منذ أولى بوادر الأزمة دخلت البنوك في مرحلة «شدّ الحزام» كانت المنظومة البنكية ولا تزال في صميم الجدل القائم حول النمو على اعتبار أن السيولة المالية هي عصب الاستثمار. وسوف يتزايد دورها أكثر خلال السنة الجارية المتسمة بصعوبات تتطلّب التزام خطّ سير عقلاني وفقا لخيار ترشيد النفقات بما يقود حتما ألى تمويل المشاريع ذات الجدوى والتي تحّقق أهداف النمو من خلال استجابتها لمتطلبات السوق الداخلية والخارجية. إلى وقت قريب، وفي ظلّ الأريحية المالية التي تحقّقت بفضل عدة عوامل أبرزها الارتفاع الجيد لمداخيل المحروقات وإرادة الدولة في انجاز مسار التنمية الشاملة بإرساء برامج قوية غطّت كل القطاعات خاصة المنشآت القاعدة التي غيرت وجه البلاد، سجلت البنوك مؤشرات غير مسبوقة من حيث الودائع وتراكم السيولة وانحازت عمليات تمويل للاقتصاد مسّت كافة المؤسسات العمومية والخاصة حتى تلك المركبة بالشراكة. ومما كان يعب عليها أنها لا تواكب وتيرة الاستثمار كطرف فاعل في المشاريع المستفيدة من التمويل العمومي، لتبقى مجرد خزائن توفر السيولة، ومن ثمّة كان عليها أن تنخرط في ديناميكية التوظيف الجيد والمحسوب للموارد المالية ليس كمّمول فقط إنما كمساهم في المشاريع وطرف فاعل فيها، خاصة تلك التي تكتسي الطابع الاستراتيجي والمصنفة في خانة الاقتصاد المنتج خارج المحروقات. غير آنه منذ أولى بوادر الأزمة الناجمة عن الصدمة المالية الخارجية التي ترتبت عن انهيار أسعار المحروقات وتراجع مداخيل النفط، دخلت البنوك في مرحلة «شدّ الحزام» باعتبارها أول من يطلب منه ترشيد النفقات وبالتالي إحاطة كل إجراء لتمويل أو إقراض أو دفع بالضمانات المطلوبة والتدقيق في الملفات لمنع أي انزلاق قد يرهن القرار الاقتصادي. وفي هذا الإطار، سبق لبنك الجزائر (البنك المركزي سابقا) أن وجه قبل حوالي ثلاثة أشهر سلسلة من التعليمات والنصوص واللوائح التنظيمية تتعلّق بتمويل البنوك للاقتصاد (مؤسسات ومتعاملين مستثمرين) وكذا تنمية الموارد، خاصة في ظلّ المكاسب القوية التي حققتها عملية القرض السندي كأكبر انجاز للادخار الوطني في انتظار طرح خدمات أخرى تتلاءم مع طلبات لشريحة واسعة من الزبائن لديهم امتعاض من مسألة الفوائد المصنفة ربوية. ويندرج هذا التحرك، الذي وضع مسألة الفوائد البنكية تحت المجهر لارتفاع معدلاتها إلى مستويات فاضحة، في سياق تنشيط التزام البنوك بتمويل الاستثمار المنتج، ويعكس هذا مؤشرا ايجابيا يعزّز إرادة مواجهة أزمة السيولة وإدراك السلطات العمومية لأهمية الحفاظ على وتيرة الاستثمار باعتباره قاطرة النموذج الاقتصادي الجديد للنمو. ويتجه بنك الجزائر وفقا لورقة الطريق التي وضعها بعد إحداث التغيير الذي شمل محافظ البنك إلى فرض رقابة قانوني ذات فعالية أكثر على البنوك كافة وخاصة الأجنبية منها (عددها حوالي 14 بنكا) لمنع أي تلاعب أو تحويل غير قانوني للأموال. وتبعا لذلك، فإن البنوك الأجنبية أصبحت مطالبة وبإلحاح لتنخرط في ديناميكية تمويل العمليات الاستثمارية أكثر من تركيزها على تمويل عمليات التجارة الخارجية. فقد تحوّلت أغلب هذه المصارف في الحقيقة إلى مجرد بنوك لتوطين علميات التجارة الخارجية فتمتص منها عائدات عالية وغير مسبوقة. كما أن أغلب البنوك الأجنبية تركز على طرح خدمات ذات عوائد مباشرة وفي أجل قصير مثل فتح الحسابات والقروض الاستهلاكية قصيرة الأجل بفوائد عالية مستفيدة من النقائص المسجلة على مستوى البنوك العمومية، ولا تلعب دروها الأول في مرافقة المشاريع الاستثمارية في قطاعات واعدة مثل الصناعة والفلاحة التحويلية والسياحة وغيرها من الفروع التي تملك حظوة في السوق محليا وخارجيا. ومع ذلك، تبقى البنوك اليوم القاطرة التي تسحب معها الجهاز الاقتصادي بحيث لا تزال تملك القوة اللازمة لإنجاز التحوّل الاقتصادي بتوسيع انفتاحها على عالم المؤسسات والاستثمار المنتج وتمويل المشاريع المنتجة للثروة، خاصة في قطاعات تراهن عليها البلاد لإنجاز الأهداف الوطنية الكبرى للنمو، باعتماد آليات ومناهج حديثة تبدأ من الرفع من مستوى الأداء على كافة المستويات إلى التحكم في تقنيات تقييم ومتابعة ملفات القروض والتواجد في الميدان للتدقيق والوقوف على حقيقة صبّ تلك الموارد في مشاريعها. ولا يعقل أن يبقى البنك العمومي بالأساس بتلك الوظيفة التقليدية، إنما هو مطالب اليوم بأكثر مبادرة وانتشار في السوق الاستثمارية من خلال استقطاب المشاريع المربحة والقابلة للنجاح مع الحرص القوي على إتباع أثر القروض البنكية تفاديا لتحويلها عن الغرض الأصلي وحماية للموارد المالية من أي تلاعب، خاصة وأن عالم رجال الأعمال وأصحاب المؤسسات لا يزال يحتاج إلى تعميق عملية التطهير بمعايير الاحترافية حتى لا يبقى من يشكلون خطرا على المال العام في زمن أصبحت فيه السيولة عملة ثمينة. لذلك، فإنه ينبغي على المؤسسة الجزائرية وكذا المتعامل المستثمر أن يرفع من قوة الأداء باتجاه التصدير لضمان موارد وطنية تحمي البنوك الأمر الذي يتطلّب بروز قوة متعاملين من أصحاب الوطنية الاقتصادية بإدراكهم للتحديات الراهنة وضرورة المشاركة في التقليل من وطأة الصدمة المالية بدءا من الحرص على المال العام وإحاطة القروض البنكية الموجهة للاقتصاد بالترشيد.