كل حجر في مساكنه.. كل زاوية في أركانه.. كل نظرة تطل من عين ابن أو حفيد أو حتى شيخ عجوز ارتسمت على ملامحه قسمات الزمن.. كل شيء في هذا المكان يجبر الذاكرة على العودة نصف قرن للوراء، حين منيت الأمة بأكبر نكبة في تاريخيها، نكبة سلبت فيها فلسطين من أهلها، واقتطعت القدس من الجسد العربي.. br أحداث مروعة صاحبتها مجازر ومذابح دموية وعمليات تصفية عرقية، كان من نتائجها إنشاء هذا المكان الذي نقف فيه الآن، انه مخيم اليرموك بالعاصمة السورية دمشق، الشاهد على قضية أمة ومأساة شعب. على مسافة 08 كيلومتر جنوب وسط العاصمة السورية دمشق يقع مخيم اليرموك، كانت الساعة تشير إلى الواحدة زوالا حينما ركبت حافلة من قلب دمشق إلى المخيم، كان جميع ركابها تقريبا فلسطينيين، الأمر الذي لم يرهقني في الوصول لوجهتي، لكن الأمر الذي حيرني كثيرا هو صورة المخيم التي لم يستطع خيالي رسمها بدقة، كنت أظن أن كلمة مخيم تعني مجموعة من الخيام أو بعضا من البيوت القصديرية المهملة، ولكنني وجدت نفسي في مدينة متكاملة.. منظمة.. مصممة بطريقة عصرية جعلت المكان برمته عبارة عن سوق كبير، الأمر الذي يوضح تفاصيل الحياة الفلسطينية بواقعيتها في الشتات، وكيف استطاع هؤلاء التغلب على أزماتهم ومعاناتهم في ديار الغربة، فالفلسطيني أراد أن يقول للعالم إنه صاحب تاريخ وحضارة، وليس همجيا بريا بدون أرض كما يقول الصهاينة. عقول وقيادات فلسطين في اليرموك سكان المخيم يقولون إن المكان كانت حالته مزرية منذ نصف قرن، وكان في البداية عبارة عن تجمع كبير للخيم التي كانت تأوي المشردين من أبناء الشعب الفلسطيني، إلا أن اللاجئين قاموا بتحسين مساكنهم وإضافة الغرف إليها، ثم بدأت حركة عمرانية كبيرة طالت المخيم في السبعينيات من القرن الماضي، واستمرت حتى أصبح المخيم اليوم يعج بالمساكن الإسمنتية والشوارع الضيقة ويكتظ بالسكان، ويوجد داخل المخيم شارعان رئيسان يمتلئان بالمحلات التجارية ويزدحمان بسيارات الأجرة والحافلات الصغيرة، طوال أوقات الليل والنهار. ويعمل العديد من اللاجئين في اليرموك كأطباء ومهندسين وموظفين في الإدارات، ويعمل آخرون كعمالة مؤقتة وباعة متجولين، وبشكل عام تبدو ظروف المعيشة في اليرموك أفضل بكثير من مخيمات لاجئي فلسطين الأخرى في سورية وربما الدول العربية الأخرى، ومن المعروف أن المخيم يضم الكثير من صفوة فلسطينيي الشتات، وإضافة إلى قيادات العمل الوطني في فتح وحماس وبقية الفصائل الفلسطينية، يوجد بمخيم اليرموك غالبية الكفاءات العلمية الفلسطينية. ونظرا للكثافة السكانية الكبيرة للمخيم إذ يوجد به وحده أربعة مستشفيات، ومدارس ثانوية حكومية، وأكبر عدد من مدارس الأونروا، وترعى هذه الأخيرة مركزين لبرامج المرأة لتقديم الأنشطة الخارجية. أبطال اليرموك قادوا العمل الثوري والفدائي تاريخ مخيم اليرموك في العمل الفدائي والثوري حافل بالبطولات والإنجازات فقد ساهم اللاجئون الفلسطينيون في المخيم في العمل الفدائي منذ بداياته في عام 1965 وقدموا "11 ألف" بين شهيد وجريح حسب معطيات مؤسسة أسر شهداء فلسطين في دمشق، وقد عبر اللاجئون أيضاً تعبيرات مختلفة عن وحدة المصير مع أهلهم أثناء انتفاضة عام 1987 وانتفاضة الأقصى المباركة على مدار عامين من عمرها، وحتى الآن يحمل لاجئو المخيم على أعناقهم عبء التظاهر في المخيمات والاعتصام أمام الصليب الأحمر أو مقر الأممالمتحدة، أو عبر الرسوم والمعارض في شوارع دمشق والمخيمات، هذا فضلاً عن التبرعات للانتفاضة في المخيمات والمدن السورية، وهذا العمل النضالي المشرف له جذوره التي تجعل سكان اليرموك يعتزون ويفخرون بتاريخهم. فمن قلب مخيم اليرموك برز تنظيم جبهة التحرير الفلسطينية عام 1959 كقوة فدائية مسلحة "فرقة عبد القادر الحسيني، فرقة عبد اللطيف شرورو، فرقة عز الدين القسام"، والتي مارست أعمالا فدائية تحمل سمات البطولة ضد العدو الصهيوني انطلاقا من الأراضي السورية والأردنية، وحملت لاحقا اسم "الجبهة الشعبية -القيادة العامة" بعد خروجها من إطار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الذي توحدت به أواخر عام 1967 بقيادة الضابط الفلسطيني في الجيش السوري "أحمد جبريل"، وعدد آخر من الأسماء البارزة في سجل النضال الفلسطيني مثل علي بوشناق، طلال ناجي، فضل شرورو، كايد سليماني، زكي الزين. أما المنظمة الشعبية لتحرير فلسطين التي تأسست عام 1964 عشية الدورة الأولى للمجلس الوطني الفلسطيني الذي عقد اجتماعاته في مدينة القدس، فإن أغلبية قادتها خرجت من مخيم اليرموك، ولم يعمر طويلا تنظيم جبهة التحرير الوطني الفلسطيني الفدائي العسكري الذي تشكل داخل أوساط اللاجئين في سورية بين أعوام 1968 1972 بقيادة حسن الصباريني "أبو حلمي" عضو المجلس الوطني الفلسطيني، حيث التحق أغلبية أعضائه بصفوف حركة فتح. أكبر مخيم فلسطيني خارج عن مظلة الاعتراف الدولي يمثل مخيم اليرموك أكبر تجمع فلسطيني في الشتات، ويحوي في جنباته ما يفوق الربع مليون لاجئ فروا بعد نكبة 1948 من مدن وقرى صفد، حيفا، عكا، الناصرة، اللد، طبريا، القدس، نابلس، غزة، بيسان، إضافة إلى نسبة قليلة من بدو غور فلسطين. ويعتبر مخيم اليرموك من أكبر مخيمات سورية، وبفضل سكانه فهو أشبه بمدينة مستقلة نظراً للأسواق والمحلات التجارية الكبيرة والتي يرتادها الناس من وسط مدينة دمشق وكل المدن السورية. وأنشئ المخيم عام 1957 على مساحة 2110 كيلومتر مربع لتوفير الإقامة للاجئين، وتحول المخيم بمرور الزمن إلى مدينة مستقلة لا توجد فيها أي سمة من سمات المخيمات الفلسطينية، حتى أصبح اليرموك عامل جذب اقتصادي للتجار السوريين أيضاً، والذين افتتحوا فروعاً لمخازنهم التجارية في شوارعه، فيما انتشرت الأبنية الحديثة في كل الاتجاهات. وبعدما كان اليرموك معقل اليسار الفلسطيني في حقبتي السبعينيات والثمانينيات أصبح وجود حركتي حماس والجهاد الإسلامي لا يستهان به، ويمكن تلمس ذلك من خلال الشعارات المكتوبة على الجدران وملصقات الشهداء والصور التي تمثل أهم رموز حركة المقاومة الإسلامية وكذلك المسيرات التي باتت تنظم بشكل شبه دوري، وعلى الرغم من عدم الاعتراف به كمخيم، فإن اسمه علامة في تاريخ القضية الفلسطينية، ومنه يحفظ التاريخ أصل الحكاية، أو بالأحرى تفاصيل المأساة. حلم العودة الذي وأدته الهزائم جاء عام 1948 حاملا معه المشروع الصهيوني المتمثل في إقامة الدولة العبرية على أرض فلسطين، وتجميع يهود العالم فيها، تمهيدا لتحقيق قيام الدولة التوراتية من الفرات إلى النيل من جهة ثانية. وبعد اشتداد المعارك وإمعان المنظمات الصهيونية في القتل والبطش، لم يجد قسم كبير من السكان سوى اللجوء إلى الدول العربية المحيطة بفلسطين من ضمنها سورية. حالمين بعودة قريبة إليها بعد الانتصار الساحق الذي سوف يحققه جيش الإنقاذ العربي على ارض فلسطين!، إلا أن الحلم طال حتى أصبح البعض يعتقد أنه بعيد المنال، خاصة بعد الهزائم المتتالية التي منيت بها الأمة، وتوطيد الكيان الصهيوني نفسه وهيمنته على الأرض المحتلة، هذا إن لم يكن على الأمة العربية برمتها. سورية بلد اللاجئين وفي خضم هذه الأحداث استقبلت سورية عددا لا بأس به من اللاجئين الفلسطينيين، معظمهم من سكان شمال فلسطين، لقربها منهم، والذين بلغ عددهم وفق إحصاءات عام 1955 قرابة ال 90 ألف لاجئ فلسطيني. ويعيش الآن في سورية حوالي 11٪ من مجموع اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لدى الأنروا، ويشكلون حوالى 4.5٪ من مجموع سكان سورية، ويقيم حوالى 29٪ منهم في أحد عشر مخيما وهي: مخيم خان الشيخ، مخيم ذا النون، سبينة، الست زينب، جرمانا، النيرب، حمص، درعا، درعا الطوارئ، وأخيرا مخيم اليرموك. ويعيش معظم اللاجئين في منطقة دمشق، بينما يقيم الباقون في مدن حمص، حماة، حلب وفي مدينة درعا الجنوبية قرب الحدود الأردنية، وقد تشرد عام 1967م أكثر من مائة ألف نازح بينهم لاجئون فلسطينيون من مرتفعات الجولان إلى مناطق أخرى منسورية، كما استقر فيها بضعة آلاف من اللاجئين الذين تشردوا من لبنان عام 1982م. وقد جاء في إحصاءات وكالة الغوث (الأنروا) في منتصف عام 2001 أن: - مجموع اللاجئين المسجلين فيسورية بلغ حوالى: 400 ألف لاجئ. - مجموع اللاجئين المقيمين في المخيمات حوالي: 110 ألف لاجئ. - مجموع اللاجئين المقيمين خارج حدود المخيمات حوالى: 283 ألف لاجئ. الجغرافيا دفعت الفلسطينيين دفعا إلى سورية لكن السؤال الملح على الكثيرين هو: لماذا اختار الفلسطينيون سورية؟ وبغض النظر عن العوامل السياسية والقومية، فإن الفلسطينيين الفارين من إرهاب الصهاينة كانت تدفع بهم طرق الهروب إلى سورية، وهذه الطرق تحكمت بها العوامل الجغرافية والمكانية، فسجل التاريخ ثلاث طرق رئيسية سلكها الفلسطينيون أثناء فرارهم وهي: - الطريق عبر لبنان.. حيث تجمع لاجئو منطقتي طبرية وحيفا في الناصرة، واندفعوا إلى الأراضي اللبنانية والذين تكاثرت أعدادهم بعد سقوط الجليل، حتى أن المنطقة ما بين بحيرة الفرعون حتى مدينة صور لم تتسع لتوافد اللاجئين الفلسطينيين، فانتقلوا إلى الأراضي السورية عبر السيارات والشاحنات. كما استخدمت القطارات لنقلهم من صور إلى حمص ثم حلب، كما نقل الكثيرون إلى الحدود السورية التركية ومن طرابلس إلى إدلب، كما نتقل الفلسطينيون عبر الساحل خاصة في مدينتي اللاذقية وبانياس. - الطريق عبر وادي الحولة إلى الجولان.. وهو الطريق الذي سلكته القبائل الفلسطينية التي كانت تسكن وادي الحولة حيث ارتكبت هناك العديد من المجازر أشهرها مجزرة عشيرة الزهراني في جويلية 1948 والتي أدت إلى استشهاد 18 رجلاً دفنوا في عيلبون، وقد سار اللاجئون من الحولة إلى البطيحة ثم إلى كفار ألما وخسفين وبعد التنقل بين الكرسي ووادي السمك والرزانية استقروا في مخيم خان الشيخ. - الطريق عبر الأردن.. وهو الطريق الذي سلكه أهالي مدينة حيفا وقراها مثل أجزم وأم الزينات وعين حور والطنطورة وطيرة حيفا وغيرها من القرى التي تعرضت للمجازر والمذابح، حيث انتقل اللاجئون من مكانهم الأصل إلى طولكرم ثم إلى أربد ثم تسللوا إلى سورية. دمشق: وليد عرفات