان شديد الحرص على لقاء الأحزاب الجزائرية بمختلف توجهاتها والتقى بمعظم قادتها خلال زياراته القصيرة الى الجزائر . كان يحلم في مواصلة نضاله حتى تحقيق أهداف شعبه في العودة والحرية والاستقلال لكن الأقدار شاءت ألا يستشهد على أرض فلسطين التي طالما حلم بتحريرها فاستشهد في زنزانته الأمريكية في بغداد الصمود ، لقد أراد أبو العباس باستشهاده وبهذه الطريقة أن يثبت بأن الفلسطيني وعلى الرغم من اماله وألامه يدرك بأن البعد العربي في قضيته لايقل أهمية عن بعدها الوطني فاستشهد على أرض العراق استشهد على أرض عربية ، أراد أن يؤكد بأن الفلسطيني يناضل ويضحي من اجل قضية وطنية عربية انسانية.