مهرجانات تؤكد.. وأخرى تصارع من أجل البقاء كانت سنة 2016 حبلى بالأحداث الثقافية، السارّ منها والحزين، خاصة وأنها تميزت برحيل أسماء كبيرة في سماء الثقافة والفكر والعلم، في الجزائر أو المنطقة العربية أو العالم عموما. ولكن المشهد الثقافي عرف أيضا مكاسب عديدة، من الصعب حصرها في هذه السانحة، على غرار دسترة الثقافة، وتدعيمها بعدد من التشريعات والتنظيمات، والمنشآت الهامة كدار أوبرا الجزائر التي حملت اسم المثقف الراحل «بوعلام بسايح». ولعلّ من أهمّ ما طبع هذه السنة ترشيد النفقات، التي ظهر أثرها جليّا على عدد من التظاهرات الثقافية، وهو ما قد يؤسس لوضع جديد، عملت الكثير من المؤسسات الثقافية على التأقلم معه، ومنها ما نجح في ذلك.. وضع قد ينبئ بصمود مهرجانات وتظاهرات، واختفاء أخرى ما لم تحقق النجاعة التي لطالما تحدث عنها القائمون على قطاع الثقافة سنة 2016 شهدت تكريس جيل جديد من المبدعين لتواجدهم، جيل كان لجوائز مثل جائزة رئيس الجمهورية «علي معاشي» الدور الكبير في اكتشافه وتشجيعه، فيما تبقى الأسماء المعروفة تشرّف الجزائر في مختلف المحافل. دسترة الثقافة.. أثمن المكاسب حينما يذكر الدستور الحق في الثقافة، فإن كلّ المساعي في هذا الصدد تكون محمية بأعلى نص تعتمده البلاد. ولكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل تبعه العمل على تعزيز مكانة المثقفين والمبدعين في الجزائر، من خلال التشريعات التي سنّت لحمايتهم. من الأمثلة على ذلك توزيع بطاقة الفنان على أكثر من 4600 فنان جزائري، والعمل على رعاية حقوق الفنانين من خلال تمكينهم من التقاعد حتى لمن تنقصهم السنوات اللازمة لذلك، وحتى لغير المنتسبين، والتكفل بعلاج الفنانين المرضى، بل وتكريم بعض المثقفين بوسام الاستحقاق الوطني في 16 أفريل الماضي، وذلك في وقت تضم فيه الساحة الفنية أكثر من 16 ألف فنان، بحسب الوزارة الوصية. مكاسب الثقافة لم تختصر في التشريعات والتنظيمات فقط، بل تعدتها إلى الواقع المعيش، من خلال معالم شهدت هذه السنة دخولها المشهد الثقافي بقوة، على رأسها أوبرا الجزائر بوعلام بسّايح، هذه الهبة الصينية التي بعثت فيها الروح تظاهرات بألوان وألحان الإبداع الجزائري والعالمي. في هذا يقول مديرها نور الدين سعودي: «دار الأوبرا مبنى وجدران، والتظاهرات الثقافية هي التي تبعث الروح في هذا المبنى الجميل». كما شهدت هذه السنة تدشين مسرح مستغانم، مدينة الفن الرابع بلا منازع، هذا المسرح هو الأول في جزائر ما بعد الاستقلال. الجوائز.. مدرسة لاكتشاف المواهب كانت الجوائز الأدبية وما تزال المحفّز والدافع القوي للعديد من المبدعين، خاصة الشباب منهم. ولم تخرج هذه السنة عن القاعدة، بل إن بعض الجوائز المستحدثة بدأت تجد تألقها، وتترسخ في المشهد الإبداعي الوطني، وصار لديها صيت يتعدى الحدود. لعل جائزة رئيس الجمهورية «علي معاشي» للمبدعين الشباب، التي أنشئت في 2006 بموجب مرسوم رئاسي، وتقدر قيمة جائزتها الأولى في كل صنف ب500 ألف دينار، أحسن مثال على الجوائز التي أسهمت بشكل كبير في اكتشاف أقلام جديدة وأصوات لم نسمعها من قبل، وهو الهدف الأول من هذه الجائزة. وتتميز جائزة علي معاشي عن باقي الجوائز بأنها تمسّ مختلف أشكال الإبداع، من الشعر والأدب إلى مسرح والموسيقى والفنون التشكيلية، وهو ما جعلها تستقطب أكبر كمّ من الأعمال المترشحة. عرفت هذه الطبعة العاشرة بروز أسماء شابة جديدة وتأكيد أخرى سبق لها المشاركة، فيما حجبت الجائزة الأولى في مجال الفنون السينمائية والسمعية البصرية. كما نذكر في هذا الصدد الجائزة الكبرى آسيا جبار للرواية، التي تنظمها كل من الوكالة الوطنية للنشر الإشهار، والمؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، والتي عادت في طبعتها الثانية لسمير قسيمي، صاحب رواية «كتاب الماشاء» الفائزة بجائزة اللغة العربية، والصادرة عن المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، وهي تكملة لرواية «هلابيل» الصادرة سنة 2010، والحائزة على جائزة مؤسسة الفكر العربي لأحسن رواية عربية. في حديثه عن جائزة آسيا جبار، قال قسيمي إنها أخذت بعدا هاما حتى على المستوى العربي، بدليل أن رواية عبد الوهاب عيساوي الفائزة بالطبعة الأولى وجدت طريقها إلى النشر في دار الساقي التي لا تنشر أي رواية. أما الفائزة بجائزة اللغة الأمازيغية، ليندة كوداش، فقالت إن روايتها «تمشاهوت تنغاروث» (الحكاية الأخيرة)، الصادرة عن دار النشر أوتنا كوم، هي رواية تتحدث عن «شابحة نثفانن»، هذه الشاعرة الكبيرة المترجمة في العالم أجمع، والتي تروي قصة حياتها في رواية عنوانها «الحكاية الأخيرة»، وتتحدث عن اللقاءات التي علمتها فلسفة الحياة. من جهة أخرى، تعدّ رواية «يوكو وأناس البرزخ Yoko et les gens du Barzakh»، الصادرة عن دار شهاب، والفائزة بجائزة آسيا جبار للرواية باللغة الفرنسية، سادس عمل لجمال ماتي. يأتي تنظيم مؤسستين عموميتين لهما وزنهما في المشهد الثقافي الوطني، في إطار «واجب ومسؤولية كل القطاعات دون استثناء لكون الثقافة مجالا حساسا يستوجب الرعاية في ظروف الرخاء كما في ظروف الأزمة»، إلى جانب «التأسيس لثقافة العرفان بالأسماء الكبيرة»، كما يقول مسؤولو المؤسستين. تنافس على الجائزة 76 عملا روائيا، منها 34 بالعربية، 10 بالأمازيغية و32 بالفرنسية، كانت الجودة هي الغالبة فيها، بحسب لجنة التحكيم. سنة محاربة القرصنة وحماية حقوق المؤلف شهدت 2016 انتظام المنتدى الدولي لحماية الملكية الفكرية نهاية شهر ماي، بحضور غير مسبوق للفنانين والمبدعين والسياسيين والإعلاميين، وعرف عملية رمزية بإتلاف مليوني قرص مضغوط مقلّد. تميز الحدث بحضور العديد من الوزراء يتقدمهم الوزير الأول عبد المالك سلال. وكان من ضمن الحضور نخبة من الفنانين الذين صنعوا مجد الثقافة الجزائرية، مثل الشيخ الغافور، الشيخ رابح درياسة، الأديبة أحلام مستغانمي، الفنان إيدير، الفنان آيت منغلات، تاكفاريناس، حمدي بناني، الشاب خالد، الشاب مامي، الشاب بلال، محمد عجايمي، زكية قارة تركي وغيرهم من النجوم في مختلف مجالات الإبداع... كل هؤلاء جاؤوا ليعبّروا عن مساندتهم لمسعى الجزائر في محاربة الغش وقرصنة الملكية الفكرية. كما حضرت مديرة المنظمة العالمية للملكية الفكرية، وهي وكالة متخصّصة تابعة للأمم المتحدة، وكذا رئيس مجلس إدارة الكنفدرالية الدولية لمؤسسات المؤلفين CISAC التي تمثل 230 مؤسسة حماية الملكية الفكرية (من ضمنها ديوان حقوق المؤلف)، و120 دولة و5 ملايين مؤلف، في وقت نجد أن الثقافة تخلق 30 مليون منصب شغل في العالم، وأن رقم أعمالها العالمي أكبر من الدخل الخام لدولة مثل الهند. مثل هذا الحدث تعبيرا صريحا عن انخراط الجزائر في الحرب على «الإرهاب الرقمي»، من غش وقرصنة وتلاعب بحقوق المؤلف، وتكريسا لمحاربة السلوك غير الأخلاقي المتمثل في السطو على الملكية الفكرية وقرصنة الإبداع. كما شهدت هذه السنة محاولات عدّة من ديوان حقوق التأليف للاقتراب أكثر من الفنانين والمبدعين، ورفع عدد المنخرطين فيه، وتوزيع مستحقات الفنانين والمؤلفين المادية، واختتمت السنة بفتح مكتب جديد للديوان برياض الفتح. من الأمثلة على توزيع حقوق الفنانين، قام الديوان شهر جويلية الفارط، وعشية عيد الفطر المبارك، بدفع عائدات حقوق استنساخ التسجيلات السمعية والسمعية البصرية لسنة 2015، لفائدة أصحاب حقوق المؤلف وذوي حقوقهم، ويتعلق الأمر بمبلغ صافٍ مقدر ب 367 مليون دينار جزائري ( 36.7 مليار سنتيم) على 1382 مستفيد، من بينهم 128 مؤلف أجنبي. إلى جانب ذلك، جنت مصنفات الملك العام مبلغ صافي قدر 44 مليون دينار جزائري (4.4 مليار)، بحسب ما علمنا من المديرية العامة للديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة. هذه العملية الأولى للدفع، الخاصة فقط بحقوق الاستنساخ، أتبعتها عملية ثانية لتوزيع حقوق المصنفات التي كانت محل الاستغلال العمومي من طرف الإذاعة والتلفزيون وكذا الحقوق العامة المحصل عليها من العروض الفنية، حيث نجد أن أزيد من 4000 مؤلف وملحن معنيين بهذه العملية الثانية. كما أعلن الديوان عن شروعه في دفع تسويات حقوق لفائدة 800 فنان ويقدر المبلغ ب 110 مليون دينار جزائري (11 مليار). والمكافآت الممنوحة لأعضاء الديوان تمّ تحصيلها من الإتاوة المدفوعة من قبل المستعملين والمستغلين العموميين للمصنفات الأدبية والفنية. سنة محاولة التأقلم مع ترشيد النفقات لم يتوان وزير الثقافة هذه السنة عن التعبير في جميع المناسبات على السياسة الجديدة للوزارة، الملتزمة أكثر من أي وقت مضى بترشيد الإنفاق، وهو ما تجلت آثاره في العديد من المناسبات والتظاهرات والمهرجانات. جمعت سلسلة من اللقاءات بين الوزير ومسيري مختلف القطاعات التابعة لوزارة الثقافة، على غرار مديري الثقافة، المسارح، دور الثقافة والمكتبات. وكانت تعليمات الوزير مباشرة: ضرورة التقيّد بتسقيف المصاريف وترشيد النفقات التي اعتمدتها الوزارة، وكلّ من يخالف هذه التعليمات عاجز عن التسيير، ويجب إنهاء مهامّه. كما سيتم إعادة توزيع الكادر البشري للقطاع في ظلّ تعذّر التوظيف في الظرف الحالي. «الأفضل أن ننتج مسرحية واحدة في المستوى بدل هذا العدد الهائل من المسرحيات التي لا تبقى.. السبب هو أن صاحب المسرحية لا يبحث إلا على المقابل المادي».. بمعنى آخر، الابتعاد عن المسرحيات المكلفة، وهو ما ردّده في كلمته التي افتتح بها المهرجان الوطني للمسرح المحترف. كما أعلن الوزير الصائفة الماضية عن دمج عدد من المؤسسات الثقافية في بعضها البعض، وكان الدمج الأكثر إثارة للانتباه هو ذلك الذي طال الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافية وديوان رياض الفتح، دمج لم تتبين ملامحه إلى غاية الآن. ترشيد النفقات، أو «التقشف» كما يحلو للبعض تسميته، انعكس على خارطة المهرجانات الثقافية، التي تمّ الإبقاء على بعضها، ودمج بعضها الآخر، وتحويل عدد منها إلى مهرجانات كلّ سنتين، فيما ألغي منها ما ألغي. وعكس ما توقعه كثيرون، استطاعت بعض المهرجانات والتظاهرات الإبقاء على مستواها المعتاد، رغم تأثر ميزانيتها بدرجة ملحوظة. من هذه التظاهرات صالون الجزائر الدولي للكتاب، الذي خفضت ميزانيته بنسبة تقارب النصف، ولكنه استطاع مع ذلك الحفاظ على رقم الزوار الذي حققه السنة الفارطة. أما المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية، فقد كانت التظاهرة الدولية الأولى التي تحتضنها دار الأوبرا الجديدة، وامتلأت مقاعد القاعة خلال سهرات المهرجان، وبيعت التذاكر حتى قبل انطلاق التظاهرة، وهو تحدّ رفعه منظمو المهرجان فنجحوا فيه. المهرجان الوطني للمسرح المحترف رفع الرهان هو الآخر، بعد أن تأجل وتعالت الشائعات بإلغائه. بينما نجح منظمو الأيام الدولية للفيلم الملتزم في تنظيم التظاهرة بما تبقى من ميزانية الطبعة السابقة، أي بصفر دينار هذه السنة، ما عدا بعض المساهمات من مؤسسات وممثليات أجنبية، ورغم ذلك استقطبت التظاهرة أفلاما منها ما هو مرشح للأوسكار، ومنها ما سبق عرضها الأول بالجزائر العرض الأول في بلادها الأصلية. لكن التساؤل يبقى مطروحا بإلحاح حول المشهد الثقافي سنة 2017، في ظل ترشيد النفقات أو التقشف أو سمّه ما شئت: هل ستقدر المهرجانات والتظاهرات الثقافية على ربح معركة البقاء هذه؟